الآيات 20 - 30

﴿وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَـقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ (21)وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَـنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّى شَفَـعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ (23) إِنِّى إِذاً لَّفِى ضَلَـل مُّبِين (24) إِنِّى ءَامَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَـلَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُند مِّنَ السَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلينَ(28) إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَـمِدُونَ (29)يَـحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُول إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (30)﴾

التّفسير

المجاهدون الذين حملوا أرواحهم على الأكف!

تشير هذه الآيات إلى جانب آخر من جهاد الرسل الذي وردت الإشارة إليه في هذه القصّة. والإشارة تتعلّق بالدفاع المدروس للمؤمنين القلائل وبشجاعتهم في قبال الأكثرية الكافرة المشركة .. وكيف وقفوا حتّى الرمق الأخير متصدّين للدفاع عن الرسل.

تشرع هذه الآيات بالقول: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال ياقوم اتّبعوا المرسلين).

هذا الرجل الذي يذكر أغلب المفسّرين أنّ اسمه "حبيب النجّار" هو من الأشخاص الذين قُيّض لهم الإستماع إلى هؤلاء الرسل والإيمان وأدركوا بحقّانية دعوتهم ودقّة تعليماتهم، وكان مؤمناً ثابت القدم في إيمانه، وحينما بلغه بأنّ مركز المدينة مضطرب ويحتمل أن يقوم الناس بقتل هؤلاء الأنبياء، أسرع- كما يستشفّ من كلمة يسعى- وأوصل نفسه إلى مركز المدينة ودافع عن الحقّ بما إستطاع. بل إنّه لم يدّخر وسعاً في ذلك.

التعبير بـ "رجل" بصورة النكرة يحتمل انّه إشارة إلى أنّه كان فرداً عادياً، ليس له قدرة أو إمكانية متميّزة في المجتمع، وسلك طريقه فرداً وحيداً. وكيف أنّه في نفس الوقت دخل المعركة بين الكفر والإيمان مدافعاً عن الحقّ، لكي يأخذ المؤمنين في عصر الرّسول الأكرم (ص) درساً بأنّهم وإن كانوا قلّة في عصر صدر الإسلام، إلاّ أنّ المسؤولية تبقى على عواتقهم، وأنّ السكوت غير جائز حتّى للفرد الواحد.

التعبير بـ "أقصى المدينة" يدلّل على أنّ دعوة هؤلاء الأنبياء وصلت إلى النقاط البعيدة من المدينة، وأثّرت على القلوب المهيّأة للإيمان، ناهيك عن أنّ أطراف المدن عادةً تكون مراكز للمستضعفين المستعدين أكثر من غيرهم لقبول

الحقّ والتصديق به، على عكس ساكني مراكز المدن الذين يعيشون حياة مرفّهة تجعل من الصعب قبولهم لدعوة الحقّ.

التعبير بـ "ياقوم" يوضّح حرقة هذا الرجل وتألمّه على أهل مدينته، ودعوته إيّاهم إلى اتّباع الرسل، تلك الدعوة التي لم تكن لتحقّق له أي نفع شخصي.

والآن لننظر إلى هذا الرجل المجاهد، بأي منطق وبأي دليل خاطب أهل مدينته؟

فقد أشار أوّلا إلى هذه القضيّة (اتّبعوا من لا يسألكم أجراً). فتلك القضيّة بحدّ ذاتها الدليل الأوّل على صدق هؤلاء الرسل، فهم لا يكسبون من دعوتهم تلك أيّة منفعة ماديّة شخصية، ولا يريدون منكم مالا ولا جاهاً ولا مقاماً، وحتّى أنّهم لا يريدون منكم أن تشكروهم. والخلاصة: لا يريدون منكم أجراً ولا أي شيء آخر.

وهذا ما أكّدت عليه الآيات القرآنية مراراً فيما يخصّ الأنبياء العظام، كدليل على إخلاصهم وصفاء قلوبهم، وفي سورة الشعراء وحدها تكرّرت هذه الجملة خمس مرّات (وما أسألكم عليه من أجر)(1).

