الآيات 63 - 68

﴿هَـذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَـهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَـعُوا مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ (67) وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِى الْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ (68)﴾

التّفسير

يوم تسكت الألسن وتشهد الأعضاء!!

تعرّضت الآيات السابقة، إلى قسم من التوبيخات والتقريعات الإلهيّة وإلى مخاطبته سبحانه المجرمين في يوم القيامة.

هذه الآيات تواصل البحث حول الموضوع نفسه أيضاً.

نعم، ففي ذلك اليوم وحينما تظهر جهنّم للمجرمين الكافرين يذكّرهم الله بوعده، والآية تشير إلى ذلك فتقول: (هذه جهنّم التي كنتم توعدون).

فقد بُعث إليكم الأنبياء واحداً بعد واحد، وحذّروكم من مثل هذا اليوم ومن مثل هذه النار، ولكنّكم لم تأخذوا أقوالهم إلاّ على محمل السخرية والإستهزاء (اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون)(1).

ثمّ يشير تعالى إلى شهود يوم القيامة... الشهود الذين هم جزء من جسد الإنسان، حيث لا مجال لإنكار شهادتهم، فيقول تعالى: (اليوم نختم على أفواههم وتكلّمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون).

نعم ففي ذلك اليوم لا تكون أعضاء الإنسان طوع إرادته وميوله، فهي بأجمعها تتخلّى عن إمتثال أمره وتستسلم لأمر الله سبحانه، ويالها من محكمة عجيبة تلك المحكمة التي شهودها نفس أعضاء الإنسان. تلك الأعضاء التي كانت الوسائل لإرتكاب المعاصي والذنوب.

ويحتمل أن تكون شهادة الأعضاء، بسبب أنّ المجرمين حينما يرون بأنّهم سيصلون جهنّم جزاء أعمالهم، يميلون إلى إنكار ما ارتكبوا ظنّاً منهم أنّه يمكن الإفلات بإخفاء الحقائق والإنكار، إلاّ أنّ الأعضاء تبدأ هنا بالشهادة، الأمر الذي يثير عجب اُولئك المجرمين ووحشتهم ويغلق عليهم جميع طرق الفرار والخلاص.

أمّا عن كيفية نطق تلك الأعضاء، فثمّة تفسيرات وإحتمالات عديدة:

1- انّ الله سبحانه وتعالى يجعل في كلّ واحد من تلك الأعضاء القدرة على التكلّم والشعور، وهي تقوم بنقل الحقيقة بصدق، وما هو العجب في ذلك؟ فمن جعل في قطعة من اللحم المسمّاة (لسان) أو (مخ الإنسان) القدرة على النطق، يستطيع أن يجعل هذه القدرة في سائر أعضاء البدن أيضاً.

2- أنّ تلك الأعضاء لا تُعطى الإدراك والشعور، ولكن الله سبحانه وتعالى ينطقها، وفي الحقيقة فإنّ تلك الأعضاء ستكون محلا لظهور الكلام، وإنكشاف الحقائق بإذن الله.

3- أنّ أعضاء البدن الإنساني تحتفظ بآثار الأعمال التي قامت بها في الدنيا، إذ أنّ أي عمل في هذه الدنيا لا يفنى، بل إنّ آثاره ستبقى على كلّ عضو من البدن، وفي الفضاء المحيط بها، وفي ذلك اليوم الذي هو يوم الظهور والتجلّي، ستظهر هذه الآثار على اليد والقدم وسائر الأعضاء، وظهور تلك الآثار هو منزلة الشهادة. وهذا تماماً كما يرد في لغتنا المعاصرة حينما نقول: (عينك تشهد على سهرك)، أو (الجدران تبكي صاحب الدار).

وعلى كلّ حال، فإنّ من المسلّمات شهادة الأعضاء في يوم القيامة، ولكن هل أنّ كلّ عضو يكشف عن فعله فحسب، أو يكشف عن كلّ الأعمال؟ فلا شكّ أنّ الإحتمال الأوّل هو الأنسب، لذا فإنّ الآيات القرآنية الكريمة الاُخرى تذكر شهادة الاُذن والعين والجلد، كما في الآية (20) من سورة فصلت حين يقول تعالى: (حتّى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون) أو ما ورد في الآية (24) من سورة النور من قوله تعالى: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون).

