الآيات 42 - 44
﴿وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَـنِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الاُْمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42)اسْتِكْبَاراً فِى الاَْرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّىء وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الاَْوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلا (43) أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِى الاَْرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَىْء فِى السَّمَـوَتِ وَلاَ فِى الاَْرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً (44)﴾
سبب النّزول
ورد في تفسير "الدرّ المنثور" و "روح المعاني" و "مفاتيح الغيب" وتفاسير اُخرى: "بلغ قريشاً قبل مبعث رسول الله (ص) أنّ أهل الكتاب كذّبوا رسلهم فقالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذّبوهم، فوالله لئن أتانا رسول لنكوننّ أهدى من إحدى الاُمم"(1). فلّما أشرقت شمس الإسلام من اُفق بلادهم، وجاءهم النّبي (ص) بالكتاب السماوي، رفضوا، بل كذّبوا، وحاربوا، ومارسوا أنواع المكر والخديعة.
فنزلت الآيات أعلاه تلومهم وتوبّخهم على إدّعاءاتهم الفارغة.
التّفسير
إستكبارهم ومكرهم سبب شقائهم:
تواصل هذه الآيات الحديث عن المشركين ومصيرهم في الدنيا والآخرة.
الآية الاُولى تقول: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكوننّ أهدى من إحدى الاُمم)(2).
"أيمان" جمع "يمين" بمعنى القسم، وفي الأصل فإنّ معنى اليمين هو اليد اليمنى، واليمين في الحلف مستعار منها إعتباراً بما يفعله المعاهد والمحالف وغيره من المصافحة باليمين عندها.
"جهد": من "الجهاد" بمعنى السعي والمشقّة، وبذا يكون معنى (جهد أيمانهم)حلفوا واجتهدوا في الحلف على أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم.
نعم، فعندما طالعوا صفحات التأريخ، واطّلعوا على عدم وفاء وعدم شكر تلك الأقوام وجناياتهم بالنسبة إلى أنبيائهم وخصوصاً اليهود، تعجّبوا كثيراً وادّعوا لأنفسهم الإدّعاءات وتفاخروا على هؤلاء بأن يكون حالهم أفضل منهم.
ولكن بمجرّد أن واجهوا محكّ التجربة، ودخلوا كورة الإمتحان المشتعلة، وتحقّق طلبهم ببعثة نبيّ منهم، تبيّن أنّهم من نفس تلك الطينة، حيث أشار القرآن إلى ذلك بعد تلك الجملة الاُولى من الآية بالقول: (فلمّا جاءهم نذير ما زادهم إلاّ نفوراً).
هذا التعبير يدلّل على أنّهم كانوا قبل بعثة النّبي الأكرم (ص)- وعلى خلاف ما يدّعون- بعيدين عن دين الله سبحانه وتعالى، فقد كانت حنيفية إبراهيم معروفة بينهم، إلاّ أنّهم لم يكونوا يحترمونها، كذلك لم يكن لديهم أي إعتبار لما كان يمليه العقل من تصرفات. وبقيام النّبي (ص) ونيله من عقائدهم وأعرافهم وعصبيتهم الجاهلية، ووقوع مصالحهم غير المشروعة في الخطر، زادت الفاصلة بينهم وبين الحقّ، نعم كانوا بعيدين عن الحقّ، لكنّهم إزدادوا بعداً عن الحقّ بعد بعثة النّبي الأكرم (ص).
الآية التالية توضيح لما في الآية السابقة، تقول: إنّ بُعدهم عن الحقّ لأنّهم سلكوا طريق الإستكبار في الأرض، ولم تكن لديهم أهلية الخضوع لمنطق الحقّ (استكباراً في الأرض)(3) وكذلك لأنّهم كانوا يحتالون ويسيئون (ومكر السيىء)(4).
ولكن (ولا يحيق المكر السيء إلاّ بأهله).