ثمّ يضيف: إنّ هؤلاء الرسل كما يظهر من محتوى دعوتهم وكلامهم انّهم أشخاص مهتدون: (وهم مهتدون) إشارة إلى أنّ عدم الإستجابة لدعوة ما إنّما يكون لأحد سببين: إمّا لأنّ تلك الدعوة باطلة وتؤدّي إلى الضلال والضياع، أو لأنّها حقّ ولكن الدعاة لها يكتسبون من تلك الدعوة منافع شخصية لهم ممّا يؤدّي إلى تشويه النظرة إلى تلك الدعوة، ولكن حينما لا يكون هذا ولا ذاك فما معنى التردّد والتباطىء عن الإستجابة.

ثمّ ينتقل إلى ذكر دليل آخر على التوحيد الذي يعتبر عماد دعوة هؤلاء الرسل، فيقول: (وما لي لا أعبد الذي فطرني).

فإنّ من هو أهل لأن يعبد هو الخالق والمالك والوهّاب، وليس الأصنام التي لا تُضرّ ولا تنفع، الفطرة السليمة تقول: يجب أن تعبدوا الخالق لا تلك المخلوقات التافهة.

والتأكيد على "فطرني" لعلّه إشارة إلى هذا المعنى أيضاً وهو: إنّني حينما أرجع إلى الفطرة الأصيلة في نفسي اُلاحظ بوضوح أنّ هناك صوتاً يدعوني إلى عبادة خالقي، دعوة تنسجم مع العقل، فكيف أغضّ الطرف إذاً عن دعوة تؤيّدها فطرتي وعقلي؟!

والملفت للنظر أنّه لا يقول: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم؟ بل يقول: (وما لي لا أعبد الذي فطرني) لكي يكون بشروعه بالحديث عن نفسه أكثر تأثيراً في النفوس وبعد ذلك ينبّه إلى أنّ المرجع والمآل إلى الله سبحانه فيقول: (وإليه ترجعون).

أي: لا تتصوّروا أنّ الله له الأثر والفاعلية في حياتكم الدنيا فقط، بل إنّ مصيركم في العالم الآخر إليه أيضاً، فتوجّهوا إلى من يملك مصيركم في الدارين.

وفي ثالث إستدلال له ينتقل إلى الحديث عن الأصنام وإثبات العبودية لله بنفي العبودية للأصنام، فيكمل قائلا: (أأتّخذ من دونه آلهةً إن يُردن الرحمن بضرٍّ لا تغن عنّي شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون).

هنا أيضاً يتحدّث عن نفسه حتّى لا يظهر من حديثه أنّه يقصد الإمرة والإستعلاء عليهم، وفي الحقيقة هو يحدّد الذريعة الأساس لعبدة الأوثان حينما يقولون: نحن نعبد الأصنام لكي تكون شفيعاً لنا أمام الله، فكأنّه يقول: أيّة شفاعة؟ وأي معونة ونجاة تريدون منها؟ فهي بذاتها محتاجة إلى مساعدتكم وحمايتكم، فماذا يمكنها أن تفعل لكم في الشدائد والملمّات؟

التعبير بـ "الرحمن" هنا علاوة على أنّه إشارة إلى سعة رحمة الله وأنّه سبب لكلّ النعم والمواهب، وذلك بحدّ ذاته دليل على توحيد العبادة، فإنّه يوضّح أنّ الله الرحمن لا يريد أحداً بضرٍّ، إلاّ إذا أوصلت الإنسان مخالفاته إلى أن يخرج من رحمة الله ويلقي بنفسه في وادي غضبه.

ثمّ يقول ذلك المؤمن المجاهد للتأكيد والتوضيح أكثر: إنّي حين أعبد هذه الأصنام وأجعلها شريكاً لله فإنّي سأكون في ضلال بعيد: (إنّي إذاً لفي ضلال مبين)فأي ضلال أوضح من أن يجعل الإنسان العاقل تلك الموجودات الجامدة جنباً إلى جنب خالق السموات والأرض!!

