الآيتان 11 - 12
﴿إنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِىَ الرَّحْمَـنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَة وَأَجْر كَرِيم (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَءَاثَـرَهُمْ وَكُلَّ شَىْء أَحْصَيْنَـهُ فِى إِمَام مُّبِين (12)﴾
التّفسير
من هم الذين يتقبّلون إنذارك؟
كان الحديث في الآيات السابقة عن مجموعة لا تملك أي إستعداد لتقبّل الإنذارات الإلهيّة ويتساوى عندهم الإنذار وعدمه، أمّا هذه الآيات فتتحدّث عن فئة اُخرى هي على النقيض من تلك الفئة، وذلك لكي يتّضح المطلب بالمقارنة بين الفئتين كما هو اُسلوب القرآن.
تقول الآية الاُولى من هذه المجموعة (إنّما تنذر من اتّبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشّره بمغفرة وأجر كريم).
هنا ينبغي الإلتفات إلى اُمور:
1- ذكرت في هذه الآية صفتان لمن تؤثّر فيهم مواعظ وإنذارات النّبي (ص): وهي "أتباع الذكر" و "الخشية من الله في الغيب". لا شكّ أنّ المقصود من هاتين الصفتين هو ذلك الإستعداد الذاتي وما هو موجود فيهم "بالقوّة". أي أنّ الإنذار يؤثّر فقط في اُولئك الذين لهم أسماع واعية وقلوب مهيّأة، فالإنذار يترك فيهم أثرين: الأوّل إتّباع الذكر والقرآن الكريم، والآخر الإحساس بالخوف بين يدي الله والمسؤولية.
وبتعبير آخر فإنّ هاتين الحالتين موجودتان فيهم بالقوّة، وإنّها تظهر فيهم بالفعل بعد الإنذار، وذلك على خلاف الكفّار عمي القلوب الغافلين الذين لا يملكون اُذناً صاغية وليسوا أهلا للخشية من الله أبداً.
هذه الآية كالآية من سورة البقرة حيث يقول تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتّقين).
2- بإعتقاد الكثير من المفسّرين أنّ المقصود من "الذكر" هو "القرآن المجيد". لأنّ هذه الكلمة جاءت بهذه الصورة مراراً في القرآن الكريم لتعبّر عن هذا المعنى(1)، ولكن لا مانع من أن يكون المقصود من هذه الكلمة أيضاً المعنى اللغوي لها بمعنى مطلق التذكير، بحيث يشمل كلّ الآيات القرآنية وسائر الإنذارات الصادرة عن الأنبياء والقادة الإلهيين.
3- "الخشية" كما قلنا سابقاً، بمعنى الخوف الممزوج بالإحساس بعظمة الله تعالى، والتعبير بـ "الرحمن" هنا والذي يشير إلى مظهر رحمة الله العامّة يثير معنى جميلا، وهو أنّه في عين الوقت الذي يُستشعر فيه الخوف من عظمة الله، يجب أن يكون هنالك أمل برحمته، لموازنة كفّتي الخوف والرجاء، اللذين هما عاملا الحركة التكاملية المستمرة.
الملفت للنظر أنّه ذكرت كلمة "الله" في بعض من الآيات القرآنية في مورد "الرجاء" والتي تمثّل مظهر الهيبة والعظمة (لمن كان يرجو الله واليوم الآخر)(2)إشارة إلى أنّه يجب أن يكون الرجاء ممزوجاً بالخوف، والخوف ممزوجاً بالرجاء على حد سواء (تأمّل!!).
4- التعبير بـ "الغيب" هنا إشارة إلى معرفة الله عن طريق الإستدلال والبرهان، إذ أنّ ذات الله سبحانه وتعالى غيب بالنسبة إلى حواس الإنسان، ويمكن فقط مشاهدة جماله وجلاله سبحانه ببصيرة القلب ومن خلال آثاره تعالى.
كذلك يحتمل أيضاً أنّ "الغيب" هنا بمعنى "الغياب عن عيون الناس" بمعنى أنّ مقام الخشية والخوف يجب أن لا يتّخذ طابعاً ريائياً، بل إنّ الخشية والخوف يجب أن تكون في السرّ والخفية.
بعضهم فسّر "الغيب" أيضاً بـ "القيامة" لأنّها من المصاديق الواضحة للاُمور المغيبة عن حسّنا، ولكن يبدو أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب.
5- جملة "فبشّره" في الحقيقة تكميل للإنذار، إذ أنّ الرّسول (ص) في البدء ينذر، وحين يتحقّق للإنسان اتّباع الذكر والخشية وتظهر آثارها على قوله وفعله، هنا يبشّره الباري عزّوجلّ.
بماذا يبشّر؟ أوّلا يبشّره بشيء قد شغل فكره أكثر من أي موضوع آخر، وهو تلك الزلاّت التي إرتكبها، يبشّره بأنّ الله العظيم سيغفر له تلك الزلاّت جميعها، ويبشّره بعدئذ بأجر كريم وثواب جزيل لا يعلم مقداره ونوعه إلاّ الله سبحانه.
