الآيات 15 - 18
﴿يَأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ (15)إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْق جَدِيد (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيز (17) وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِها لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (18)﴾
التّفسير
لا تزر وازرة وزر اُخرى:
بعد الدعوة المؤكّدة إلى التوحيد ومحاربة أي شكل من أشكال الشرك وعبادة الأوثان، يحتمل أن يتوهّم البعض فيقول: ما هي حاجة الله لأن يُعبد بحيث يصرّ كلّ هذا الإصرار، ويؤكّد كلّ هذا التأكيد على عبادته وحده؟ لذا فإنّ هذه الآيات توضّح هذه الحقيقة وهي أنّنا نحن المحتاجون لعبادته لا هو سبحانه وتعالى، فتقول الآية الكريمة: (ياأيّها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد).
فيا له من حديث مهمّ وقيم ذلك الذي يوضّح موقعنا في عالم الوجود من خالق الوجود، ويكشف الكثير من الغموض، ويجيب على الكثير من الأسئلة.
نعم، فالقائم بذاته غير المحتاج لسواه، واحد أحد، وهو الله تعالى، وكلّ البشر بل كلّ الموجودات محتاجة إليه في جميع شؤونها وفقيرة إليه ومرتبطة بذلك الوجود المستقل بحيث لو قطع إرتباطها به لحظة واحدة لأصبحت عدم في عدم، فكما أنّه غير محتاج مطلقاً، فإنّ البشر يمثّلون الفقر المطلق، وكما أنّه قائم بذاته، فالمخلوقات كلّها قائمة به تعالى، لأنّه وجود لا متناهي من كلّ ناحية، وواجب الوجود في الذات والصفات.
ومع حال كهذه، ما حاجته تعالى لعبادتنا؟! فنحن المحتاجون والفقراء إلى الله ونسلك سبيل تكاملنا عن طريق عبادته وطاعته، ونقترب بذلك من مصدر الفيض اللامتناهي، ونغترف من أنوار ذاته وصفاته.
وفي الحقيقة فإنّ هذه الآية توضيح للآيات السابقة حيث يقول تعالى: (ذلكم الله ربّكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير).
وعليه فإنّ البشر محتاجون له لا لسواه، لذا فيجب عليهم أن لا يطأطئوا رؤوسهم لغيره تعالى، وأن لا يطلبوا حاجاتهم إلاّ منه تبارك إسمه، لأنّ ما سوى الله محتاج إلى الله كحاجتهم إليه، وحتّى أنّ تعظيم أنبياء الله وقادة الحقّ إنّما هو لأنّهم رسله تعالى وممثّلوه، لا لذواتهم مستقلّة.
وعليه فهو "غني" كما أنّه "حميد" أي إنّه في عين إستغنائه عن كلّ أحد، فهو رحيم وعطوف وأهل بكل حمد وشكر، وفي عين انّه أرحم الراحمين، فهو غير محتاج لأحد مطلقاً.
الإلتفات إلى هذه الحقيقة له أثران إيجابيان على المؤمنين، فهي تستنزلهم من مركب الغرور والأنانية والطغيان من جانب، وتنبههم إلى أنّهم لا يملكون شيئاً من أنفسهم يستقلّون به، وأنّهم مؤتمنون على كلّ ما في أيديهم من جانب آخر، لكي لا يمدّوا يد الحاجة إلى غيره، ولا يضعوا طوق العبودية لغير الله في أعناقهم، وأن يتحرّروا من كلّ تعلّق آخر، ويعتمدوا على همّتهم، وبهذه النظرة الشمولية يرى المؤمنون أنّ كلّ موجود في هذا العالم إنّما هو من أشعّة وجوده تعالى، وأن لا ينشغلوا عن (مسبّب الأسباب) بالأسباب ذاتها.
جمع من الفلاسفة عدّوا هذه الآية إشارةً إلى البرهان المعروف "الإمكان والفقر" أو "الإمكان والوجوب" لإثبات واجب الوجود، مع أنّ الآية ليست في مقام بيان الإستدلال على إثبات وجود الله، بل إنّها شرح لصفاته تعالى، ولكن يمكن إعتبار البرهان المذكور من لوازم مفاد هذه الآية.
شرح برهان الإمكان والوجوب "الفقر والغنى":
إنّ جميع الموجودات التي نراها في هذا العالم كانت كلّها ذات يوم "عدماً"، ثمّ اكتست بلباس الوجود، أو بتعبير أدقّ: كان يوم لم تكن شيئاً فيه، ثمّ صارت وجوداً، وهذا بحدّ ذاته دليل على أنّها معلولة في وجودها لوجود آخر، وليس لها وجود من ذاتها.