وعندما انتهى هذا المؤمن المجاهد المبارز من إستعراض تلك الإستدلالات والتبليغات المؤثّرة أعلن لجميع الحاضرين (إنّي آمنت بربّكم فاسمعون).

أمّا من هو المخاطب في هذه الجملة (فاسمعون) والجملة السابقة لها (إنّي آمنت بربّكم)؟

ظاهر الآيات السابقة يشير إلى أنّهم تلك المجموعة من المشركين وعبدة الأوثان الذي كانوا في تلك المدينة، والتعبير بـ "ربّكم" لا ينافي هذا المعنى أيضاً، إذ أنّ هذا التعبير ورد في الكثير من آيات القرآن الكريم التي تتحدّث عن الكفّار حينما تستعرض الإستدلالات التوحيدية(2).

وجملة "فاسمعون" لا تنافي ما قلنا، لأنّ هذه الجملة كانت دعوة لهم لاتّباع قوله، بالضبط كما ورد في قصّة مؤمن آل فرعون حيث قال: (ياقوم اتّبعون أهدكم سبيل الرشاد) غافر- 38.

ومن هنا يتّضح أنّ ما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ المخاطب في هذه الجملة هم اُولئك الرسل، والتعبير بـ "ربّكم" وجملة "فاسمعون" قرينة على ذلك- لا يقوم عليه دليل سليم.

لكن لننظر ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم إزاء ذلك المؤمن الطاهر؟

القرآن لا يصرّح بشيء حول ذلك، ولكن يستفاد من طريقة الآيات التالية بأنّهم ثاروا عليه وقتلوه.

نعم فإنّ حديثه المثير والباعث على الحماس والمليء بالإستدلالات القوّية الدامغة، واللفتات الخاصّة والنافذة إلى القلب، ليس لم يكن لها الأثر الإيجابي في تلك القلوب السوداء المليئة بالمكر والغرور فحسب، بل إنّها على العكس أثارت فيها الحقد والبغضاء وسعرت فيها نار العداوة، بحيث أنّهم نهضوا إلى ذلك الرجل الشجاع وقتلوه بمنتهى القسوة والغلظة. وقيل انّهم رموه بالحجارة، وهو يقول: اللهمّ اهدِ قومي، حتّى قتلوه(3).

وفي رواية اُخرى أنّهم وطؤوه بأرجلهم حتّى مات(4).

ولقد أوضح القرآن الكريم هذه الحقيقة بعبارة جميلة مختصرة هي (قيل ادخل الجنّة) وهذا التعبير ورد في خصوص شهداء طريق الحقّ في آيات اُخرى من القرآن الكريم (ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربّهم يرزقون).(5)

والجدير بالذكر والملاحظة أنّ هذا التعبير يدلّل على أنّ دخوله الجنّة كان مقترناً باستشهاده شهادة هذا الرجل المؤمن، بحيث أنّ الفاصلة بين الإثنين قليلة إلى درجة أنّ القرآن المجيد بتعبيره اللطيف ذكر دخوله الجنّة بدلا عن شهادته، فما أقرب طريق الشهداء إلى السعادة الدائمة!!

وواضح أنّ المقصود من الجنّة هنا، هي (جنّة البرزخ) لأنّه يستفاد من الآيات ومن الرّوايات أنّ الجنّة الخالدة في يوم القيامة ستكون نصيب المؤمنين، كما أنّ جهنّم ستكون نصيب المجرمين.

وعليه فإنّ هناك جنّة وجهنّم اُخريين في عالم البرزخ، وهما نموذج من جنّة وجهنّم يوم القيامة، فقد ورد عن أمير المؤمنين علي عليه أفضل الصلاة والسلام أنّه قال: "والقبر روضة من رياض الجنّة، أو حفرة من حفر النار"(6).

وما احتمله البعض من أنّ هذه الجملة إشارة إلى خطاب يخاطب به هذا المؤمن الشهم في يوم القيامة، وأنّها تحوي جنبة مستقبلية، فهو خلاف لظاهر الآية.

على كلّ حال فإنّ روح ذلك المؤمن الطاهرة، عرجت إلى السماء إلى جوار رحمة الله وفي نعيم الجنان، وهناك لم تكن له سوى اُمنية واحدة (قال ياليت قومي يعلمون).