جملة "لا يحيق": الفعل (يحيق) من (حاق) بمعنى نزل وأصاب، والجملة معناها "لا ينزل ولا يصيب ولا يحيط" إشارة إلى أنّ الإحتيال قد يؤدّي- مؤقتاً- إلى الإحاطة بالآخرين، ولكنّه في النهاية يعود على صاحبه، فهو مفضوح وضعيف وعاجز أمام خلق الله، وسيندمون حتماً أمام الله سبحانه وتعالى، وذلك هو المصير المشؤوم الذي انتهى إليه مشركو مكّة.
هذه الآية في الحقيقة تريد القول بأنّهم لم يكتفوا فقط بالإبتعاد عن النّبي (ص)، بل إنّهم استعانوا بكلّ قدرتهم وإستطاعتهم لأجل إنزال ضربة قويّة به وبدعوته، والسبب في كلّ ذلك لم يكن سوى الكبر والغرور وعدم الرضوخ للحقّ.
ختام الآية تهديد لتلك المجموعة المستكبرة الماكرة والخائنة، وبجملة عميقة المعنى وبكلمات تهزّ المشاعر، يقول تعالى: (فهل ينظرون إلاّ سنّة الأوّلين)(5).
هذه الجملة القصيرة تشير إلى جميع المصائر المشؤومة التي أحاقت بالأقوام السالفة كقوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم فرعون، حيث أصاب كلا منهم بلاء عظيم، والقرآن الكريم أشار مراراً إلى جوانب من مصائر هؤلاء الأقوام المشؤومة والأليمة. وهنا وبتلك الجملة القصيرة جسّد جميع ذلك أمام بصيرة تلك الفئة في مكّة.
ثمّ تضيف الآية لزيادة التأكيد قائلة: (فلن تجد لسنّة الله تبديلا ولن تجد لسنّة الله تحويلا). فكيف يمكن لله سبحانه وتعالى أن يعاقب قوماً على أعمال معيّنة، ثمّ لا يعاقب غيرهم الذين يسلكون نفس سلوكهم؟ أليس هو العدل الحكيم، وكلّ ما يفعله بناءً على حكمة وعدل تاميين؟!
فإنّ تغيير السنن يمكن تصوّره بالنسبة إلى من يمتلك إطّلاعاً أو معرفة محدودة، إذ يزداد معرفة بمرور الزمان يعرض عن سنّة سابقة، أو يكون الإنسان عالماً، إلاّ أنّه لا يتصرّف طبقاً للحكمة والعدالة، بل طبقاً لميول خاصّة في نفسه، ولكن الله سبحانه وتعالى منزّه عن جميع تلك الاُمور، وسنّته حاكمة على من يأتي كما كانت تحكم من مضى، ولا تقبل التغيير أبداً.
وقد أكّد القرآن الكريم في مواضع عديدة على قضيّة ثبات سنن الله وعدم تغيّرها، وقد فصّلنا الحديث في ذلك في تفسير الآية (62) من سورة الأحزاب، وبالجملة فإنّ في هذا العالم- عالم التكوين التشريع- ثمّة قوانين ثابتة لا تتغيّر، عبّر عنها القرآن الكريم "السنن الإلهيّة" والتي لا سبيل إلى تغيّرها.
هذه القوانين كما أنّها حكمت في الماضي فإنّها حاكمة اليوم وغداً. ومجازات المستكبرين الكفرة الذين لم تنفع بهم الموعظة الإلهية من هذه السنن، ومنها أيضاً نصرة أتباع الحقّ الذين لا ينثنون عن جدّهم وسعيهم المخلص، هاتان السنّتان كانتا ولا تزالان ثابتتين أمس واليوم وغداً(6).
الجدير بالملاحظة أنّه ورد في بعض الآيات القرآنية الحديث عن "عدم تبديل" السنن الإلهيّة، الأحزاب- 62، وفي البعض الآخر الحديث عن "عدم تحويل" السنن الإلهية، سورة الإسراء- 77، ولكن الآية مورد البحث أكّدت على الحالتين معاً.
