الآيات 16 - 23
﴿أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَـماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَ ءَابَآؤُنَا الاَْوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَـوَيْلَنَا هَـذَا يَوْمُ الدِّينِ (20)هَـذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِى كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِن دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَطِ الْجَحِيمِ (23)﴾
التّفسير
هل نبعث من جديد؟
الآيات هذه تتابع سرد أقوال منكري المعاد، وتواصل الردّ عليها، فالآية الاُولى تعكس إستبعاد البعث من قبل منكريه، بهذا النصّ (ءإذا متنا وكنّا تراباً وعظاماً ءإنّا لمبعوثون)(1) (2).
وهل سيبعث آباؤنا الأوّلون أيضاً؟ (أو آباؤنا الأوّلون). فمن يستطيع جمع تلك العظام النخرة وأكوام التراب المتفرّقة المتبقيّة من الإنسان؟ ومن يتمكّن من إعادة الحياة إليها؟
فهؤلاء ذوي القلوب العمياء نسوا أنّهم كانوا تراباً في اليوم الأوّل، ومن التراب خلقوا، وإذ كانوا يشكّكون في قدرة الله، فعليهم أن يعرفوا أنّ الله كان قد أراهم قدرته، وإن كانوا يشكّكون بإستحالة التراب، فقد أثبت ذلك من قبل، وعلاوةً على هذا فإنّ خلق السماوات والأرض بكلّ هذه العظمة لا تترك أي مجال للشكّ عند أحد في قدرة الباري عزّوجلّ المطلقة.
ممّا يذكر أنّ منكري البعث صاغوا أقوالهم بشكل عبارات مؤكّدة (إذ أنّ جملة (أإنّا لمبعوثون) هي جملة اسمية إستخدمت فيها (إن) و (لام) والتي تأتي كلّ منهما للتأكيد) وذلك لجهلهم ولجاجتهم.
وممّا يلفت النظر أنّ كلمة (التراب) قدّمت على (العظام) وهذا الأمر يحتمل أنّه يشير إلى إحدى النقاط الثلاث الآتية:
أوّلا: إنّ الإنسان بعد وفاته يصير عظاماً في بداية الأمر، ثمّ يتحوّل إلى تراب، وبما أنّ إعادة التراب إلى الحياة يعدّ شيئاً عجيباً، لهذا قدّمت كلمة التراب.
ثانياً: عند إندثار أبدان الأموات، في البداية تتحوّل اللحوم إلى تراب وتبقى إلى جانب العظام، ولهذا فهناك تراب وعظام في آن واحد.
ثالثاً: التراب يشير إلى أجساد الأجداد الأوّلين، والعظام تشير إلى أبدان الآباء والتي لم تتحوّل بعد إلى تراب.
ثمّ يردّ القرآن على تساؤلاتهم بلهجة شديدة وعنيفة، عندما يقول للرسول الأكرم (ص): قل لهم: نعم أنتم وأجدادكم ستبعثون صاغرين مهانين أذلاّء، (قل نعم وأنتم داخرون)(3).
فهل تتصوّرون أنّ عملية إحيائكم والأوّلين تعدّ مستحيلة، أو هي عمل عسير على الله القادر والقوي؟ كلاّ، فانّ صرخة عظيمة واحدة ممّن كلّفهم الله سبحانه وتعالى بذلك كافية لبعث الحياة بمن في القبور، ونهوض الجميع فجأة من دون أيّ تمهيد أو تحضير من قبورهم ليشاهدوا بأعينهم ساحة المحشر التي كانوا بها يكذّبون (فإنّما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون).
(زجرة) مشتقّة من (زجر) وكما أشرنا إليها سابقاً، فإنّها تعني الطرد، وأحياناً تأتي بمعنى الصرخة، وهنا تفيد المعنى الثاني، وهي إشارة إلى النفخة والصيحة الثانية لإسرافيل، والتي سنتحدّث بشأنها في الآيات الأخيرة لسورة الزمر.