ياليت قومي يعلمون بأي شيء (بما غفر لي ربّي وجعلني من المكرمين)(7).

أي: ليست أنّ لهم عين تبصر الحقّ، لهم عين غير محجوبة بالحجب الدنيوية الكثيفة والثقيلة، فيروا ما حُجب عنهم من النعمة والإكرام والإحترام من قبل الله، ويعلموا أي لطف شملني به الله في قبال عدوانهم عليّ .. لو أنّهم يبصرون ويؤمنون، ولكن ياحسرةً!!

في حديث عن الرّسول (ص) فيما يخصّ هذا المؤمن "إنّه نصح لهم في حياته وبعد موته"(8).

ومن الجدير بالملاحظة أنّه تحدّث أوّلا عن نعمة الغفران الإلهي، ثمّ عن الإكرام، إذ يجب أوّلا غسل الروح الإنسانية بماء المغفرة لتنقيتها من الذنوب، وحينها تأخذ محلّها على بساط القرب والإكرام الإلهي.

والجدير بالتأمّل أنّ الإكرام والإحترام والتجليل، وإن كان من نصيب الكثير من العباد، واُصولا فإنّه- أي الإكرام- يتعاظم مع "التقوى" جنباً إلى جنب، (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم).(9) ولكن (الإكرام) بشكل مطلق وبدون أدنى قيد أو شرط جاء في القرآن الكريم خاصاً لمجموعتين:

الاُولى: "الملائكة المقرّبون" (بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعلمون).(10)

والثانية: الأشخاص الذين بلغوا بإيمانهم أكمل الإيمان ويسمّيهم القرآن "المخلَصين" فيقول عنهم: (اُولئك في جنّات مكرمون)(11)(12).

وعلى كلّ حال، فقد كان هذا مآل ذلك الرجل المؤمن المجاهد الصادق الذي أدّى رسالته ولم يقصّر في حماية الرسل الإلهيين، وارتشف في النهاية كأس الشهادة، وقَفل راجعاً إلى جوار رحمة ربّه الكريم.

ولكن لننظر ما هو مصير هؤلاء القوم الطغاة الظلمة؟.

مع أنّ القرآن الكريم لم يورد شيئاً في ما انتهى إليه عمل هؤلاء الثلاثة من الرسل الذين بعثوا إلى هؤلاء القوم، لكن جمعاً من المفسّرين ذكروا أنّ هؤلاء قتلوا الرسل أيضاً إضافةً إلى قتلهم ذلك الرجل المؤمن، وفي حال أنّ البعض الآخر يصرّح بأنّ هذا الرجل الصالح شاغل هؤلاء القوم بحديثه وبشهادته لكي يتسنّى لهؤلاء الرسل التخلّص ممّا حيك ضدّهم من المؤامرات، والإنتقال إلى مكان أكثر أمناً، ولكن نزول العذاب الإلهي الأليم على هؤلاء القوم قرينة على ترجيح القول الأوّل، وإن كان التعبير "من بعده" (أي بعد شهادة ذلك المؤمن) يدلّل- في خصوص نزول العذاب الإلهي- على أنّ القول الثاني أصحّ "تأمّل بدقّة!!".

رأينا كيف أصرّ أهالي مدينة أنطاكية على مخالفة الإلهيين، والآن لننظر ماذا كانت نتيجة عملهم؟

القرآن الكريم يقول في هذا الخصوص: (وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنّا منزلين).

فلسنا بحاجة إلى تلك الاُمور، وأساساً فانّه ليس من سنّتنا لإهلاك قوم ظالمين أن نستخدم جنود السماء، لأنّ إشارة واحدة كانت كافية للقضاء عليهم جميعاً وإرسالهم إلى ديار العدم والفناء، إشارة واحدة كانت كافية لتبديل عوامل حياتهم ومعيشتهم إلى عوامل موت وفناء، وفي لحظة خاطفة تقلب حياتهم عاليها سافلها.