الملفت للنظر هو تنكير "المغفرة" و "الأجر الكريم" ونعلم بأنّ إستخدام النكرة في مثل هذه المواضع إنّما هو للتدليل على الوفرة والعِظم.
6- يرى بعض المفسّرين أنّ (الفاء) في جملة "فبشّره" للتفريع والتفصيل، إشارة إلى أنّ (اتّباع التذكر والخشية) نتيجتها "المغفرة" و "الأجر الكريم" بحيث أنّ الاُولى وهي المغفرة تترتّب على الأوّل، والثانية على الثاني.
بعد ذلك وبما يتناسب مع البحث الذي كان في الآية السابقة حول الأجر والثواب العظيم للمؤمنين والمصدّقين بالإنذارات الإلهية التي جاء بها الأنبياء، تنتقل الآية التالية إلى الإشارة إلى مسألة المعاد والبعث والكتاب والحساب والمجازاة، تقول الآية الكريمة: (إنّا نحن نحيي الموتى).
الإستناد إلى لفظة "نحن" إشارة إلى القدرة العظيمة التي تعرفونها فينا! وكذلك قطع الطريق أمام البحث والتساؤل في كيف يحيي العظام وهي رميم، ويبعث الروح في الأبدان من جديد؟ وليس نحيي الموتى فقط، بل (ونكتب ما قدّموا وآثارهم) وعليه فإنّ صحيفة الأعمال لن تغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ وتحفظها إلى يوم الحساب.
جملة "ما قدّموا" إشارة إلى الأعمال التي قاموا بها ولم يبق لها أثر، أمّا التعبير "وآثارهم" فإشارة إلى الأعمال التي تبقى بعد الإنسان وتنعكس آثارها على المحيط الخارجي، من أمثال الصدقات الجارية (المباني والأوقاف والمراكز التي تبقى بعد الإنسان وينتفع منها الناس).
كذلك يحتمل أيضاً أن يكون المعنى هو أنّ "ما قدّموا" إشارة إلى الأعمال ذات الجنبة الشخصية، و "آثارهم" إشارة إلى الأعمال التي تصبح سنناً وتوجب الخير والبركات بعد موت الإنسان، أو تؤدّي إلى الشرّ والمعاصي والذنوب. ومفهوم الآية واسع يمكن أن يشمل التّفسيرين.
ثمّ تضيف الآية لزيادة التأكيد (وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين).
أغلب المفسّرين اعتبروا أنّ معنى "إمام مبين" هنا هو "اللوح المحفوظ" ذلك الكتاب الذي أثبتت فيه وحفظت كلّ الأعمال والموجودات والحوادث التي في هذا العالم.
والتعبير بـ "إمام" ربّما كان بلحاظ أنّ هذا الكتاب يكون في يوم القيامة قائداً وإماماً لجميع المأمورين بتحقيق الثواب والعقاب، أو لكونه معياراً لتقييم الأعمال الإنسانية ومقدار ثوابها وعقوبتها.
الجدير بالملاحظة أنّ تعبير (إمام) ورد في بعض آيات القرآن الكريم للتعبير عن "التوراة" حيث يقول سبحانه وتعالى: (أفمن كان على بيّنة من ربّه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة).
وإطلاق كلمة "إمام" في هذه الآية على "التوراة" يشير إلى المعارف والأحكام والأوامر الواردة في التوراة، وكذلك للدلائل والإشارات المذكورة بحقّ نبي الإسلام (ص)، ففي كلّ هذه الاُمور يمكن للتوراة أن تكون قائداً وإماماً للخلق، وبناءً على ذلك فإنّ الكلمة المزبورة لها معنى متناسب مع مفهومها الأصلي في كلّ مورد إستعمال.
مسألتان
1- أنواع الكتب التي تثبت بها أعمال الناس
يُستفاد من الآيات القرآنية الكريمة أنّ أعمال الإنسان تدون وتضبط في أكثر من كتاب، حتّى لا يبقى له حجّة أو غدر يوم الحساب.
أوّلها: "صحيفة الأعمال الشخصية" التي تحصي جميع أعمال الفرد على مدى عمره (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً).(3)
هناك حيث تتعالى صرخات المجرمين (يقولون ياويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها).(4) وهو الكتاب الذي يأخذه المحسنون في أيمانهم والمسيئون في شمائلهم- الحاقّة 19 و25.
ثانياً: "صحيفة أعمال الاُمّة" والتي تبيّن الخطوط الإجتماعية لحياتها، كما يقول القرآن الكريم: (كلّ اُمّة تدعى إلى كتابها).(5)
وثالثها: "اللوح المحفوظ" وهو الكتاب الجامع، ليس لأعمال جميع البشر من الأوّلين والآخرين فقط، بل لجميع الحوادث العالمية، وشاهد آخر على أعمال بني آدم في ذلك المشهد العظيم، وفي الحقيقة فهو إمام لملائكة الحساب وملائكة الثواب والعقاب.
