الآيات 54 - 58
﴿فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(54)إِنَّ أَصْحَـبَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِى شُغُل فَـكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَجُهُمْ فِى ظِلَـل عَلَى الاَْرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَـكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ(57) سَلَـمٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيم (58)﴾
التّفسير
أصحاب الجنّة فاكهون!
هنا يبدأ البحث حول كيفية الحساب في المحشر، ثمّ ينتقل في الختام إلى تفصيل وضع المؤمنين الصلحاء والكفّار الطالحين، فتقول الآية الكريمة الاُولى: (فاليوم لا تظلم نفس شيئاً).
فلا ينقص من أجر وثواب أحد شيئاً، ولا يزاد على عقوبة أحد شيئاً، ولن يكون هنالك أدنى ظلم أو إضطهاد لأحد حتّى بمقدار رأس الإبرة.
ثمّ تنتقل الآية لتوضّح تلك الحقيقة وتعطي دليلا حيّاً عليها فتقول: (ولا تجزون إلاّ ما كنتم تعملون).
إنّ ظاهر الآية- ومن دون تقدير مضمر- يهدف إلى القول بأنّ جزاءكم جميعاً هو نفس أعمالكم، فأي عدالة أفضل وأعلى من هذه العدالة؟!
وبعبارة اُخرى: فإنّ الأعمال الحسنة والسيّئة التي قمتم بها في هذه الدنيا سترافقكم في ذلك العالم أيضاً، ونفس تلك الأعمال ستتجسّد هناك وترافقكم في جميع مراحل الآخرة، في المحشر وبعد نهاية الحساب.
فهل أنّ تسليم حاصل عمل إنسان إليه أمر مخالف للعدالة؟
وهل أنّ تجسيد الأعمال وقرنها بعاملها ظلم؟
ومن هنا يتّضح أن لا معنى للظلم أساساً في مشهد يوم القيامة، وإذا كان يحدث في الدنيا بين البشر أن تتحقّق العدالة حيناً ويقع الظلم أحياناً كثيرة، فذلك لعدم إمكان ربط الأعمال بفاعليها.
جمع من المفسّرين تصوروا أنّ الجملة الأخيرة أعلاه تتحدّث عن الكفّار والمسيئين الذين سيرون عقاباً على قدر أعمالهم، دون أن تشمل المؤمنين، بلحاظ أنّ الله سبحانه وتعالى قد جزاهم وأثابهم بأضعاف ما يعادل أعمالهم.
ولكن بملاحظة ما يلي ينحلّ هذا الإشتباه، وهو أنّ الحديث هنا هو حديث عن العدالة في الثواب والعقاب وأخذ الجزاء حسب الإستحقاق، وهذا لا ينافي أنّ الله سبحانه وتعالى يريد أن يزيد المؤمنين من فضله، فهذه مسألة (تفضل) وتلك مسألة (إستحقاق).
ثمّ تنتقل الآيات لتتعرّض إلى جانب من مثوبة المؤمنين العظيمة، وقبل كلّ شيء تشير إلى مسألة الطمأنينة وراحة البال فتقول: (إنّ أصحاب الجنّة اليوم في شغل فاكهون).
(شغل):- على وزن سرر- و (شغل)- على وزن لطف- : كليهما بمعنى العارض الذي يذهل الإنسان ويصرفه عن سواه، سواء كان ممّا يبعث على المسرّة أو الحزن، ولكن لإلحاقه كلمة (فاكهون) التي هي جمع (فاكه) وهو المسرور الفرح الضاحك، يمكن إستنتاج أنّ المعنى إشارة إلى الإنسان المشغول بنفسه والمنصرف تماماً عن التفكير في أي قلق أو ترقّب، والغارق في السرور والسعادة والنشاط بشكل لا يترك أي مجال للغمّ والحسرة أن تعكّر عليه صفوه، وحتّى أنّه ينسى تماماً هول قيام القيامة والحضور في محكمة العدل الإلهية، تلك المواقف التي لولا نسيانها فإنّها حتماً ستلقي بظلالها الثقيلة من الغمّ والقلق على القلب، وبناءً على ذلك فإنّ أحد الآثار المترتبة على إنشغال الذهن بالنعمة هو نسيان أهوال المحشر(1).
وبعد التعرّض إلى نعمة الطمأنينة وراحة البال التي هي أساس جميع النعم الاُخرى وشرط الإستفادة من جميع المواهب والنعم الإلهية الاُخرى، ينتقل إلى ذكر بقيّة النعم فيقول تعالى: (هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون)(2).
(أزواج) تشير إلى الزوجة التي يعطيها الله في الجنّة، أو الزوجة المؤمنة التي كانت معه في الدنيا.
وأمّا ما احتمله البعض من أنّها بمعنى (النظائر) كما في الآية- 22 سورة الصافات (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) الآية فيبدو بعيداً.
خصوصاً أنّ (أرائك) جمع (أريكة) وهي الحجلة على السرير. كما يقول أرباب اللغة(3).
التعبير بـ (ظلال) إشارة إلى أنّ أشجار الجنّة تظلّل الأسرة والتخوت التي يجلس عليها المؤمنون في الجنّة، أو إشارة إلى ظلال قصورهم، وكلّ ذلك يدلّل على وجود الشمس هناك، ولكنّها ليست شمساً مؤذية، نعم فإنّ لهم في ذلك الظلّ الملائم لأشجار الجنّة سروراً ونشاطاً عظيمين.
إضافةً إلى ذلك فإنّ (لهم فيها فاكهة ولهم ما يدّعون).