ونعلم بأنّ أي وجود معلول، مرتبط وقائم بعلّته وكلّه إحتياج، وإذا كانت تلك (العلّة) أيضاً معلولة لعلّة اُخرى فإنّها بدورها ستكون محتاجة، ولو تسلسل هذا الأمر إلى ما لا نهاية فسوف تكون الحصيلة مجموعة من الموجودات المحتاجة الفقيرة، وبديهي أنّ مجموعة كهذه لن يكون لها وجود أبداً، لأنّ منتهى الإحتياج إحتياج، ومنتهى الفقر فقر، وما لا نهاية له من الأصفار لا يمكن أن يحصل منه أي عدد، كما أنّه ممّا لا نهاية له من المرتبطات بغيرها لا تنتج أي حالة إستقلال.
من هنا نستنتج أنّنا في النهاية يجب أن نصل إلى وجود قائم بذاته، ومستقل من جميع النواحي، وهو علّة لا معلول، وهو واجب الوجود.
هنا يثار السؤال التالي: لماذا تتعرّض الآية أعلاه للإنسان وحاجته إلى الله فقط؟ بينما جميع الموجودات تشترك في هذا الفقر؟
والجواب: إذا كان الإنسان- الذي يعتبر سيّد المخلوقات- غارقاً في الحاجة والفقر إلى الله، فإنّ حال بقيّة الموجودات واضحة، وبتعبير آخر فإنّ بقيّة الموجودات تشترك مع الإنسان في الفقر الذي هو "إمكان الوجود".
وتخصيص الحديث في الإنسان إنّما هو لأجل كبح جماح غروره، وإلفات نظره إلى حاجته إلى الله في كلّ حال، وفي كلّ شيء وكلّ مكان، ليكون ذلك أساس الصفات الحسنة والفضائل والملكات الأخلاقية، ذلك الإلتفات الذي يؤدّي إلى التواضع وترك الظلم والغرور والكبر والعصبية والبخل والحرص والحسد، ويبعث على التواضع أمام الحقّ.
ولتأكيد هذا الفقر والحاجة في الإنسان يقول تعالى في الآية التالية: (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد).
وعليه فهو سبحانه وتعالى ليس بحاجة إليكم أو إلى عبادتكم، وإنّما أنتم الفقراء إليه.
وهذه الآية شبيهة بما ورد في الآية (133) من سورة الأنعام حيث يقول تعالى: (وربّك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذريّة قوم آخرين).
فهو تعالى ليس محتاجاً لطاعتكم ولا خائفاً من معصيتكم، وفي نفس الوقت فإنّ رحمته الواسعة تشملكم جميعاً، ولا ينقص من عظمته شيئاً ذهاب العالم بأسره، كما أنّ خلق هذا العالم لا يضيف إلى مقام كبريائه شيئاً.
وفي الآية الثالثة أيضاً يعود التأكيد مرّةً ثانية فيقول تعالى: (وما ذلك على الله بعزيز) نعم، فإنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، وهذا يصدق على جميع عالم الوجود.
على كلّ حال، فإنّه تعالى إذا أمركم بالإيمان والطاعة والعبادة فإنّما ذلك
لأجلكم أنتم، وكلّ ما ينشأ عن ذلك من فائدة أو بركة إنّما يعود عليكم.
الآية الأخيرة من هذه الآيات تشير إلى خمسة مواضيع فيما يتعلّق بما سبق بحثه في الآيات السابقة:
الأوّل: من الممكن أن يثير ما ورد في الآية الماضية من قوله تعالى: (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد) سؤالا في أذهان البعض من أنّ المقصودين في هذه الآية ليس المذنبين فقط، إذ أنّ المؤمنين الصالحين موجودون في كلّ عصر وزمان، فهل يمكن أن يكون هؤلاء أيضاً معرضين للعقوبات المترتبة على أعمال الطالحين، ويُحكمون بالفناء على حد سواء؟
هنا يجيب (ولا تزر وازرة وزر اُخرى).
"وِزر" بمعنى الثقل، وقد اُخذ من "وَزر" (على زنة كرب) بمعنى الملجأ في الجبل، وأحياناً يأتي بمعنى المسؤولية ويعبّر بذلك عن الإثم كما يعبّر عنه بالثقل، والوزير المتحمّل ثقل المسؤولية من أميره، والموازرة: المعاونة(1)، لأنّ الشخص عند المعاونة يتحمّل قسطاً من الثقل عن رفيقه.
وهذه الجملة تعتبر واحدة من الاُسس الهامّة في الإعتقادات الإسلامية، والحقيقة أنّها ترتبط من جانب بالعدل الإلهي، بحيث يرتهن كلّ بعمله. وهو تعالى إنّما يثيب الشخص على سعيه وإجتهاده في طريق الخير، ويعاقبه على ذنبه.
ومن جانب آخر فإنّ فيها إشارة إلى شدّة العقوبة يوم القيامة، بحيث لا يكون أحد مستعدّاً لتحمّل وزر عمل غيره على عاتقه مهما كان قريباً منه.