2- كلّ شيء أحصيناه
ورد في حديث عن الإمام الصادق (ع) أنّ رسول الله (ص) نزل بأرض قرعاء، فقال لأصحابه: "ائتوا بحطب، فقالوا: يارسول الله، نحن بأرض قرعاء! قال: فليأت كلّ إنسان بما قدر عليه. فجاؤوا به حتّى رموا بين يديه، بعضه على بعض، فقال رسول الله (ص). هكذا تجمع الذنوب، ثمّ قال: إيّاكم والمحقّرات من الذنوب، فإنّ لكلّ شيء طالباً، ألا وإنّ طالبها يكتب ما قدّموا وآثارهم وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين"(6).
هذا الحديث المؤثّر، صورة معبّرة عن أنّ تراكم صغائر الذنوب والمعاصي يمكنه أن يولد ناراً عظيمة اللهب.
في حديث آخر ورد أنّ "بني سلمة" كانوا في ناحية المدينة، فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد، فنزلت هذه الآية (إنّا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدّموا وآثارهم)فقال رسول الله (ص): "إنّ آثاركم تكتب"- أي خطواتكم التي تخطونها إلى المسجد، وسوف تثابون عليها- فلم ينتقلوا(7).
اتّضح إذاً أنّ مفهوم الآية واسع وشامل، وله في كلّ من تلك الاُمور التي ذكرناها مصداق.
وقد يبدو عدم إنسجام ما ذكرنا مع ما ورد من "أهل البيت" (ع) حول تفسير "إمام مبين" بأمير المؤمنين علي عليه أفضل الصلاة والسلام. كما ورد عن الإمام الباقر (ع) عن آبائه (ع): "لمّا اُنزلت هذه الآية على رسول الله (ص) (وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين) قام أبو بكر وعمر من مجلسهما فقالا: يارسول الله، هو التوراة؟ قال: لا، قالا: فهو الإنجيل؟ قال: لا، قالا: فهو القرآن؟ قال: لا، قال: فأقبل أمير المؤمنين علي (ع) فقال رسول الله (ص): هو هذا، إنّه الإمام الذي أحصى الله تبارك وتعالى فيه علم كلّ شيء"(8).
وفي تفسير علي بن إبراهيم عن ابن عبّاس عن أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام أنّه قال: "أنا والله الإمام المبين، أُبيّن الحقّ من الباطل، ورثته من رسول الله (ص)"(9).
فمع أنّ بعض المفسّرين من أمثال "الآلوسي"، قد إستاء كثيراً من عملية نقل أمثال هذه الروايات من طرق الشيعة، ونسبهم لذلك إلى عدم المعرفة والإطلاع وعدم التمكّن من التّفسير، إلاّ أنّه بقليل من الدقّة يتّضح أنّ أمثال هذه الروايات لا تتنافى مع تفسير "الإمام المبين" بـ "اللوح المحفوظ". بلحاظ أنّ قلب الرّسول(ص) بالمقام الأوّل، ثمّ يليه قلب وليّه، ويعتبران مرآة تعكس ما في اللوح المحفوظ. وإنّ الله سبحانه وتعالى يلهمهم القسم الأعظم ممّا هو موجود في اللوح المحفوظ، وبذا يصبحان نموذجاً من اللوح المحفوظ، وعليه فإنّ إطلاق "الإمام المبين" عليهما ليس بالأمر العجيب، لأنّهما فرع لذلك الأصل، ناهيك عن أنّ وجود الإنسان الكامل- كما نعلم- يعتبر عالماً صغيراً ينطوي على خلاصة العالم الكبير، وطبقاً للشعر المنسوب إلى أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.
أتزعم أنّك جرم صغير؟ وفيك انطوى العالم الأكبر والعجيب أنّ "الآلوسي" لا يستبعد هذا التّفسير مع إنكاره للرّوايات السالفة الذكر، وعلى كلّ حال فليس من شكّ في كون المقصود من "الإمام المبين" هو "اللوح المحفوظ" فإنّ الروايات السالفة الذكر يمكن تطبيقها عليه "دقّق النظر!!".
1- اُنظر النحل: 44 وفصّلت: 41، والزخرف: 44 والقمر: 25، وفي نفس الوقت فإنّ لفظة "ذكر" تكرّرت في القرآن كثيراً بمعنى "التذكير المطلق".
2- الأحزاب، 21.
3- الإسراء، 14.
4- الكهف، 49.
5- الجاثية، 28.
6- نور الثقلين، ج4، ص378، ح25.
7- تفسير القرطبي، ج15، ص12، نقل هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري، كما في صحيح الترمذي وجاء مثله في صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله الأنصاري أيضاً، وقد ذكره مفسّرون آخرون كالآلوسي والفخر الرازي والطبرسي والعلاّمة الطباطبائي ـ أيضاً ـ بتفاوت يسير.
8- معاني الأخبار للصدوق، باب معنى الإمام، صفحة 95.
9- نور الثقلين، ج4، ص379.