الآيات 48 - 53
﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ (48) مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الاَْجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ (51) قَالُوا يَـوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَـنُ وَصَدَقُ الْمُرْسَلُونَ (52) إن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)﴾
التّفسير
صيحة النشور!
بعد ذكر المنطق الأجوف والذرائع التي تشبّث بها الكفّار في مسألة الإنفاق في الآيات السابقة، تتعرّض هذه الآيات إلى الحديث عن إستهزائهم بالقيامة، لتنسف بجواب قاطع منطقهم الفارغ حول إنكار المعاد.
مضافاً إلى أنّها تكمل بحوث التوحيد التي مرّت في الآيات السابقة بالبحث حول المعاد.
تقول الآية الكريمة الاُولى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين). فإذا لم تستطيعوا تشخيص زمان دقيق لقيام الساعة، فمعنى هذا أنّكم لستم صادقين في حديثكم.
الآية التالية ترد على هذا التساؤل المقرون بالسخرية بجواب قاطع حازم، وتخبرهم بأنّ قيام الساعة ليس بالأمر المعقّد أو المشكل بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى: (ما ينظرون إلاّ صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصّمون).
فكلّ ما يقع هو صيحة سماوية كافية لأن تقبض فيها أرواح جميع المتبقّين من الناس على سطح الأرض بلحظة واحدة وهم على حالهم، وتنتهي هذه الحياة المليئة بالصخب والدعاوى والمعارك والحروب، ليتخلّف وراءها صمت مطبق، وتخلو الأرض من أي صوت أو إزعاج.
وفي حديث عن الرّسول الأكرم (ص) أنّه قال: "تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه فما يطويانه حتّى تقوم، والرجل يرفع أكلته إلى فيه فما تصل إلى فيه حتّى تقوم، والرجل يليط حوضه ليسقي ماشيته فما يسقيها حتّى تقوم"(1).
جملة "ما ينظرون" هنا بمعنى "ما ينتظرون"، فكما يقول (الراغب) في مفرداته "النظر تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته، وقد يراد به التأمّل والفحص، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص، وهو الرويّة، والنظر الإنتظار".
"صيحة" صاح: رفع الصوت، وأصله تشقيق الصوت من قولهم انصاح الخشب أو الثوب إذا انشقّ فسمع منه صوت، وصيح الثوب كذلك، ويقال: بأرض فلان شجر قد صاح، إذا طال فتبيّن للناظر لطوله، ودلّ على نفسه بصوته.
"يخصّمون" من مادّة "خصم" بمعنى النزاع.
أمّا فيم كانوا يختصمون؟ لم تذكر الآية ذلك، ولكن من الواضح أنّ المقصود هو التخاصم على أمر الدنيا والاُمور المعيشية الاُخرى، ولكن البعض يرى: إنّه تخاصم في أمر "المعاد"، والمعنى الأوّل أنسب على ما يبدو، وإن كان إعتبار شمول الآية لكلا المعنيين، وأي نوع من النزاع والخصومة ليس ببعيد.
ومن الجدير بالملاحظة أنّ الضمائر المتعدّدة في الآية جميعها تعود على مشركي مكّة الذين كانوا يشكّكون في أمر المعاد، ويستهزئون بذلك بقولهم: متى تقوم الساعة؟
ولكن المسلّم به أنّ الآية لا تقصد أشخاص هؤلاء، بل نوعهم "نوع البشر الغافلين عن أمر المعاد" لأنّهم ماتوا ولم يسمعوا تلك الصيحة السماوية أبداً "تأمّل بدقّة"!!
على كلّ حال، فإنّ القرآن بهذا التعبير القصير والحازم إنّما أراد تنبيههم إلى أنّ القيامة ستأتي وبشكل غير متوقّع، وهذا أوّلا. وأمّا ثانياً فإنّ قيام الساعة ليس بالموضوع المعقّد بحيث يختصمون ويتنازعون فيه، فبمجرّد صيحة واحدة ينتهي كلّ شيء وتنتهي الدنيا بأسرها.
لذا فهو تعالى يضيف في الآية التالية قائلا: (فلا يستطيعون توصيةً ولا إلى أهلهم يرجعون).
في العادة فإنّ الإنسان حينما تلم به حادثة ويحسّ بعدها بقرب أجله، يحاول جاهداً أن يوصل نفسه إلى أهله ومنزله ويستقرّ بين عياله، ثمّ يقوم بإنجاز بعض الاُمور المعلّقة، ويعهد بأبنائه أو متعلّقيه إلى من يثق به عن طريق الوصيّة أو غير ذلك. ويوصي بإنجاز بعض الاُمور الاُخرى.
ولكن هل تترك الصيحة السماوية فرصة لأحد؟ ولو سنحت الفرصة فرضاً فهل بقي أحد حيّاً ليستمع الوصيّة؟ أو يجتمع الأولاد مع اُمّهم على سرير الأب- مثلا- ويحتضنونه ويحتضنهم لكي يسلم الروح بطمأنينة؟ لا أبداً، فلا إمكان لأي من هذه الاُمور.
وما نلاحظه من تنكير التوصية في التعبير القرآني هنا إنّما هو إشارة إلى أنّ الفرصة لا تسنح حتّى لوصية صغيرة أيضاً.
ثمّ تشير الآيات إلى مرحلة اُخرى، مرحلة الحياة بعد الموت. فتقول: (ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربّهم ينسلون).