فهل أنّ هاتين الحالتين تعبير عن معنى واحد، بحيث أنّهما ذكرتا معاً للتأكيد، أم أنّ كلا منهما يشير إلى معنى مستقل؟
بمراجعة أصل اللفظين يتّضح أنّهما إشارة إلى معنيين مختلفين: (تبديل) الشيء، تعويضه بغيره كاملا، بحيث يرفع الأوّل ويوضع الثاني، ولكن (تحويل) الشيء، هو تغيّر بعض صفات الشيء الأوّل من ناحية كيفية أو كمية مع بقائه.
وعليه فإنّ السنن الإلهية لا تقبل الإستبدال ولا التعويض الكامل، ولا التغيير النسبي من حيث الشدّة والضعف أو القلّة والزيادة. من جملتها أنّ الله سبحانه وتعالى يوقع عقوبات متشابهة بالنسبة إلى الذنوب والجرائم المتشابهة ومن جميع الجهات، لا أن يوقع العقاب على مجموعة ولا يوقعه على مجموعة اُخرى. ولا أن يوقع عقاباً أقلّ شدّة على مجموعة دون اُخرى، وهكذا قانون يستند إلى أصل ثابت، لا يقبل التبديل ولا التحويل(7).
آخر ما نريد التوقّف عنده هو أنّ الآية تضيف "سنّة" إلى لفظ الجلالة "الله" وفي موضع آخر من نفس الآية تضيف "سنّة" إلى "الأوّلين" ويظهر في باديء الأمر وجود تنافي بين الحالتين، ولكن الأمر ليس كذلك، لأنّه في الحالة الاُولى اُضيفت "سنّة" إلى "الفاعل"، وفي الحالة الثانية اُضيفت "سنّة" إلى "المفعول به". ففي الحالة الاُولى تعبير عن مجري السنّة، وفي الثانية عمّن اُجريت عليه السنّة.
الآية التالية تدعو هؤلاء المشركين والمجرمين إلى مطالعة آثار الماضين والمصير الذي وصلوا إليه، حتّى يروا بأُمّ أعينهم في آثارهم ومواطنهم السابقة جميع ما سمعوه، وبذا يتحوّل البيان إلى العيان. فتقول الآية الكريمة: (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم).
فإذا كانوا يتصوّرون أنّهم أشدّ قوّة من اُولئك فهم على إشتباه عظيم تلك، لأنّ الأقوام السالفة كانت أقوى منهم: (وكانوا أشدّ منهم قوّةً).
فالفراعنة الذين حكموا مصر، ونمرود الذي حكم بابل ودولا اُخرى بمنتهى القدرة، كانوا أقوياء إلى درجة لا يمكن قياسها مع قوّة مشركي مكّة.
إضافةً إلى أنّ الإنسان مهما بلغ من القوّة والقدرة، فإنّ قدرته وقوّته لا شيء إزاء قوّة الله، لماذا؟ لأنّه (وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض)(8) فهو العليم القدير، لا يخفى عليه شيء، ولا يستعصي على قدرته شيء، ولا يغلبه أحد، فلو تصوّر هؤلاء المستكبرون الماكرون أنّهم يستطيعون الفرار من يد قدرته تعالى فهم مشتبهون أشدّ الإشتباه. وإذا لم ينفضوا أيديهم من تلك الأعمال السيّئة، فسوف يلاقون نفس المصير الذي لقيه من كان قبلهم.
يمرّ بنا مراراً التعرّض لهذا الأمر في القرآن الكريم، وهو أنّ الله سبحانه وتعالى يدعو الكفّار والعاصين إلى "السير في الأرض" ومشاهدة آثار الأقوام الماضين ومصائرهم الأليمة.
