الآيات 6 - 10

﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَة الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَـن مَّارِد (7) لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الاَْعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِب (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)﴾

التّفسير

حفظ السماء من تسلّل الشياطين!

الآيات السابقة تحدّثت عن طوائف الملائكة المكلّفة بتنفيذ المهام الجسام، والآيات التالية- موضوع البحث- ستتحدّث عن الطائفة المقابلة لها، أي الشياطين وعن مصيرهم. ويمكن أن تكون هذه الآيات مقدّمة لدحض معتقدات مجموعة من المشركين الذين يعبدون الشياطين والجنّ، وتتضمّن كذلك درساً في التوحيد بين طيّاتها.

تبدأ الآية بالقول: (إنّا زيّنا السماء الدنيا بزينة الكواكب)(1) فلو رفع أحدنا ببصره نحو السماء في إحدى الليالي المظلمة، لتجسّم في بصره منظر جميل يسحر الإنسان.

وكأنّ الكواكب تتحدّث معنا بلسانها الصامت، لتكشف لنا أعن أسرار الخلق، وأحياناً تكون شاعرة تنشد لنا أجمل القصائد الغزلية والعرفانية، وإغماضها وتواريها، ومن ثمّ إبراقها ولمعانها، يوضّح أسرار العلاقة الموجودة بين العاشق والمعشوق.

حقّاً إنّ منظر النجوم في السماء رائع الجمال، ولا تملّ أيّ عين من طول النظر إليه، بل إنّ النظر إليه يزيل التعب والهمّ من داخل الإنسان. (ممّا يذكر أنّ أبناء المدن في العصر الحاضر التي يغطّيها دخّان المصانع، لا يستمتعون بمشاهدة السماء وهي مرصّعة بالكواكب كما يشاهدها الإنسان القروي حيث يدركون هذه المقولة القرآنية- أي تزيين السماء بالكواكب- بصورة أفضل).

ومن الجدير بالإهتمام قول الآية: (إنّا زيّنا السماء الدنيا بزينة الكواكب) في حين كانت الفرضيات الشائعة في ذلك الوقت في أذهان العلماء والمفكّرين هي أنّ السماء العليا هي التي تضمّ الكواكب (السماء الثامنة طبقاً لفرضيات بطليموس).

وكما هو معروف فإنّ العلم الحديث دحض تلك الفرضيات. وعدم اتّباع القرآن لما جاء في تلك الفرضيات النادرة والمشهورة في ذلك الزمان معجزة حيّة لهذا الكتاب السماوي.

والنقطة الاُخرى التي تلفت النظر هي أنّ إرتعاش نور الكواكب الجميل وغمزها للناظر يعود- من وجهة نظر العلم الحديث- إلى وجود القشرة الهوائية حول الأرض، وهذا المعنى يتلاءم مع ما نصّت عليه الآية الكريمة (السماء الدنيا).

أمّا في خارج جو الأرض فإنّ النجوم تبدو نقاط منيرة على وتيرة واحدة وليس لها ذلك التلألؤ، على عكس ما يشاهد داخل جوّ الأرض.

أمّا الآية (وحفظاً من كلّ شيطان مارد)(2) فإنّها تشير إلى حفظ السماء من تسلّل الشياطين إليها.

كلمة (مارد) مشتقّة من (مرد) التي تعني الأرض المرتفعة الخالية من الزرع، كما يقال للشجرة التي تساقطت أوراقها كلمة (أمرد) وتطلق على الفتى الذي لا شعر في وجهه. وهنا المقصود من كلمة (مارد) هو الشخص الخبيث العاري من الخير.

حفظ السماء من تسلّل الشياطين يتمّ بواسطة نوع من أنواع النجوم يطلق عليها اسم (الشهب)، وسيشار إليها في الآيات القادمة.

ثمّ يضيف القرآن الكريم: إنّ الشياطين لا تتمكّن من سماع حديث ملائكة الملأ الأعلى ومعرفة أسرار الغيب التي عندهم، فكلّما حاولوا عمل شيء ما لسماع الحديث، رشقوا بالشهب من كلّ جانب (لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كلّ جانب).