ثمّ يضيف تعالى (إن كانت إلاّ صيحة واحدة فإذا هم خامدون).

هل أنّ تلك الصيحة كانت صدى صاعقة نزلت من الغيوم على الأرض وهزّت كلّ شيء، ودمّرت كلّ العمران الموجود، وجعلت القوم من شدّة الخوف والوحشة يستسلمون للموت؟

أو أنّها كانت صيحة ناتجة عن زلزلة خرجت من قلب الأرض فضجّت في الفضاء بحيث أنّ موج إنفجارها أهلك الجميع.

أيّاً كانت فإنّها لم تكن سوى صيحة لم تتجاوز اللحظة الخاطفة في وقوعها، صيحة أسكتت جميع الصيحات، هزّة أوقفت كلّ شيء عن التحرّك، وهكذا هي قدرة الله سبحانه وتعالى، وهكذا هو مصير قوم ضالّين لا نفع فيهم.

الآية الأخيرة تتعرّض إلى طريقة جميع متمردّي التاريخ إزاء الدعوات الإلهية لأنبياء الله بلهجة جميلة تأسر القلوب فتقول: (ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا به يستهزئون).

وا أسفاه عليهم أن أغلقوا نافذة الرحمة الإلهية عليهم! وا أسفاه عليهم أن كسّروا مصباح هدايتهم!!، هؤلاء الضالّون المحرومون من السعادة لم يكتفوا بعدم الإستماع بآذان قلوبهم لنداء قادة البشرية العظام فقط، بل إنّهم أصرّوا على السخرية والإستهزاء منهم ثمّ بادروا إلى قتلهم. مع أنّهم علموا المصير المشؤوم للطغاة الكفّار من قبلهم، وسمعوا أو قرءوا على صفحات التأريخ كيف كانت خاتمتهم الأليمة، ولكنّهم لم يعتبروا بالمواعظ وسلكوا نفس المسير، وصاروا إلى نفس المصير.

ومن الواضح أنّ هذه الجملة هي قول الله تعالى، لأنّ جميع هذه الآيات توضيح منه تعالى، غير أنّ من الطبيعي أن الحسرة هنا- بمعناها المتعارف وهو الغمّ على ما فات- لا تنطبق على الله سبحانه وتعالى، كما أنّ (الغضب) وأمثاله أيضاً لا يصدر بمفهومه المتعارف من الله سبحانه، بل المقصود أنّ حال تلك الفئة التعيسة سيء إلى حدّ أنّ كلّ إنسان يطّلع عليه يتأسّف ويتحسّر متسائلا: لماذا غرقوا في تلك الدوامة مع توفّر كلّ وسائل النجاة؟

التعبير بـ "عباد" إشارة إلى أنّ العجب أن يكون هؤلاء العباد غارقين بنعم الله سبحانه وتعالى ثمّ يرتكبون مثل تلك الجنايات.

بحوث

1- قصّة رسل أنطاكية

(أنطاكية) واحدة من أقدم مدن الشام التي بنيت- على قول البعض- بحدود ثلاثمائة سنة قبل الميلاد. وكانت تعدّ من أكبر ثلاث مدن رومية في ذلك الزمان من حيث الثروة والعلم والتجارة.

تبعد (أنطاكية) مائة كيلومتر عن مدينة حلب، وستّين كيلومتراً عن الإسكندرية.

فتحت من قبل (أبي عبيدة الجراح) في زمن الخليفة الثاني، وقبل أهلها دفع الجزية والبقاء على ديانتهم.

احتّلها الفرنسيون بعد الحرب العالمية الاُولى، وحينما أراد الفرنسيون ترك الشام ألحقوها بالأراضي التركية خوفاً على أهالي أنطاكية من أن يمسّهم سوء بعد خروجهم لأنّهم نصارى مثلهم.

(أنطاكية) تعتبر بالنسبة إلى النصارى كالمدينة المنورة للمسلمين، المدينة الثانية في الأهمية بعد بيت المقدس، التي ابتدأ المسيح (ع) منها دعوته، ثمّ هاجر بعض من آمن بالمسيح (ع)- بولس وبرنابا ـ(13) إلى أنطاكية ودعوا الناس هناك إلى المسيحية، وبذا إنتشرت المسيحية هناك، وبهذا اللحاظ أشار القرآن الكريم إلى هذه المدينة لأهميّتها(14).