ورد في الآية (التاسعة) من سورة الروم (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشدّ منهم قوّة وأثاروا الأرض وعمّروها أكثر ممّا عمّروها وجاءتهم رسلهم بالبيّنات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).
وورد شبيه هذا المعنى في سورة يوسف- 109، والحجّ- 46، وغافر 21 و82، والأنعام- 11 إلى غير ذلك.
هذا التأكيد المتكرّر دليل على التأثير الخاصّ لتلك المشاهدات في النفس الإنسانية، فإنّ عليهم أن يروا بأعينهم ما قرأوه في التأريخ أو سمعوه، ليذهبوا وينظروا عروش الفراعنة المحطّمة. وقصور الأكاسرة المدمّرة، وقبور القياصرة الموحشة، وعظام نمرود المتفسّخة، وأرض قوم لوط وثمود الخالية، ثمّ ليستمعوا إلى نصائحهم الصامتة، وأنينهم من تحت التراب، وينظروا باُمّ أعينهم ماذا حلّ بهؤلاء.
1- أغلب التفاسير.
2- لأن "إحدى" جاءت بصيغة المفرد، فمعنى الآية "أنّهم سيكونون أكثر اهتداءاً من واحدة من الاُمم" وقد تكون الإشارة إلى اليهود (لأنّ صيغة المفرد في الجملة المثبتة ليس فيها معنى العموم) يبدو ذلك للوهلة الاُولى، ولكن كما أشار بعض المفسّرين فإنّ قرائن الحال تشير إلى أنّ المقصود من الآية العموم، لأنّ الحديث في مقام المبالغة والتأكيد، وتشير إلى إدّعائهم بأنّه في حال بعثة رسول إليهم فانّهم سيكونون أهدى من جميع الاُمم السابقة.
3- أغلب المفسّرين قالوا بأنّ "استكباراً" هو "مفعول لأجله" من حيث التركيب النحوي وهي بيان لعلّة "النفور" وإبتعادهم عن الحقّ، و "مكر السيء" عطف على "إستكباراً" في حين أنّ البعض الآخر قال: إنّها عطف على "نفوراً".
4- "مكر السييء" إضافة (للجنس) إلى (النوع)، كما هو نقول: "علم الفقه" لأنّ (مكر) بمعنى (البحث عن حلّ) سواء كان خيراً أو شرّاً، لذا فإنّ هذه الكلمة تطلق كصفة لله سبحانه (ومكروا ومكر الله) آل عمران ـ 54، ولكن "السيء" تحصر المكر في نوع خاصّ منه، وهو الإحتيال.
5- "نظر" و "إنتظار" تأتي أحياناً لتشير إلى نفس المعنى. كما يقول الراغب.
6- لنا شرحاً مفصّل بهذا الخصوص في سورتي الأحزاب والإسراء.
7- جمع من المفسّرين فسّروا "تحويل" هنا بمعنى "نقل مكان العذاب" بمعنى أنّ الله سبحانه وتعالى ينقل عقوبته من شخص لينزلها على شخص آخر. ومع ملاحظة أنّ هذا التّفسير لا ينسجم على ما يبدو مع الآية أعلاه، فالحديث ليس عن نقل العذاب من شخص إلى آخر، بل عن عدم قبول السنن للزيادة والنقص أو التغيير والتبديل، فكأنّ هؤلاء المفسّرين خلطوا بين كلمتي "تحوّل" و "تحويل"، وقد ورد في بعض متون اللغة كمجمع البحرين "التحويل: تصيير الشيء على خلاف ما كان. والتحوّل: التنقّل من موضع إلى موضع".
8- جملة "ليعجزه" كما ذكرنا سابقاً من مادّة "عجز" وهي هنا بمعنى: يجعله عاجزاً، لذا ففي كثير من المواضع جاءت بمعنى الفرار من قدرة الله، أو بمعنى عدم التمكّن من شخص.