عبارة (ينظرون) تشير إلى نظر منكري البعث لساحة المحشر وهم مدهوشون، أو النظر بعنوان إنتظار العذاب، وفي كلا الحالتين فإنّ المقصود ليس- فقط- عودتهم إلى الحياة، وإنّما عودتهم إلى الشعور والنظر فور سماعهم الصيحة.
وتعبير (زجرة واحدة) مع الإلتفات إلى معنى الكلمتين، يشير إلى أنّ البعث يتمّ بسرعة وعلى حين غرّة، وإلى سهولته في مقابل قدرة الباري عزّوجلّ، إذ بصرخة واحدة (لملك البعث) المأمور بها تعود الحياة إلى حالتها الاُولى.
وهنا تتعالى صرخات المشركين المغرورين وتبيّن ضعفهم وعجزهم وعوزهم، ويقولون: الويل لنا فهذا يوم الدين (وقالوا ياويلنا هذا يوم الدين).
نعم، فعندما تقع أعينهم على محكمة العدل الإلهي وشهودها وقضاتها، وعلى علامات العقاب فإنّهم- من دون أن يشعروا- يصرخون ويبكون، ويعترفون بحقيقة البعث، الإعتراف الذي يعجز عن إنقاذهم من العذاب، أو تخفيف العقاب الذي ينتظرهم.
وهنا يوجّه إليهم الخطاب من الباري عزّوجلّ أو من ملائكته: نعم، اليوم هو يوم الفصل الذي كنتم به تكذّبون، يوم فصل الحقّ عن الباطل، وفصل المجرمين عن المتّقين، ويوم المحكمة الإلهيّة الكبرى (هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذّبون).
ومثل هذه العبارات وردت في آيات اُخرى من آيات القرآن الكريم، والتي تتناول يوم القيامة، وتعتبره يوم الفصل، وهي عبارات عجيبة ورهيبة؟!(4).
الملاحظ، هو أنّ الكافرين يوم القيامة يطلقون على هذا اليوم اسم يوم الجزاء (ياويلنا هذا يوم الدين).
فيما يطلق عليه الباري عزّوجلّ في كتابه الحكيم اسم يوم الفصل (هذا يوم الفصل).
إنّ الإختلاف بين التعبيرين يمكن أن يكون لهذا السبب، وهو أنّ المجرمين لا يفكّرون إلاّ بالجزاء والعقاب الذي سينالهم، ولكن الله سبحانه وتعالى يشير إلى معنى أوسع من الجزاء الذي يعدّ أحد أبعاد ذلك اليوم، إذ يعتبر ذلك اليوم هو يوم الفصل، نعم يوم فصل صفوف المجرمين عن المتّقين، كما جاء في الآية (59) من سورة يس (وامتازوا اليوم أيّها المجرمون) فالأمر في ذلك اليوم موجّه إلى المجرمين أن انفصلوا عن المؤمنين، فهنا ليست دار الدنيا التي تجمع بين المجرمين والمتّقين.
وكم يكون هذا المشهد رهيباً عندما يشاهدون أقاربهم وأبناءهم ينفصلون عنهم لإيمانهم بالله، ويتّجهون نحو جنان الخلد.
وعلاوةً على أنّ ذلك اليوم هو يوم فصل الحقّ عن الباطل، فيجب أن تتبيّن كلّ الخطوط المتضادّة والبرامج الحقيقيّة والكاذبة التي كانت مختلطة في عالم الدنيا في مكانها الخاصّ بها.
على أيّة حال، إنّ ذلك اليوم- أي يوم الفصل- يعني أيضاً يوم المحاكمة، ففي ذلك اليوم يقضي الله العالِم العادِل بين عباده ويصدر أحكاماً دقيقة بحقّهم، وهنا يخزى المشركون.