"الطبرسي"- أعلى الله مقامه- في تفسير مجمع البيان يقول: قالوا بعث عيسى رسولين من الحواريين إلى مدينة أنطاكية، فلمّا قربا من المدينة رأيا شيخاً يرعى غنيمات له وهو (حبيب) صاحب (يس) فسلّما عليه.

فقال الشيخ لهما: من أنتما؟

قالا: رسولا عيسى، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن.

فقال: أمعكما آية؟

قالا: نعم، نحن نشفي المريض ونبرىء الأكمه والأبرص بإذن الله.

فقال الشيخ: إنّ لي إبناً مريضاً صاحب فراش منذ سنين.

قالا: فانطلق بنا إلى منزلك نتطلّع حاله، فذهب بهما فمسحا إبنه فقام في الوقت بإذن الله صحيحاً، ففشا الخبر في المدينة وشفى الله على أيديهما كثيراً من المرضى.

وكان لهم ملك يعبد الأصنام فانتهى الخبر إليه، فدعاهما فقال لهما: من أنتما؟

قالا: رسولا عيسى، جئنا ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر.

فقال الملك: ولنا إله سوى آلهتنا؟

قالا: نعم، من أوجدك وآلهتك.

قال: قُوما حتّى أنظر في أمركما، فأخذهما الناس في السوق وضربوهما.

وروي أنّ عيسى (ع) بعث هذين الرّسولين إلى أنطاكية فأتياها ولم يصلا إلى ملكها، وطالت مدّة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبّرا وذكرا الله فغضب الملك وأمر بحبسهما، وجلد كلّ واحد منهما مائة جلدة، فلمّا كذب الرسولان وضربا، بعث عيسى (شمعون الصفا) رأس الحواريين على أثرهما لينصرهما، فدخل شمعون البلدة متنكّراً فجعل يعاشر حاشية الملك حتّى أنسوا به فرفعوا خبره إلى الملك فدعاه ورضي عشرته وأنس به وأكرمه، ثمّ قال له ذات يوم: أيّها الملك بلغني أنّك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك فهل سمعت قولهما. قال الملك حال الغضب بيني وبين ذلك. قال: فإن رأى الملك دعاهما حتّى نتطلّع ما عندهما فدعاهما الملك.

فقال لهما شمعون: من أرسلكما إلى هاهنا.

قالا: الله الذي خلق كلّ شيء لا شريك له.

قال: وما آيتكما.

قالا: ما تتمنّاه.

فأمر الملك أن يأتوا بغلام مطموس العينين وموضع عينيه كالجبهة. فما زالا يدعوان حتّى انشق موضع البصر، فأخذا بندقتين من الطين فوضعاها في حدقتيه فصارتا مقلتين يُبصر بهما، فتعجب الملك.

فقال شمعون للملك: أرأيت لو سألت إلهك حتّى يصنع صنيعاً مثل هذا فيكون لك ولإلهك شرفاً؟

فقال الملك: ليس لي عنك سرّ، إنّ إلهنا الذي نعبده لا يضرّ ولا ينفع.

ثمّ قال الملك للرسولين: إن قدر إلهكما على إحياء ميّت آمنّا به وبكما.

قالا: إلهنا قادر على كلّ شيء.

فقال الملك: إنّ هاهنا ميّتاً مات منذ سبعة أيّام لم ندفنه حتّى يرجع أبوه- وكان غائباً- فجاءوا بالميّت وقد تغيّر وأروح، فجعلا يدعوان ربّهما علانيةً، وجعل شمعون يدعو ربّه سرّاً، فقام الميّت وقال لهم: إنّي قد متّ منذ سبعة أيّام، وأدخلت في سبعة أودية من النار وأنا اُحذّركم ممّا أنتم فيه، فآمنوا بالله فتعجّب الملك.

