الآيات 1 - 10
﴿يس (1) وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَط مُّسْتَقِيم (4) تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ فَهُمْ غَـفِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَـقِهِمْ أَغْلَـلا فَهِىَ إِلَى الاَْذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَـهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (10)﴾
التّفسير
هذه السورة تبدأ- كما هو الحال في ثمان وعشرين سورة اُخرى- بحروف مقطّعة وهي (ياء) و (سين).
وقد فصّلنا الحديث فيما يخصّ الحروف المقطّعة في بداية سورة (البقرة) و (آل عمران) و (الأعراف)، ولكن فيما يخصّ سورة (يس) فتوجد تفسيرات اُخرى أيضاً لهذه الحروف المقطّعة.
من جملتها أنّ هذه الكلمة (يس) تتكوّن من "ياء" حرف نداء و "سين" أي شخص الرّسول الأكرم (ص)، وعليه فيكون المعنى أنّه خطاب للرسول (ص)لتوضيح قضايا لاحقة.
وقد ورد في بعض الأحاديث أنّ هذه الكلمة تمثّل أحد أسماء الرّسول الأكرم(ص)(1).
ومنها أنّ المخاطب هنا هو الإنسان و "سين" إشارة له، ولكن هذا الإحتمال لا يحقّق الإنسجام بين هذه الآية والآيات اللاحقة، لأنّ هذه الآيات تتحدّث إلى الرّسول (ص) وحده.
لذا نقرأ في رواية عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: "يس اسم رسول الله (ص)والدليل على ذلك قوله تعالى: (إنّك لمن المرسلين على صراط مستقيم).(2)
بعد هذه الحروف المقطّعة- وكما هو الحال في أغلب السور التي تبتدى بالحروف المقطّعة- يأتي الحديث عن القرآن المجيد، فيورد هنا قَسَماً بالقرآن، إذ يقول: (والقرآن الحكيم). الملفت للنظر أنّه وصف "القرآن" هنا بـ "الحكيم"، في حين أنّ الحكمة عادةً صفة للعاقل، كأنّه سبحانه يريد طرح القرآن على أنّه موجود حي وعاقل ومرشد، يستطيع فتح أبواب الحكمة أمام البشر، ويؤدّي إلى الصراط المستقيم الذي تشير إليه الآيات التالية.
بديهي أنّ الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة لأنّ يقسم، ولكن الأقسام القرآنية تتضمّن- دائماً- فائدتين أساسيتين: الاُولى التأكيد على الموضوع اللاحق للقسم، والثانية بيان عظمة الشيء الذي يقسم به الله تعالى، إذ أنّ القسم لا يكون عادةً بأشياء ليست ذات قيمة.
الآية التي بعدها توضّح الأمر الذي من أجله أقسم الله تعالى في مقدّمة السورة الكريمة: (إنّك لمن المرسلين على صراط مستقيم)(3).
بعد ذلك تضيف الآية (تنزيل العزيز الرحيم)(4).
التأكيد على "العزيز" كصفة لله سبحانه وتعالى، لأجل بيان قدرته سبحانه وتعالى في قبال كتاب كبير كهذا، كتاب يقف معجزة شامخة على مرّ العصور والقرون، ولن تستطيع أيّة قدرة مهما كانت أن تمحو أثره العظيم من صفحة القلوب.
والتأكيد على "رحيميته" لأجل بيان هذه الحقيقة وهي أنّ رحمته أوجبت أن تقيّض للبشر نعمة عظيمة كهذه.
بعض المفسّرين قالوا بأنّ هاتين الصفتين ذكرتا للإشارة إلى نوعين من ردود الفعل المحتملة من قبل الناس إزاء نزول ذلك الكتاب السماوي وإرسال النّبي الأكرم (ص)، فلو أنكروا وكذّبوا، فإنّ الله سبحانه وتعالى يهدّدهم بعزّته، ولو دخلوا من باب التسليم والقبول، فإنّ الله يبشّرهم برحمته الخاصّة.
وعليه فإنّ عزّته ورحمته إحداهما مظهر للإنذار والاُخرى للبشارة، وبإقترانهما جعل هذا الكتاب السماوي العظيم في متناول البشرية.