والجدير بالملاحظة أنّه تعالى في سورة النور يقول: (تشهد عليهم ألسنتهم)وفي الآية مورد البحث يقول: (اليوم نختم على أفواههم)، ومن الممكن أن يكون ما يحصل هناك هو أن يختم على فم المجرم أوّلا لتشهد أعضاؤه، وبعد أن يرى بنفسه شهادة أعضائه، يفتح لسانه، ولأنّه لا مجال للإنكار فإنّ لسانه أيضاً يقرّ بالحقيقة.

وكذلك يحتمل أن يكون المقصود من كلام اللسان هو الكلام الداخلي الذي ينبعث منه كما في سائر الأعضاء، وليس نطقه العادي.

آخر ما نريد قوله بخصوص موضوع تكلّم الأعضاء هو أنّ ذلك خاص بالمجرمين، وإلاّ فالمؤمنون حسابهم واضح، لذا ورد في الحديث عن الباقر (ع).

(ليست تشهد الجوارح على مؤمن، إنّما تشهد على من حقّت عليه كلمة العذاب، فأمّا المؤمن فيعطى كتابه بيمينه، قال الله عزّوجلّ: (فمن اُوتي كتابه بيمينه فاُولئك يقرؤن كتابهم ولا يظلمون فتيلا)(2).

الآية التالية تشير إلى أحد ألوان العذاب التي يمكن أن يبتلي الله تعالى بها المجرمين في هذه الدنيا، تقول الآية الكريمة: (ولو نشاء لطمسنا على أعينهم)(3).

وفي تلك الحالة التي يبلغ فيها الرعب الذروة عندهم: (فاستبقوا الصراط فأنّى يبصرون). فهم عاجزون حتّى عن العثور على الطريق إلى بيوتهم، ناهيك عن العثور على طريق الحقّ وسلوك الصراط المستقيم!

وعقوبة مؤلمة اُخرى لهم: انّنا لو أردنا لمسخناهم في مكانهم على شكل تماثيل حجرية فاقدة للروح والحركة، أو على أشكال الحيوانات بحيث لا يستطيعون التقدّم إلى الأمام، ولا الرجوع إلى الخلف: (لو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيّاً ولا يرجعون)(4).

(فاستبقوا الصراط) يمكن أن تكون بمعنى التسابق فيما بينهم للعثور على الطريق الذي يذهبون منه عادةً، أو بمعنى الإنحراف عن الطريق وعدم العثور عليه، على ضوء ما قاله بعض أرباب اللغة من أن (فاستبقوا الصراط) بمعنى (جاوزوه وتركوه حتّى ضلّوا)(5).

وعلى كلّ حال، فطبقاً للتفسير الذي قبل به أغلب المفسّرين الإسلاميين، فإنّ الآيتين أعلاه، تتحدّثان عن عذاب الدنيا، وعن تهديد الكفّار والمجرمين بأنّ الله

سبحانه وتعالى قادر على تعريضهم لمثل هذا العذاب في الدنيا، ولكن للطفه ورحمته فإنّه يمتنع عن ذلك، فقد ينتبه هؤلاء المعاندين ويرجعوا عن غيّهم إلى طريق الحقّ.

ولكن يوجد إحتمال آخر أيضاً، وهو أنّ الآيات تشير إلى العقوبات الإلهيّة في يوم القيامة لا في الدنيا، وفي الحقيقة فهو تعالى بعد أن أشار إلى "الختم على أفواههم" في الآية السابقة، يشير هنا إلى نوعين آخرين من العقوبات التي لو شاء لأجراها عليهم:

الأوّل: الطمس على عيونهم بحيث لا يمكنهم رؤية "الصراط" أي طريق الجنّة.

الثاني: أنّ هؤلاء الأفراد بعد أن كانوا فاقدين للحركة في طريق السعادة فإنّهم يتحوّلون إلى تماثيل ميتة في ذلك اليوم ويظلّون حيارى في مشهد المحشر، وليس لهم طريق للتقدّم أو للتراجع، إنّ تناسب الآيات- طبعاً- يؤيّد هذا التّفسير الأخير، وإن كان أكثر المفسّرين قد اتّفقوا على قبول التّفسير السابق(6).

الآية الأخيرة من هذه المجموعة تشير إلى وضع الإنسان في آخر عمره من حيث الضعف والعجز العقلي والجسمي، لتكون إنذاراً لهم وليختاروا طريق الهداية عاجلا، ولتكون جواباً على الذين يلقون بمسؤولية تقصيرهم على قصر أعمارهم، وكذلك لتكون دليلا على قدرة الله سبحانه وتعالى، فالقادر على أن يعيد ذلك الإنسان القوي إلى ضعف وعجز الوليد الصغير .. قادر على مسألة المعاد بالضرورة، وعلى الطمس على عيون المجرمين ومنعهم عن الحركة، كذلك تقول الآية الكريمة: (ومن نعمّره ننكّسه في الخلق أفلا يعقلون).