إذن، فطبيعة الدنيا هي إختلاط الحقّ بالباطل، في حين أنّ طبيعة البعث هو فصل الحقّ عن الباطل، ولهذا السبب فإنّ أحد أسماء يوم القيامة في القرآن المجيد (يوم الفصل) والذي كرّر عدّة مرّات، اليوم الذي تظهر فيه كافّة الخفايا والأسرار، ولا يمكن تجنّب عملية فصل الصفوف.
ثمّ يصدر الباري عزّوجلّ أوامره إلى ملائكته المكلّفين بإرسال المجرمين إلى جهنّم أن (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون).
نعم احشروهم وما كانوا يعبدون (من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم).
(احشروا) مشتقّة من (حشر) ويقول الراغب في مفرداته: إنّها تعني إخراج الجماعة عن مقرّهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها.
وهذه الكلمة تأتي بمعنى "تجميع" في الكثير من الحالات.
على كلّ حال، فالخطاب هنا إمّا أن يكون من جانب الله عزّوجلّ، أو من طائفة من الملائكة إلى طائفة اُخرى مكلّفة بسوق المجرمين إلى الجحيم والنتيجة واحدة.
(أزواج) هنا إمّا أن تشير إلى زوجات المجرمين والمشركين، أو إلى من يعتقد إعتقادهم ويعمل عملهم ومن هو على شاكلتهم، لأنّ هذه الكلمة تشمل المعنيين، حيث نقرأ في سورة الواقعة الآية (السابعة) (وكنتم أزواجاً ثلاثة).
وبهذا يحشر المشركون مع المشركين والأشرار، وذوو القلوب العمياء مع نظائرهم، ثمّ يساقون إلى جهنّم.
أو أنّ المقصود من الأزواج هم الشياطين الذين كانوا يشابهونهم في الشكل والعمل.
المهمّ، هو عدم وجود أي إختلاف بين هذه المعاني الثلاثة، ومن الممكن أن تجتمع في مفهوم الآية.
جملة (ما كانوا يعبدون) تشير إلى آلهة المشركين، كالأصنام والشياطين والطغاة المتجبّرين والفراعنة والنماردة، وعبّرت عنها بـ (ما كانوا يعبدون) لكون أغلب تلك الآلهة موجودات عديمة الحياة وغير عاقلة، وقد إصطلح عليها بهذا التعبير لأنّه يعطي طابع التغليب.
(الجحيم) تعني جهنّم، وهي من مادّة (جحمة) على وزن (ضربة) وتعني شدّة تأجيج النار.
والملاحظ في الآية إستخدامها عبارة (فاهدوهم إلى صراط الجحيم) حقّاً كم هذه العبارة عجيبة؟ ففي أحد الأيّام اُرشدوا إلى الصراط المستقيم ولكنّهم لم يقبلوه، واليوم يجب أن يهدوا إلى صراط الجحيم، وهم مجبرون على القبول به، وهذا توبيخ عنيف لهم يجعلهم يتحرّقون ألماً في أعماقهم.
1- تفسير روح المعاني، المجلّد 23، الصفحة 77.
2- هذه الآية هي بحالة جملة شرطية وشرطها (أإذا متنا) بينما جزاءها محذوف وجملة (أإنّا لمبعوثون) قرينة عليها، لأنّ نفس هذه الجملة ـ طبقاً للقواعد الأدبية ـ لا يمكن أن تكون جزاءً.
3- (داخر) من مادّة (دخر) على وزن فخر (دخور)، وكلتاهما تعطي معنى الذلّة والحقارة. الآية أعلاه فيها جملة تقديرية هي جوابها، والبقيّة شيء إضافي عليها كي يكتسب القول قاطعية أكثر، فالتقدير سيكون هكذا (نعم إنّكم مبعوثون حال كونكم داخرين).
4- الدخّان، الآية 40; المرسلات، الآيات 13، 14، 38; النبأ الآية، 17.