هنا يطرح سؤال: هل يمكن إثبات حقّانية الرّسول أو الكتاب السماوي، بواسطة قَسَم أو تأكيد؟
الجواب تستبطنه الآيات المذكورة، لأنّها من جانب تصف القرآن بالحكيم، مشيرة إلى أنّ حكمته ليست مخفية عن أحد، وذلك دليل على حقّانيته.
ومن جانب آخر فإنّ وصف الرّسول الأكرم (ص) بأنّه (على صراط مستقيم)، بمعنى أنّ محتوى دعوته يتّضح من سبيله القويم، وماضيه أيضاً دليل على أنّه لم يسلك في حياته سوى الطريق المستقيم.
وقد أشرنا في البحوث التي أوردناها حول أدلّة حقّانية الرسل، إلى أنّ أحد أهمّ الطرق لإدراك حقّانية الرسل، هو التحقّق والإطلاع على محتوى دعواتهم بشكل دقيق، الأمر الذي يؤكّد دائماً أنّها متوافقة ومنسجمة مع الفطرة والعقل والوجدان، وقابلة للإدراك والتعقّل البشري، إضافةً إلى أنّ تأريخ حياة الرّسول (ص) يدلّل على أنّه رجل أمانة وصدق، وليس رجل كذب وتزوير .. هذه الاُمور قرائن حيّة على كونه رسول الله، والآيات أعلاه في الحقيقة تشير إلى كلا المطلبين، وعليه فإنّ القسم والدعوى أعلاه لم يكونا بلا سبب أبداً.
ناهيك عن أنّه من حيث أدب المناظرة، فإنّه لأجل النفوذ في قلوب المنكرين والمعاندين يجب أن تكون العبارات في طرحها أكثر إحكاماً وحسماً ومصحوبة بتأكيد أقوى، كيما تستطيع التأثير في هؤلاء.
يبقى سؤال: وهو لماذا كان المخاطب في هذه الجملة شخص الرّسول الأكرم (ص) وليس المشركين أو عموم الناس؟
الجواب هو التأكيد على أنّك ياأيّها النّبي على الحقّ وعلى الصراط المستقيم، سواء إستجاب هؤلاء أو لم يستجيبوا، لذا فإنّ عليك الإجتهاد في تبليغ رسالتك العظيمة، ولا تُعِر المخالفين أدنى إهتمام.
الآية التالية تشرح الهدف الأصلي لنزول القرآن كما يلي (ولتنذر قوماً ما اُنذر آباؤهم فهم غافلون)(5) أي إنّه لم يأت نذير لآبائهم.
من المسلّم أنّ المقصود بهؤلاء القوم هم المشركون في مكّة، وإذا قيل أنّه لم تخلُ اُمّة من منذر، وأنّ الأرض لا تخلو من حجّة لله، علاوةً على أنّه تعالى يقول في الآية (24) من سورة فاطر (وإنّ من اُمّة إلاّ خلا فيها نذير)؟
فنقول: إنّ المقصود من الآية- مورد البحث- هو المنذر الظاهر والنّبي العظيم الذي ملأ صيته الآفاق، وإلاّ فإنّ الأرض لم تخلُ يوماً من حجّة لله على عباده، وإذا نظرنا إلى الفترة من عصر المسيح (ع) إلى قيام الرّسول الأعظم (ص) نجدها لم تخل من الحجّة الإلهية، بل إنّها فترة من قيام اُولي العزم، يقول أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام بهذا الخصوص "إنّ الله بعث محمّداً (ص) وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً ولا يدّعي نبوّة!".(6)
وعلى كلّ حال فإنّ الهدف من نزول القرآن الكريم كان تنبيه الناس الغافلين، وإيقاظ النائمين، وتذكيرهم بالمخاطر المحيطة بهم، والذنوب والمعاصي التي ارتكبوها، والشرك وأنواع المفاسد التي تلوّثوا بها، نعم فالقرآن أساس العلم واليقظة، وكتاب تطهير القلب والروح.
ثمّ يتنبّأ القرآن الكريم بما يؤول إليه مصير الكفّار والمشركين فيقول تعالى: (لقد حقّ القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون).
إحتمل المفسّرون هنا العديد من الإحتمالات في المراد من "القول" هنا.