"ننكّسه" من مادّة "تنكيس" وهو قلب الشيء على رأسه. وهي هنا كناية عن الرجوع الكامل للإنسان إلى حالات الطفولة. فالإنسان منذ بدء خلقته ضعيف، ويتكامل تدريجيّاً ويرشد، وفي أطواره الجنينية يشهد في كلّ يوم طوراً جديداً ورشداً جديداً، وبعد الولادة- أيضاً- يستمرّ في مسيره التكاملي جسمياً وروحياً وبسرعة، وتبدأ القوى والإستعدادات التي أخفاها الله في أعماق وجوده بالظهور تدريجيّاً الواحدة تلو الاُخرى، في طور الشباب، ثمّ طور النضج، ليبلغ الإنسان أوج تكامله الجسمي والروحي.

وهنا تنفصل الروح عن الجسد في تكاملها ونموّها، فتستمر في تكاملها في حال أنّ الجسد يشرع بالنكوص، ولكن العقل في النهاية يبدأ هو الآخر بالتراجع أيضاً، فيعود تدريجيّاً- وأحياناً بسرعة- إلى مراحل الطفولة، ويتساوق ذلك مع الضعف البدني أيضاً، مع الفارق طبعاً، فالآثار التي تتركها حركات وروحيات الأطفال على النفس هي الراحة والجمال والأمل ولهذا فهي مقبولة منهم، ولكنّها من أهل الشيخوخة، قبيحة ومنفّرة، وفي بعض الأحيان قد تثير الشفقة والترحّم، فالشيخوخة أيّام عصيبة حقّاً، يصعب تصوّر عمق آلامها.

في الآية (الخامسة) سورة الحجّ أشار القرآن المجيد إلى هذا المعنى، قائلا: (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً). لذا فقد ورد في بعض الروايات أنّ من جاوز السبعين حيّاً فهو "أسير الله في الأرض"(7).

وعلى كلّ حال فإنّ جملة (أفلا يعقلون) تشعّ تنبيهاً عجيباً بهذا الخصوص، وتقول للبشر: إنّ هذه القدرة والقوّة التي عندكم لو لم تكن على سبيل "العارية" لما أخذت منكم بهذه البساطة. اعلموا أنّ فوقكم يد قدرة اُخرى قادرة على كلّ شيء، فقبل أن تصلوا إلى تلك المرحلة خلّصوا أنفسكم، وقبل أن يتبدّل هذا النشاط والجمال إلى موت وذبول.

اجمعوا الورد من هذا الروض، وتزوّدوا بالزاد من هذه الدنيا لطريق الآخرة البعيد، لأنّه لم يمكنكم أداء أي عمل ذي قيمة في وقت الشيب والضعف والمرض. ولذا فإنّ من ضمن ما أوصى به النّبي (ص) أبا ذرّ أنّه قال: "اغتنم خمساً: قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك"(8).


1- «أصلوها» من (صلا) أصل الصَّلي إيقاد النار، ويقال صَلِيَ بالنار وبكذا، أي بُلي بها واصطلى بها.

2- تفسير الصافي، مجلّد 4، صفحة 25.

3- "طمسنا" من طمس ـ على وزن شمس ـ بمعنى إزالة الأثر بالمحو، هذه الإشارة إلى إزالة ضوء العين أو صورتها بشكل كلّي بحيث لا يبقى منها أثر.

4- "مكانتهم" بمعنى محل التوقّف، وهي إشارة إلى أنّ الله سبحانه وتعالى قادر على أن يخرجهم عن اْنسانيتهم في محل توقّفهم، يغيّر أشكالهم، ويفقدهم القدرة على الحركة، تماماً كالتمثال الخالي من الروح.

5- لسان العرب ـ قطر المحيط ـ المنجد "مادّة سبق".

6- ذكر صاحب تفسير "في ظلال القرآن" هذا التّفسير على انّه الوحيد، في حين انّ التّفسير السابق إختاره كلّ من تفسير: مجمع البيان ـ التبيان ـ الميزان ـ الصافي ـ روح المعاني ـ روح البيان ـ القرطبي ـ التّفسير الكبير.

7- ورد هذا الحديث في سفينة البحار مادّة (عمر).

8- بحار الأنوار، مجلّد 77، صفحة 75، حديث ـ 3.