يستفاد من آيات القرآن الاُخرى أنّ غذاء أهل الجنّة ليس الفاكهة فقط، ولكن تعبير الآية يدلّل على أنّ الفاكهة- وهي فاكهة مخصوصة تختلف كثيراً عن فاكهة الدنيا- هي أعلى غذاء لهم، كما أنّ الفاكهة في الدنيا- كما يقول المتخصّصون- أفضل وأعلى غذاء للإنسان.
(يدعون) أي يطلبون، والمعنى أنّ كلّ ما يطلبونه ويتمنّونه يحصلون عليه، فما يتمّنوه من شيء يحصل ويتحقّق على الفور.
يقول العلاّمة (الطبرسي) في مجمع البيان: العرب يستخدمون هذا التعبير في حالة التمنّي، فيقول: (ادع عليّ ما شئت) أي تمنّ عليّ ما شئت... وعليه فإنّ كلّ ما يخطر على بال الإنسان وما لا يخطر من المواهب والنعم الإلهية موجود هناك معدّ ومهيّأ، والله عنده حسن الثواب.
وأهمّ من كلّ ذلك، المواهب المعنوية التي أشارت إليها آخر آية بقولها: (سلام قولا من ربٍّ رحيم)(4).
هذا النداء الذي تخفّ له الروح، فيملؤها بالنشاط، هذا النداء المملوء بمحبّة الله، يجعل الروح الإنسانية تتسلّق الأفراح نشوى بالمعنويات التي لا يرقى إليها وصف ولا تعادلها أيّة نعمة اُخرى. نعم فسماع نداء المحبوب، النداء الندي بالمحبّة، المعطّر باللطف، يغمر سكّان الجنّة بالحبور ... الحبور الذي تعادل اللحظة منه جميع ما في الدنيا، بل ويفيض عليه.
ففي رواية عن النّبي (ص) أنّه قال: (بينا أهل الجنّة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الربّ قد أشرف من فوقهم فقال: السلام عليكم ياأهل الجنّة، وذلك قول الله تعالى: (سلام قولا من ربٍّ رحيم) قال فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتّى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم)(5).
نعم فإنّ جذبة مشاهدة المحبوب، ورؤية لطفه، تبعث اللذّة والشوق في النفس بحيث أنّ لحظة واحدة من تلك المشاهدة العظيمة لا يمكن مقارنتها بأيّة نعمة، بل بالعالم أجمع، وعشّاق رؤيته والنظر إليه هائمون في ذلك إلى درجة أنّه لو قطعت عنهم تلك الإفاضة المعنوية فإنّهم يحسّون بالحسرة والألم، وكما ورد في حديث لأمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام (لو حجبت عنه ساعة لمتّ)(6).
الملفت للنظر أنّ ظاهر الآية يشير إلى أنّ سلام الله الذي ينثره على المؤمنين في الجنّة، هو سلام مستقيم بلا واسطة، سلام منه تعالى، وأي سلام ذلك الذي يمثّل رحمته الخاصّة! أي أنّه ينبعث من مقام رحيميته وجميع ألطافه وكراماته مجموعة فيه، ويا لها من نعمة عظيمة!!
ملاحظة
أنواع (السلام) المنثور على أهل الجنّة
الجنّة هي (دار السلام) كما ورد في الآية (25) من سورة يونس حيث نقرأ: (والله يدعو إلى دار السلام).
وأهل الجنّة الذين يسكنون هناك، يقابلون بسلام الملائكة حينما يدخلون عليهم الجنّة (والملائكة يدخلون عليهم من كلّ باب، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار).(7)
ويناديهم ساكنو الأعراف ويسلّمون عليهم (ونادوا أصحاب الجنّة أن سلاماً عليكم).(8) وعندما يدخلون الجنّة يقابلون بسلام وتحيّة الملائكة.
وحينما تقبض الأرواح يتلقّى المؤمن هذا السلام من ملائكة الموت: (الذين تتوفّاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنّة بما كنتم تعملون).(9)
ويسلّم بعضهم على بعض (تحيتهم فيها سلام).(10)
وأخيراً، أسمى وأعظم سلام هو سلام الله عزّوجلّ (سلام قولا من ربّ رحيم).
الخلاصة: (لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلاّ قيلا سلاماً سلاماً).(11)
والسلام ليس لفظاً فحسب، بل سلام يؤدّي إلى خلق الهدوء والسلامة، وينفذ في أعماق الروح الإنسانية ويغمرها بالهدوء والسلام.
1- يرى «الراغب» في مفرداته بأنّ «فاكهة» تطلق على كلّ أنواع الثمار والفواكه، و «فاكه» الحديث الذي يأنس به الإنسان وينشغل به عن غيره. ويرى «ابن منظور» في لسان العرب أنّ «فكاه» بمعنى المزاح، و «فاكه» يطلق على الإنسان المرح.
2- هناك إحتمالات عديدة في إعراب الجملة، وأفضلها أنّ «هم» مبتدأ، و «متكئون» خبر، و «على الأرائك» متعلّق به، و «في ظلال» متعلّق به أيضاً أو متعلّق بمحذوف.
3- لسان العرب ـ مفردات الراغب ـ مجمع البيان ـ القرطبي ـ روح المعاني ـ وتفاسير اُخرى.
4- إختلف حول إعراب «قولا» وأنسب ما ذكر هو إعتبارها (مفعول مطلق) لفعل محذوف تقديره «يقول قولا».
5- تفسير روح المعاني، مجلّد 23، صفحة 35.
6- روح البيان، مجلّد 7، صفحة 416.
7- الرعد، 24.
8- الأعراف، 46.
9- النحل، 32.
10- إبراهيم، 23.
11- الواقعة، 26.