فلمّا علم شمعون أنّ قوله أثّر في الملك، دعاه إلى الله فآمن وآمن من أهل مملكته قوم وكفر آخرون.

ونقل "العياشي" في تفسيره مثل هذه الرواية عن الإمام الباقر والصادق (ع)مع بعض التفاوت(15).

ولكن بمطالعة الآيات السابقة، يبدو من المستبعد أنّ أهل تلك المدينة كانوا قد آمنوا، لأنّ القرآن الكريم يقول: (إن كانت إلاّ صيحة واحدة فإذا هم خامدون). ويمكن أن يكون هناك إشتباه في الرواية من جهة الراوي.

ومن الجدير بالملاحظة أيضاً أنّ التعبير بـ "المرسلون" في الآيات أعلاه يدلّل على أنّهما أنبياء مرسلون من الله تعالى، علاوةً على أنّ القرآن الكريم يقول: بأنّ أهالي تلك المدينة (قالوا ما أنتم إلاّ بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء)، ومثل هذه التعبيرات ترد في القرآن الكريم عادةً فيما يخصّ الأنبياء، وإن كان قد قيل بأنّ رسل الأنبياء هم رسل الله، ولكن هذا التوجيه يبدو بعيداً.

2- ما نتعلّمه من هذه القصّة

نتعلّم من القصّة التي عرضتها الآيات السابقة اُموراً عديدة منها:

أ- أنّ المؤمنين لا يستوحشون أبداً من سلوك طريق الله سبحانه وتعالى منفردين كما هو حال المؤمن "حبيب النجّار" الذي لم ترهبه كثرة المشركين في مدينته.

يقول أمير المؤمنين علي عليه أفضل الصلاة والسلام: "لا تستوحشوا من طريق الهدى لقلّة أهله"(16).

ب- المؤمن عاشق لهداية الناس، ويتألّم لضلالهم، وحتّى بعد شهادته يتمنّى أن يرى الآخرون مقامه ليكون سبباً في إيمانهم!

ج- محتوى دعوة الأنبياء بحدّ ذاتها دليل على هدايتهم وحقّانيتهم (وهم مهتدون).

د- الدعوة إلى الله يجب أن تكون خالية من أي ترقّب للأجر لكي تكون مؤثّرة.

هـ- تارةً يكون الضلال مكشوفاً وواضحاً، أي أنّه ضلال مبين، وعبادة الأوثان تعدّ مصداقاً واضحاً لـ "الضلال المبين".

و- أهل الحقّ يستندون إلى الواقعيات، والضالّون يستندون إلى أوهام وظنون.

ز- إذا كان هناك شؤم ونكبات فإنّ سببها نفس الإنسان وأعماله.

ح- الإسراف سبب لكثير من الإنحرافات والنكبات.

ط- وظيفة الأنبياء وأتباعهم "البلاغ المبين" والدعوة العلنية، سواء إستجاب الناس أو لم يستجيبوا.

ي- التجمّع والكثرة من العوامل المهمّة للنصرة والعزّة والقوّة (وعزّزناهما بثالث).

ك- إنّ الله لا يحتاج لتدمير أئمّة التمرّد والعصيان إلى تجنيد طاقات الأرض والسماء، بل تكفي الإشارة.

ل- لا فاصلة بين الشهادة والجنّة، والشهيد قبل أن يغادر الدنيا يقع في أحضان الحور العين(17).

م- إنّ الله يطهّر الإنسان من الذنوب أوّلا ثمّ يقربه إلى جوار رحمته (بما غفر لي ربّي وجعلني من المكرّمين).

ن- يجب على مريد الحقّ أن لا يستوحش من مخالفة الأعداء، لأنّ ذلك ديدنهم على مدى الدهور (ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا به يستهزئون).

وأي حسرة أكبر وأشدّ من أن يغلق الإنسان- لمجرّد تعصّبه وغروره- عينيه، فلا يبصر الشمس المضيئة الساطعة.

س- كان المستضعفون يؤمنون بالأنبياء قبل جميع الناس (وجاء من أقصى المدينة رجل ...).