نعم إنّهم يطردون من السماء بشدّة، وقد أعدّ لهم عذاب دائم، كما جاء في قوله تعالى: (دحوراً ولهم عذاب واصب).

(لا يسمعون) بمعنى (لا يستمعون) ويفهم منها أنّ الشياطين يحاولون معرفة أخبار "الملأ الأعلى" إلاّ أنّه لا يسمح لهم بذلك.

(الملأ الأعلى)، تعني ملائكة السماوات العلى، لأنّ كلمة (ملأ) تطلق في الأصل على الجماعة التي لها وجهة نظر واحدة، وتعدّ في نظر الآخرين مجموعة متّحدة ومنسجمة، كما تطلق هذه الكلمة على الأشراف والأعيان والدائرين في فلك مراكز القوى، لأنّهم يعدّون في نظر الآخرين متّحدين أيضاً، ولكن عندما يوصف الملأ بـ (الأعلى) فذلك إشارة إلى الملائكة الكرام ذوي المقام الأرفع والأسمى.

"يقذفون" مشتقّة من (قذف) وتعني رمي الشيء إلى مكان بعيد، والمقصود هنا طرد الشياطين بواسطة الشهب، التي سنتطرّق لها فيما بعد، وهذا يوضّح أنّ الباري عزّوجلّ لا يسمح للشياطين بالإقتراب من الملأ الأعلى.

"دحوراً" مشتقة من (دحر)- على وزن (دهر)- وتعني طرد الشيء ودفعه، أمّا كلمة (واصب) فإنّها تعني المرض المزمن، وبصورة عامّة تعني الدائم والمستمر، وفي بعض الأحيان تعني (الخالص)(3).

وهنا إشارة إلى أنّ الشياطين لا يطردون ولا يمنعون من الإقتراب من السماء فحسب، بل سيصيبهم في النهاية- مع ذلك- عذاب دائم.

وأشارت الآية أيضاً إلى طائفة من الشياطين الشريرة التي تحاول الصعود إلى السماء العليا لإستراق السمع، وإلى المصير الذي ينتظرها هناك، كما جاء في الآية الشريفة (إلاّ من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب).

"الخطفة" أي اختلاس الشيء بسرعة.

و "الشهاب" شيء مضيء متولّد من النار، ويرى نوره في السماء على شكل خطّ ممتدّ.

وكما هو معروف فإنّ الشهب ليست نجوماً، وإنّما تشبه النجوم، وهي عبارة عن قطع صغيرة من الحجر متناثرة في الفضاء، عندما تدخل في مجال جاذبية الأرض، تنجذب نحوها، ونتيجة دخولها بسرعة إلى جوّ الأرض وإحتكاكها الشديد مع الهواء المحيط بالكرة الأرضية فإنّها تشتعل وتحترق.

وكلمة "ثاقب" تعني النافذ والخارق، وكأنّه يخترق العين بنوره الشديد ويثقبها، وهذه إشارة إلى أنّ الشهاب يثقب كلّ شيء يصيبه ويحرقه.

وبهذا يكون هناك مانعان يحوّلان دون نفوذ الشياطين إلى السماء العليا:

الأوّل، هو رشق الشياطين من كلّ جانب وطردهم، والذي يتمّ على الظاهر بواسطة الشهب.

والثاني، هو رشقهم بواسطة أنواع خاصّة من الشهب يطلق عليها اسم الشهاب الثاقب، الذي يكون بإنتظار كلّ شيطان يحاول التسلّل إلى الملأ الأعلى لاستراق السمع، وهذا المعنى نجده أيضاً في الآيتين (17) و (18) من سورة الحجر (وحفظناها من كلّ شيطان رجيم إلاّ من استرق السمع فاتبعه شهاب مبين).

وفي الآية الخامسة من سورة الملك (ولقد زيّنا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين).