التراب والعظام الرميم تلبس الحياة من جديد، وتنتفض من القبر بشراً سويّاً، ليحضر المحاكمة والحساب في تلك المحكمة العظيمة المهولة، وكما أنّهم ماتوا جميعاً بصيحة واحدة، فبنفخة واحدة يبعثون أحياء من جديد، فلا هلاكهم يشكّل عقبة أمام قدرة الله سبحانه وتعالى، ولا حياتهم كذلك، تماماً كما هو الحال في جمع الجنود في الجيوش، بنفخة بوق واحدة ينهضون جميعاً من فرشهم ويخرجون من خيمهم، ويقفون في صفّ واحد، وإحياء الموتى وبعثهم بالنسبة إلى الله سبحانه بهذه البساطة والسرعة.
(أجداث) جمع (جدث) وهو القبر، والتعبير يشير بوضوح إلى أنّ للمعاد جنبة جسمانية بالإضافة إلى الجنبة الروحية، وأنّ الجسد يعاد بناؤه جديداً من نفس المواد السابقة.
واستخدم صيغة الماضي في الفعل (نفخ) إشارة إلى عدم وجود أدنى شكّ في وقوع مثل هذا الأمر، وكأنّه لثباته وحتميته قد وقع فعلا.
(ينسلون) من مادّة (نسل) والنسل الإنفصال عن الشيء- كما يقول الراغب في المفردات ويضيف- يقال: نسل الوبر عن البعير والقميص عن الإنسان، و .. ومنه نسل إذا عدا، والنسل الولد لكونه ناسلا عن أبيه.
وقوله تعالى: (ربّهم) كأنّها تلميح إلى أنّ ربوبية ومالكية وتربية الله كلّها توجب أن يكون هناك حساب وكتاب ومعاد.
وعلى كلّ حال، فإنّه يستفاد من الآيات القرآنية أنّ نهاية هذا العالم وبداية العالم الآخر يكون كلاهما على شكل حركة عنيفة وغير متوقّعة، وسوف نتعرّض إلى تفصيل هذا الموضوع في تفسير الآية (68) من سورة الزمر إن شاء الله.
تضيف الآية التالية: (قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا، هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون).
نعم فإنّ المشهد مهول ومذهل إلى درجة أنّ الإنسان ينسى جميع الخرافات والأباطيل ولا يتمكّن إلاّ من الإعتراف الواضح الصريح بالحقائق، الآية تصوّر القبور (بالمراقد) والنهوض من القبور (بالبعث) كما ورد في الحديث المعروف (كما تنامون تموتون وكما تستيقظون تبعثون).
ففي البدء يستغربون إنبعاثهم ويتساءلون عمّن بعثهم من مرقدهم؟ ولكنّهم يلتفتون بسرعة ويتذكّرون بأنّ أنبياء الله الصادقين، وعدوهم بمثل هذا اليوم، فيجيبون أنفسهم قائلين: (هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون) ولكن وا أسفاه إنّنا كنّا نستهزىء بكلّ ذلك!!
وعليه فإنّ هذه الجملة هي بقيّة حديث هؤلاء المتكبّرين الكفرة بالمعاد والبعث، ولكن البعض ذهب إلى أنّ حديث الملائكة أو المؤمنين، وذلك على ما يبدو خلاف ظاهر الآية، ولا داعي ولا ضرورة له، لأنّ إعتراف الكفّار والمنكرين للمعاد في ذلك اليوم لا ينحصر بهذه الآية، ففي الآية (97) من سورة الأنبياء (واقترب الوعد الحقّ فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ياويلنا قد كنّا في غفلة من هذا بل كنّا ظالمين).
وعلى كلّ حال، فإنّ التعبير بـ (مرقد)(2) يوضّح أنّهم في عالم البرزخ كانوا بحالة شبيهة بالنوم العميق، وكما ذكرنا في تفسير الآية (100) من سورة (المؤمنون)، فإنّ البرزخ بالنسبة إلى أكثر الناس الذين هم على الوسط من الإيمان أو الكفر هو حالة شبيهة بالنوم، وفي حال المؤمنين أصحاب المقامات الرفيعة، أو الكفّار الموغلين في الكفر والجحود فإنّ البرزخ بالنسبة إليهم عالم واضح المعالم، وهم فيه أيقاظ يهنأون في النعيم أو يصطرخون في العذاب.
احتمل بعضهم أيضاً أنّ هول ودهشة القيامة شديدان إلى درجة أنّ العذاب في البرزخ يكون شبه النوم بالنسبة إلى ما يرونه في القيامة.
ثمّ تقول الآية لبيان سرعة النفخة: (إن كانت إلاّ صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون).
وعليه فإحياء الموتى وبعثهم من القبور وإحضارهم في محكمة العدل الإلهي لا يحتاج إلى مزيد وقت، كما كان الأمر عند هلاكهم، فالصيحة الاُولى للموت، والصيحة الثانية للحياة والحضور في محكمة العدل الإلهي.
وإستخدام تعبير (الصيحة) والتأكيد عليها بـ (واحدة) وكذلك التعبير بـ (إذا) في مثل هذه الموارد، إنّما هو للإشارة إلى وقوع غير المتوقّع، والتعبير بـ (هم جميع لدينا محضرون) بصيغة الجملة الإسمية دليل على الوقوع السريع لهذا المقطع من القيامة.
واللهجة الحازمة لهذه الآيات تترك أعمق الأثر في القلوب، وكأنّ هذه الصيحة تقول: ياأيّها الناس النائمون، أيّتها الأتربة المتناثرة، أيّتها العظام المهترئة! انهضوا .. انهضوا واستعدّوا للحساب والجزاء ... فما أجمل الآيات القرآنية، وما أروع إنذاراتها المعبّرة!!
1- مجمع البيان، ج4، ص427. وذكرت هذه الرواية بتفاوت قليل في تفسير "القرطبي" و "روح المعاني" وغيرهما.
.
2- يأتي تارةً بمعنى اسم مكان، واُخرى اسم للنوم، أي مصدر ميمي.
.