والإلتفات إلى هذا المعنى له الأثر الفعّال في البناء الروحي للإنسان، حيث يكون مراقباً لنفسه، ولا يسمح لها بالفساد بحجّة فساد الأقران أو المحيط، ففساد المحيط لا يمكن إعتباره مسوغاً لإفساد النفس، إذ أنّ كلا يحمل وحده وزر ذنبه.
ومن جانب آخر فإنّه يفهم الناس ويبصرهم بأنّ حساب الله للمجتمع لا يكون حساباً جمعياً، بل إنّ كلّ فرد يحاسب بشكل مستقل، أي إنّ الفرد إذا أدّى ما عليه من تطهير نفسه، ومحاربة الفساد، فليس عليه أدنى بأس أو خوف إذا كان العالم بأسره ملوّثين بالكفر والشرك والظلم والمعصية.
وأساساً فلن يكون لأي برنامج تربوي أثر ما لم يولّ إهتماماً لهذا الأصل المهمّ (دقّق النظر)!!
هذه المسألة تطرح في الجملة الثانية من الآية بشكل آخر، يقول تعالى: (وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى)(2).
في حديث عن ابن عبّاس أو غيره، أنّ اُمّاً وإبنها يأتيان في يوم القيامة وكلاًّ منهما عليه ذنوب كثيرة، وتطلب الاُمّ من إبنها أن يحمل عنها بعض تلك المسؤوليات في قبال تربيتها له وحملها به، فيقول لها إبتعدي عنّي فأنا أسوأ منك حالا(3).
ويبرز هنا السؤال التالي: هل أنّ هذه الآية تنافي ما ورد في الروايات الكثيرة حول السنّة السيّئة والسنّة الحسنة؟ حيث أنّ الروايات تقول: "من سنّ سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجره شيء، ومن سنّ سنّة سيّئة كان له وزرها ووزر من عمل بها".
ولكنّنا إذا التفتنا إلى نكتة واحدة، يتّضح الجواب على هذا السؤال، وهي أنّ عدم تسجيل ذنب أحد على آخر، إنّما هو في صورة أن لا يكون له سهم في ذلك
العمل، ولكن إذا كان له سهم في إيجاد سنّة، أو الإعانة والمساعدة أو الترغيب والتشجيع، فمن المسلّم أنّه يُحسب من عمله ويكون شريكاً ومساهماً في ذلك العمل.
وأخيراً، في الجملة الثالثة من الآية، ترفع الستارة عن حقيقة أنّ إنذارات الرّسول (ص) لها أثرها في القلوب المهيّأة لذلك فقط، تقول الآية الكريمة: (إنّما تنذر الذين يخشون ربّهم بالغيب وأقاموا الصلاة).
فإن لم يكن خوف الله متمكّناً من القلب، ولم يكن هناك إحساس بمراقبة قوّة غيبية في السرّ أو العلن، ولم تنفع الصلاة التي تؤدّي إلى إحياء القلب والتذكير بالله في تقوية ذلك الإحساس ... فلن يكون لإنذارات الأنبياء أثر يذكر.
وحين لا يكون الإنسان قد إعتنق عقيدة ما ولم يؤمن، فلو لم تكن لديه روح البحث عن الحقّ، وإحساس بالمسؤولية تجاه معرفة الحقيقة، فلن يصغي لدعوة الأنبياء، ولن يتفكّر في آيات الله في هذه الدنيا.
وفي الجملة الرابعة يعود مرّة اُخرى إلى حقيقة (إنّ الله غير محتاج لأحد) فتضيف: (ومن تزكّى فإنّما يتزكّى لنفسه).
وفي الختام ينبّه في الجملة الخامسة إلى أنّ المحسنين والمسيئين إن لم ينالوا جزاء أعمالهم في الدنيا فليس لذلك أهميّة ما دام المصير إلى الله (وإلى الله المصير) وبالتالي فانّه سيحاسب الجميع على أعمالهم.
1- الراغب في مفرداته كتاب الواو.
2- "مثقلة" بمعنى "الحامل لحمل ثقيل" ويقصد بها هنا حامل الوزر على عاتقه، و (حمل): على ما يقوله الراغب: معنى واحد اعتبر في أشياء كثيرة، فسوّي بين لفظة في فعل وفرّق بين كثير منها في مصادرها، فقيل في الأثقال المحمولة في الظاهر كالشيء المحمول على الظهر (حِملٌ)، وفي الأثقال المحمولة في الباطن (حَملٌ) كالولد في البطن والماء في السحاب والثمرة في الشجرة تشبيهاً بحمل المرأة، ولأنّ ما ورد في هذه الآية، هو تشبيه للذنب بالحمل المحمول على العاتق، فيجب أن تقرأ بكسر الحاء.
3- مع أنّ الحديث ورد في تفاسير مختلفة حيناً عن الفضيل بن عيّاض، وحيناً عن ابن عبّاس، ولكن يستبعد أن يكون الحديث عنهما مستقلا، فمن الممكن أن يكون أصل الحديث عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
راجع تفسير (أبو الفتوح، والقرطبي، وروح البيان) وقد أوردناه بالمعنى.