ع- وهم الذين لم يتعبوا ولم يكلّوا من طريق الحقّ، ولم يكن لسعيهم وإجتهادهم حدّ. (يسعى).

ف- يجب تعلّم طريقة التبليغ والدعوة إلى الله من الرسل الإلهيين الذين استفادوا من جميع الأساليب والطرائق المؤثّرة لأجل النفوذ في قلوب الغافلين، وفي الآية أعلاه والروايات التي أدرجناها نموذج على ذلك.

3- ثواب وعقاب البرزخ

ورد في الآيات الماضية أنّ (المؤمن حبيب النجّار) بعد شهادته دخل الجنّة وتمنّى أن لو يعلم قومه بمصيره. ومن المسلّم أنّ هذه الآيات- كما هو الحال في الآيات الاُخرى التي تتحدّث عن الشهداء- ليست مربوطة بالجنّة المقصودة بعد يوم القيامة والتي تكون بعد البعث والحساب في المحشر.

من هنا يتّضح أنّ وراءنا جنّة وجحيماً في البرزخ أيضاً، يتنعّم فيها الشهداء ويحترق فيها الطغاة من أمثال "آل فرعون" ومع الإلتفات إلى هذا المعنى، تنحلّ كثير من الإشكالات فيما يخصّ الجنّة والنار، من أمثال ما ورد في روايات الإسراء والمعراج وأمثالها.

4- قادة الاُمم

نقل في تفسير الثعلبي عن الرّسول الأكرم (ص) "سبّاق الاُمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: علي بن أبي طالب وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون، فهم الصدّيقون وعلي أفضلهم"(18).

كما ورد هذا المعنى تقريباً في رواية عن رسول الله (ص) أوردها صاحب تفسير "الدرّ المنثور" عن الرّسول (ص) أنّه قال: "الصدّيقون ثلاثة: حبيب النجّار مؤمن آل ياسين الذي قال: ياقوم اتّبعوا المرسلين، وحزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال: أتقتلون رجلا أن يقول ربّي الله، وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم"(19).


1- الآيات: 109 ـ 127 ـ 145 ـ 164 ـ 180.

2- راجع الآيات 3 و32 يونس ـ 3 و52 هود ـ 24 النمل 29 ـ الكهف وغيرها.

3- تفسير القرطبي، ج15، ص 18 و19.

4- تفسير التبيان، ج8، ص414.

5- آل عمران، 169.

6- بحار الأنوار، ج6، ص218.

7- بخصوص موقع (ما) في الجملة احتملت ثلاثة إحتمالات: إمّا مصدرية، أو موصولة، أو إستفهامية، ولكن يبدو أنّ إحتمال كونها إستفهامية بعيد، ويبقى أنّ الأقرب كونها موصولة، مع أنّ المعنى لا يختلف كثيراً حينما تكون مصدرية.

8- تفسير القرطبي، المجلّد 8،ـ صفحة 20.

9- الحجرات، 13.

10- الأنبياء، 27.

11- المعارج، 35.

12- الميزان، المجلّد 17، صفحة 82.

13- "بولس" من المبلّغين المسيحيين المعروفين الذي سعى كثيراً في نشر الديانة المسيحية. "برنابا" ـ بفتح الباء ـ إسمه الأصلي "يوسف" كان من أصدقاء بولس ومرقس، له انجيل معروف ذكر فيه كثيراً البشارة بظهور نبي الإسلام، ولكن المسيحيين لا يعتقدون بصحّته ويقولون انّ هذا الإنجيل قد كتبه أحد المسلمين.

14- تفسير "أبو الفتوح الرازي" وهامش العالم المرحوم "الشعراني".

15- مجمع البيان، المجلّد 4 (الجزء 8) ـ صفحة 419.

16- نهج البلاغة، الخطبة 201، صفحة 319.

17- ذكرنا رواية شريفة مفصّلة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذا المجال عند تفسير سورة (آل عمران) ذيل الآية169.

18- مجمع البيان، ج4، ص421 القرطبي ـ الميزان، نور الثقلين.

19- تفسير الدرّ المنثور، على ما نقله الميزان، المجلّد 17، صفحة 86.