ولكن هل يجب الإلتزام بظواهر هذه الآيات؟ أم أنّ هناك قرائن تجبرنا على تفسيرها بخلاف الظاهر، كاستخدام الأمثال والتشبيه والكناية؟

هناك وجهات نظر مختلفة بين المفسّرين، فالبعض منهم التزم بظاهر الآيات وبنفس المعاني التي استعرضت في بداية الأمر، وقالوا: هناك طوائف من الملائكة تسكن السماء القريبة والبعيدة تعرف أخبار الحوادث التي ستقع في العالم الأرضي قبل وقوعها، لذا تحاول مجموعة من الشياطين الصعود إلى السماء لاستراق السمع ومعرفة بعض الأخبار، لكي تنقلها إلى عملائها في الأرض أي الذين يرتبطون بها ويعيشون بين الناس، ولكن ما أن يحاولون الصعود يرشقون بالشهب التي تتّصف بأنّها كالنجوم المتحرّكة، فتجبرهم على التراجع، أو تصيبهم فتهلكهم.

ويقولون: من الممكن أن لا نفهم بصورة دقيقة ما تعنيه هذه الآيات في الوقت الحاضر، إلاّ أنّنا مكلّفون بحفظ ظواهرها، وترك تفاصيلها للمستقبل.

وقد إختار هذا التّفسير العلاّمة "الطبرسي" في (مجمع البيان) و "الآلوسي" في (روح المعاني) و "سيّد قطب" في (الظلال)، إضافة إلى عدد آخر من المفسّرين.

في حين يرى البعض الآخر أنّ الآيات المذكورة إنّما هي من قبيل الأمثال المضروبة تصوّر بها الحقائق الخارجة عن الحسّ في صورة المحسوس لتقريبها من الحسّ، وهو القائل عزّوجلّ: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلاّ العالمون).(4)

وأضافوا: إنّ المراد من السماء التي تسكنها الملائكة، عالم ملكوتي ذو اُفق أعلى من عالمنا المحسوس، والمراد باقتراب الشياطين من السماء وإستراقهم السمع وقذفهم بالشهب، هو أنّ هذه الشياطين كلّما حاولت الإقتراب من عالم الملائكة للإطلاع على أسرار الخليقة والحوادث المستقبلية، طردت من هناك بواسطة نور الملكوت الذي لا يطيقونه، ورمتهم الملائكة بالحقّ الذي يبطل أباطيلهم.

وإيراده تعالى قصّة إستراق الشياطين للسمع ورميهم بالشهب، عقيب الإقسام بملائكة الوحي وحفظهم إيّاه عن مداخلة الشياطين لا يخلو من تأييد لما ذكرناه(5).

ويحتمل أيضاً أنّ السماء هنا هي كناية عن سماء الإيمان والمعنويات التي يحاول الشياطين النفوذ إليها، إضافةً إلى الإنسلال إلى قلوب المؤمنين عن طريق الوساوس التي يبثّونها في قلوبهم، إلاّ أنّ الأنبياء والصالحين والأئمّة المعصومين من أهل البيت والسائرين على خطّهم الفكري والعملي يهاجمون الشياطين بالشهاب الثاقب الذي يمتلكونه، ألا وهو العلم والتقوى، ويمنعون الشياطين من الإقتراب من هذه السماء.

التّفسير المذكور أوردناه هناك كإحتمال، وذكرنا بعض الدلائل والشواهد عليه في نهاية الآية (18) من سورة الحجرات.

هذه ثلاثة تفسيرات مختلفة للآيات مورد البحث والآيات المشابهة لها.


1- "الكواكب" هنا بدل من الزينة، ويحتمل كونها عطف بيان، والزينة هنا اسم مصدر وليست مصدراً، حيث جاء في الكتب الأدبية أينما وجدت نكرة بدل عن المعرفة فيجب مرافقتها بوصف، وفي حالة العكس فإنّ الأمر غير واجب.

2- (حفظاً) على حدّ قول الكثير من المفسّرين مفعول مطلق لفعل محذوف والتقدير هو: وحفظناها حفظاً. والبعض إحتمل أنّها معطوفة على (بزينة) التي هي (مفعول له)، وتقديرها (إنّا خلقنا الكواكب زينةً للسماء وحفظاً).

3- لقد تمّ بحث كلمة "واصب" أيضاً في نهاية الآية (52) من سورة النحل.

4- العنكبوت، 43.

5- تلخيص من تفسير الميزان، المجلّد السابع عشر، الصفحة (125).