الظاهر أنّه ذلك الوعيد الإلهي لكل أتباع الشيطان بالعذاب في جهنّم، فمثله ما ورد في الآية (13) من سورة السجدة (ولكن حقّ القول منّي لأملأنّ جهنّم من الجنّة والناس أجمعين). كذلك في الآية (71) من سورة الزمر نقرأ (ولكن حقّت كلمة العذاب على الكافرين).
على كلّ حال فإنّ ذلك يخصّ اُولئك الذين قطعوا كلّ إرتباط لهم بالله سبحانه وتعالى، وأغلقوا عليهم منافذ الهداية بأجمعها، وأوصلوا عنادهم وتكبّرهم وحماقتهم إلى الحدّ الأعلى، نعم فهم لن يؤمنوا أبداً، وليس لديهم أي طريق للعودة، لأنّهم قد دمّروا كلّ الجسور خلفهم.
في الحقيقة فإنّ الإنسان القابل للإصلاح والهداية هو ذلك الذي لم يلوّث فطرته التوحيدية تماماً بأعماله القبيحة وأخلاقه المنحرفة، وإلاّ فإنّ الظلمة المطلقة ستتغلّب على قلبه وتغلق عليه كلّ منافذ الأمل.
فاتّضح أنّ المقصود هم تلك الأكثرية من الرؤوس المشركة الكافرة التي لم تؤمن أبداً، وكذلك كان، فقد قتلوا في حروبهم ضدّ الإسلام وهم على حال الشرك وعبادة الأوثان، وما تبقى منهم ظلّ على ضلاله إلى آخر الأمر.
وإلاّ فإنّ أكثر مشركي العرب أسلموا بعد فتح مكّة بمفاد قوله تعالى: (يدخلون في دين الله أفواجاً).(7)
ويشهد بذلك ما ورد في الآيات التالية التي تتحدّث عن وجود سدٍّ أمام وخلف هؤلاء وكونهم لا يبصرون. وأنّه لا ينفع معهم الإنذار أو عدمه(8).
الآية التي بعدها تواصل وصف تلك الفئة المعاندة، فتقول: (إنّا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون) أي مرفوعي الرأس لوجود الغلّ حول الأعناق.
"أغلال" جمع "غل": من مادّة "غلل" ويعني تدرع الشيء وتوسطه، ومنه الغلل (على وزن عمل) للماء الجاري بين الشجر. و "الغل" الحلقة حول العنق أو اليدين وتربط بعد ذلك بسلسلة، وبما أنّ العنق أو اليدين تقع في ما بينها فقد إستعملت هذه المفردة في هذا المورد، وحيناً تكون الأغلال في العنق مربوطة بسلسلة مستقلّة عمّا تربط به أغلال الأيدي، وحيناً تكون جميعها مربوطة بسلسلة واحدة فيكون الشخص بذلك تحت ضغط شديد وفي محدودية وعذاب شديدين.
وإذا قيل لحالة العطش الشديد أو الحسرة والغضب "غُلة" فإنّ ذلك لنفوذ تلك الحالة في داخل قلب وجسم الإنسان، وأساساً فإنّ مادّة "غَل"- على وزن جدّ- بمعنى الدخول أو الإدخال، لذا قيل عن حاصل الكسب أو الزراعة وأمثالها "غَلة"(9).
وقد تكون حلقة "الغل" حول الرقبة عريضة أحياناً بحيث تضغط على الذقن وترفع الرأس إلى الأعلى، من هنا فإنّ المقيّد يتحمّل عذاباً فوق العذاب الذي يتحمّله من ذلك القيد بأنّه لا يستطيع مشاهدة أطرافه.
ويا له من تمثيل رائع حيث شبّه القرآن الكريم حال عبدة الأوثان المشركين بحال هذا الإنسان، فقد طوّقوا أنفسهم بطوق "التقليد الأعمى"، وربطوا ذلك بسلسلة "العادات والتقاليد الخرافية" فكانت تلك الأغلال من العرض والإتّساع أنّها أبقت رؤوسهم تنظر إلى الأعلى وحرمتهم بذلك من رؤية الحقائق، وبذلك فإنّهم أسرى لا يملكون القدرة والفعّالية والحركة، ولا قدرة الإبصار(10).
