الآيات 11 - 15
﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَـهُم مِّن طِين لاَّزِب (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لاَ يَذْكُرُونَ(13) وَإِذَا رَأَوْا ءَايَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (15)﴾
التّفسير
الذين لا يقبلون الحقّ أبداً:
هذه الآيات تعالج قضيّة منكري البعث، وتتابع البحث السابق بشأن قدرة الباري عزّوجلّ خالق السموات والأرض، وتبدأ بالإستفسار منهم وتقول: اسألهم هل أنّ معادهم وخلقهم مرّة ثانية أصعب أو خلق الملائكة والسماوات والأرض: (فإستفتهم أهم أشدّ خلقاً أم من خلقنا).
نعم، فنحن خلقناهم من مادّة تافهة، من طين لزج: (إنّا خلقناهم من طين لازب).
فالمشركون الذين ينكرون المعاد، قالوا بعد سماعهم الآيات السابقة بشأن خلق السموات والأرض والملائكة. إنّ خلق الإنسان أصعب من خلق السموات والأرض والملائكة. إلاّ أنّ القرآن الكريم أجابهم بالقول: إنّ خلق الإنسان مقابل خلق الأرض والسماء والملائكة الموجودة في هذه العوالم، يعدّ لا شيء، لأنّ أصل الإنسان يعود إلى حفنة من التراب اللزج.
"إستفتهم" من مادّة "استفتاء" وتعني الحصول على معلومات جديدة.
وهذا التعبير إشارة إلى أنّ المشركين لو كانوا صادقين في أنّ خلقهم أهمّ وأصعب من خلق السماوات والملائكة، فإنّهم قد جاؤوا بموضوع جديد لم يطرح مثله من قبل.
"لازب" يقول البعض: إنّ أصلها كان (لازم)، حيث إستبدلت (الميم) (باءً) وحالياً تستعمل بهذه الصورة، على أيّة حال فهي تعني الطين المتلازم بعضه ببعض، يعني الملتصق لأنّ أصل الإنسان كان من التراب الذي خلط بالماء، وبعد فترة أضحى طيناً متجمّعاً ذا رائحة نتنة، ثمّ تحول إلى طين متماسك (وهذه الصورة هي جمع لحالات متعدّدة مذكورة في عدّة آيات في القرآن المجيد).
ثمّ يضيف القرآن الكريم: (بل عجبت ويسخرون).
نعم أنت تتعجّب لإنكارهم بالمعاد، لأنّك بقلبك الطاهر ترى المسألة واضحة جدّاً، وأمّا أصحاب القلوب السوداء فيعدونها مستحيلة إلى حدّ أنّهم يستهزئون بها وينكرونها.
وما يكمن وراء تلك التصرفات القبيحة ليس هو الجهل- فقط- وعدم المعرفة، بل إنّها اللجاجة والعناد، إذ أنّهم كلّما ذكروا بدلائل المعاد والعقوبات الإلهيّة لا يتذكّرون (وإذا ذكروا لا يذكرون).
والأنكى من ذلك، أنّهم كلّما شاهدوا معجزة من معجزاتك، لا يكتفون بالإستهزاء، وإنّما يدعون الآخرين للإستهزاء أيضاً (وإذا رأوا آية يستسخرون).
(وقالوا إنّ هذا إلاّ سحر مبين).
قولهم "هذا" المقصود منه تحقير المعجزات والآيات الإلهية والإنتقاص منها، وإطلاقهم كلمة "سحر" على تلك المعجزات لكونها من جهة أعمالا خارقة للعادة، ولا يمكن نكرانها. ومن جهة اُخرى فإنّهم لم يكونوا راغبين للإستسلام لتلك المعاجز، وكلمة السحر كانت الكلمة الوحيدة التي تعكس خبثهم وترضي أهواءهم النفسية، وتوضّح في نفس الوقت إعترافهم بالتأثير الكبير للقرآن ولمعجزات النّبي الأكرم محمّد (ص).
ملاحظتان
1- يعتقد بعض المفسّرين أنّ عبارة "يستسخرون" تعني "يسخرون"، ولا يوجد أي فرق بين العبارتين. في حين يؤكّد البعض الآخر على وجود إختلاف بين المعنيين، بقولهم: إنّ "يستسخرون" جاءت من باب إستفعال، وتعني دعوة الآخرين إلى المشاركة في الإستهزاء، وتشير إلى أنّهم لم يكتفوا لوحدهم بالإستهزاء بآيات القرآن المجيد، وإنّما سعوا لإشراك الآخرين في ذلك، كي تصير المسألة عامّة في المجتمع.
والبعض يعتبر هذا الإختلاف توكيد أكثر يستفاد من عبارة (يستسخرون).
فيما فسّر البعض الآخر هذه العبارة بأنّها "الإعتقاد بكون الشيء مثيراً للسخرية"، ويعني أنّهم نتيجة إنحرافهم الشديد كانوا في قرارة أنفسهم يعتقدون- تماماً- أنّ هذه المعجزات ليست أكثر من سخرية، ولكن المعنى الثاني يعدّ أكثر مناسباً من غيره.
2- عزا بعض المفسّرين سبب نزول هذه الآية إلى قضيّة مفادها أنّ "ركانة" رجل من المشركين من أهل مكّة، لقيه الرّسول الأكرم (ص) في جبل خال يرعى غنماً له، وكان من أقوى الناس، فقال له: ياركانة أرأيت إنّ صرعتك أتؤمن بي؟
قال: نعم. فصرعه ثلاثاً، ثمّ عرض عليه بعض الآيات ودعا عليه الصلاة والسلام شجرة فأقبلت، فلم يؤمن وجاء إلى مكّة فقال: "يابني هاشم ساحروا بصاحبكم أهل الأرض". فنزلت فيه وفي أضرابه هذه الآية.