على أيّة حال فإنّ الآية أعلاه، تعتبر شرحاً لحال تلك الفئة الكافرة في الدنيا وحالهم في عالم الآخرة الذي هو تجسيد لمسائل هذا العالم، وليس من الغريب إستخدام صيغة الماضي في تصوير حال الآخرة هنا، فإنّ الكثير من الآيات القرآنية الكريمة تتكلّم بصيغة الماضي حينما تتعرّض إلى الحوادث المسلّم بها في المستقبل للدلالة على مضارع متحقّق الوقوع، وبذلك يمكن أن تكون إشارة إلى كلا المعنيين حالهم في الدنيا وحالهم في الآخرة.
جمع من المفسّرين ذكروا في أسباب نزول هذه الآية والآية التالية لها أنّهما نزلتا في (أبي جهل) أو (رجل من مخزوم) أو قريش، الذين صمّموا مراراً على قتل الرّسول (ص) ولكن الله سبحانه وتعالى منعهم من ذلك بطريقة إعجازية فكلّما أرادوا إنزال ضربة بالنّبي عميت عيونهم عن الإبصار أو أنّهم سلبوا القدرة على التحرّك تماماً(11).
ولكن سبب النّزول ذلك لا يمنع من عمومية مفهوم الآية وسعة معناها، بحيث يشمل جميع أئمّة الكفر والمعاندين، وفي الضمن فهي تعتبر تأييداً لما قلناه في تفسير (فهم لا يؤمنون) في أنّ المقصود بهم هم أئمّة الكفر والنفاق وليس أكثرية المشركين.
الآية التالية تتناول وصفاً آخر لحالة تلك المجموعة، وتمثيلا ناطقاً عن عوامل وأسباب عدم تقبّلهم الحقائق فتقول: (وجعلنا من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً) وحوصروا بين هذين السدّين وأمسوا لا يملكون طريقاً لا إلى الأمام ولا إلى الوراء، آنئذ (فأغشيناهم فهم لا يبصرون).
ويا له من تشبيه رائع!! فهم من جهة كالأسرى في الأغلال والسلاسل، ومن جهة اُخرى فإنّ حلقة الغلّ عريضة بحيث أنّها ترفع رؤوسهم إلى السماء، وتمنعهم من أن يبصروا شيئاً ممّا حولهم، ومن جهة ثالثة فهم محاصرون بين سدود من أمامهم وخلفهم وممنوعون من سلوك طريقهم إلى الأمام أو إلى الخلف. ومن جهة رابعة (فهم لا يبصرون) إذ فقدت عيونهم كلّ قدرة على الإبصار.
تأمّلوا مليّاً ماذا ينتظر ممّن هو على تلك الحال؟ ما هو مقدار إدراكه للحقائق؟
ماذا يمكنه أن يبصر؟ وكيف يمكنه أن ينقل خطاه؟ فكذلك حال المستكبرين المعاندين العمي الصمّ في قبال الحقائق!!
لهذا فإنّه تعالى يقول في آخر آية من هذه المجموعة (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون). فمهما كان حديثك نافذاً في القلوب ومهما كان أثر الوحي السماوي، فإنّه لن يؤثّر ما لم يجد الأرضية المناسبة، فلو سطعت الشمس آلاف السنين على أرض سبخة، ونزلت عليها مياه الأمطار المباركة، وهبّت عليها نسائم الربيع على الدوام، فليس لها أن تنبت سوى الشوك والتبن، لأنّ قابلية القابل شرط مع فاعلية الفاعل.
بحوث
1- فقدان وسائل المعرفة
يحتاج الإنسان للتعرّف على العالم الخارجي إلى الإستفادة من وسائل وأدوات تسمّى "وسائل المعرفة".
قسم منها "باطنية" والقسم الآخر "ظاهرية".
العقل والوجدان والفطرة من وسائل المعرفة الباطنية، والحواس الظاهرية كالأبصار والأسماع وأمثالها وسائل المعرفة الظاهرية.
وقد أعطى الله هذه الوسائل القدرة على الإشتداد شيئاً فشيئاً إذا استُفيد منها على وجه صحيح حتّى تتمكّن من تشخيص الحقائق بصورة أفضل وأدق.
أمّا إذا استُغلّت بطريقة خاطئة، أو لم يتمّ الإستفادة منها أصلا، فإنّها تضطرب بشكل كلّي وتعكس الحقائق بشكل مقلوب، تماماً كالمرآة الصافية إذا غطّاها غبار غليظ أو أنّها تخرّشت بحيث أضحت لا تعكس الصورة عليها، أو أنّها تعكس ما لا ينطبق على الواقع.
هذه الأعمال المغلوطة والمواقف المنحرفة هي التي تصادر وسائل المعرفة من الإنسان، ولهذا السبب فإنّ المقصّر الأصلي هو الإنسان، وهو الذي جنى على نفسه.
الآيات أعلاه تشبيه معبّر عن هذه المسألة المهمّة والمصيرية، فهي تشبه المستكبرين والمتعصّبين والأنانيين والمنافقين بالمقيدين بالأغلال والسلاسل من جهة، سلاسل الكبر والهوس والغرور والتقليد الأعمى الذي وضعوه على أعناقهم وأياديهم. وباُولئك المحاصرين بين سدّين منيعين لا يمكن عبورهما.
ومن جهة اُخرى فإنّ أعينهم مغلقة ولا تبصر.
الغلّ والسلاسل وحدها تكفي لمنعهم من الحركة، والسدّان العظيمان أيضاً وحدهما كافيان لمنعهم من الفعّالية، إنعدام البصر وحده أيضاً عامل مستقل.
هذان السدّان عاليان ومتقاربان إلى حدّ أنّهما وحدهما كافيان لسلبهم القدرة على الإبصار، كما أنّهما كافيان لسلبهم قدرة الحركة. وقد كرّرنا القول بأنّ الإنسان تبقى هدايته ممكنة ما لم يصل إلى تلك المرحلة، أمّا حينما يبلغ تلك المرحلة، فلو إجتمع جميع الأنبياء والأولياء (ع) أيضاً وقرأوا له جميع الكتب السماوية، فلن يؤثّر ذلك فيه.
وذلك ما تمّ التأكيد عليه، سواء في آيات القرآن أو الروايات، وهو أنّ الإنسان إذا زلّت قدمه أو إرتكب ذنباً فعليه أو يتوب فوراً ويتوجّه إلى الله، وأن يبتعد عن التسويف والتأخير، والإصرار والتكرار، ومن أجل أن لا يصل إلى تلك المرحلة عليه أن ينظف صدأ القلب، ويدمّر السدود والموانع الصغيرة قبل أن تتحوّل إلى سدود كبيرة وعظيمة، ويحتفظ بمساره وتكامله وينفض الغبار عن عينيه لكي يتمكّن من الإبصار.
2- السدود من الأمام والخلف
طرح بعض المفسّرين هذا السؤال، وهو أنّ المانع الأساسي من إستمرار الحركة هو السدّ الذي يكون أمام الإنسان، فما معنى السدّ من الخلف؟
وأجاب بعضهم قائلا: "إنّ الإنسان له هداية فطرية ووجدانية- وهداية نظرية إستدلالية- فكأنّه تعالى يقول: "جعلنا من بين أيديهم سدّاً" أي: حرمناهم من سلوك سبيل الهداية النظرية "وجعلنا من خلفهم سدّاً" أي: منعناهم من العودة إلى الهداية الفطرية(12).
وقال البعض الآخر: انّ السدّ من بين أيديهم إشارة إلى الموانع التي تمنعهم من الوصول إلى الآخرة وسلوك طريق السعادة الخالدة، وأمّا السدّ من خلفهم فهو الذي يصدّهم عن تحصيل السعادة الدنيوية(13).
كذلك يحتمل التّفسير التالي أيضاً، وهو إنّ السالك إذا انسدّ الطريق الذي قدّامه فقد فاته المقصد ولكنّه يرجع ليبحث عن طريق آخر يوصله إلى المقصد، فإذا أغلق الطريق من خلفه ومن قدّامه فسوف يكون محروماً من الوصول إلى المقصد حتماً.
وفي الثنايا يتّضح الجواب أيضاً على السؤال التالي: وهو لماذا لم يذكر السدود عن اليمين والشمال؟ ذلك لأنّ الإنسان لا يصل إلى المقصد الذي أمامه بالسير يميناً أو شمالا، إضافةً إلى أنّ السدّ عادةً يبنى في مكان يكون طرفاه الأيمن والأيسر مغلقين، والممر الوحيد هو مكان السدّ الذي ينغلق هو الآخر بوجوده، فيكون الإنسان في حصار كامل عمليّاً.
3- الحرمان من السير الآفاقي والأنفسي
هناك طريقان معروفان لمعرفة الله، الأوّل التأمّل والتفكّر في آثار الله في جسم الإنسان وروحه، وتلك "الآيات الأنفسية"، والثاني التأمّل في الآيات الخارجية الموجودة في الأرض والسماء والثوابت والسيارات من الكواكب، والجبال والبحار. وتلك تسمّى "الآيات الآفاقية" وقد أشار القرآن إليهما في الآية (53) من سورة فصّلت (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبيّن لهم أنّه الحقّ). وحينما يفقد الإنسان قدرة المعرفة، فإنّه يغلق عليه طريق مشاهدة الآيات الأنفسية والآفاقية على حدّ سواء.
في الآيات الماضية وفي جملة (إنّا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون) إشارة إلى المعنى الأوّل، لأنّ الأغلال ترفع رؤوسهم إلى الأعلى بحيث أنّهم لا يملكون القدرة على رؤية أنفسهم، وكذلك فإنّ السدود أمامهم وخلفهم تمنعهم من رؤية ما حولهم، بحيث أنّهم مهما نظروا فلن يبصروا غير السدود، وبذا يحرمون من مشاهدة الآيات الآفاقية.
1- نور الثقلين، مجلّد 4، صفحة 374 و375.
2- نور الثقلين، ج4، ص375.
3- اختلف المفسّرون في تركيب جملة (على صراط مستقيم) بعضهم قال "إنّها جار ومجرور" متعلّقان بـ "المرسلين"، بحيث يكون المعنى "رسالتك على صراط مستقيم" وبعضهم قال: "إنّها خبر بعد خبر" والمعنى "إنّك مستقر على صراط مستقيم"، والبعض الآخر اعتبروها (حال) منصوبة والمعنى "إنّك من المرسلين وحالك على صراط مستقيم" (من الطبيعي أن ليس هناك تفاوت كثير في المعنى).
4- "تنزيل" مفعول منصوب لفعل مقدّر والتقدير "نزل تنزيل العزيز الرحيم"، كذلك فقد وردت إحتمالات اُخرى لإعراب هذه الجملة.
5- أعطى المفسّرون إحتمالات مختلفة حول كون "ما" نافية أو غير ذلك، أغلبهم قالوا بأنّها "نافية"، وقد إعتمدنا ذلك نحن في تفسيرنا، أوّلا: لأنّ جملة "فهم غافلون" دليل على ذلك المعنى، فعدم وجود المنذر سبب للغفلة.
الآية الثالثة من سورة السجدة ـ أيضاً ـ شاهد على ذلك، حيث يقول سبحانه وتعالى: (لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلّهم يهتدون).
وقال بعضهم بأنّ "ما" هنا موصولة، بحيث يكون معنى الجملة "لتنذر قوماً بالذي اُنذر آباؤهم".
وبعض احتملوا أنّ "ما" مصدرية، وعليه يكون معنى الجملة "لتنذر قوماً بنفس الإنذار الذي كان لآبائهم"، ولكن يبدو أنّ كلا الإحتمالين ضعيف.
6- نهج البلاغة، خ33 و104.
7- سورة النصر، الآية 2.
8- بناءً على ما عرضناه يتّضح بأنّ الضمير في "أكثرهم" يعود على قادة القوم وليس على القوم، وشاهد ذلك الآيات التالية لتلك الآية.
9- مفردات الراغب، وقطر المحيط، ومجمع البحرين، مادّة غل.
10- على ما أوردناه أصبح واضحاً أنّ الضمير "هي" في جملة (فهي إلى الأذقان) يعود على "الأغلال" بحيث أنّها رفعت أذقانهم إلى الأعلى، وجملة "فهم مقمحون" تفريع على ذلك. وما احتمله البعض من أنّ "هي" تعود على "الأيدي" التي لم يرد ذكرها في الآية، يبدو بعيداً جدّاً.
11- تفسير الآلوسي، المجلّد 22، صفحة 199.
12- تفسير الفخر الرازي الكبير، تفسير الآيات مورد البحث مجلّد 26، ص45.
13- تفسير القرطبي، تفسير الآيات مورد البحث، مجلّد 15، ص10.