الآيتان 13 - 14
﴿يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاَِجَل مُّسَمّىً ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِير (13) إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَـمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير (14)﴾
التّفسير
الأصنام لا تسمع دعاءكم!!
تعاود هذه الآيات الإشارة إلى قسم آخر من آيات التوحيد والنعم الإلهية اللامتناهية، لكي تدفع الإنسان مع تعريفه بتلك النعم إلى شكرها ومعرفة المعبود الحقيقي، وليرجع عن أيّ شرك أو عبادة خرافية، يقول تعالى: (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل).
"يولج" من مادّة "إيلاج" بمعنى الدخول في مضيق. ويمكن أن يكون إشارة إلى أحد المعنيين أو كليهما، أي: الزيادة والنقص التدريجي في الليل والنهار على مدار السنة. ممّا يؤدّي إلى حصول الفصول المختلفة بكلّ آثارها وبركاتها، أو الإنتقال التدريجي من الليل إلى النهار وبالعكس، وذلك بواسطة الشفق والغسق الذي يقلّل من مخاطر الإنتقال المفاجىء من النور إلى الظلام وبالعكس(1).
ثمّ يشير إلى مسألة تسخير الشمس والقمر فيقول تعالى: (وسخّر الشمس والقمر). وأيّ تسخير أفضل من حركة هذين الكوكبين باتّجاه تحقيق المنافع المختلفة للبشر، وهذا التسخير يعتبر مصدراً لمختلف أنواع البركات في حياة البشر، فإنّ السحاب والريح والقمر والشمس والأفلاك في حركة دائبة لكي يستطيع الإنسان إدامة حياته، وليفيق من غفلته فيذكر الواهب الأصلي لهذه المواهب بالنسبة إلى تسخير الشمس والقمر عرضنا شرحاً في تفسير الآية الثانية من سورة الرعد والآية 33 من سورة إبراهيم).
ومع ما تتمتّع به الشمس والقمر في أفلاكها من مسير دقيق ومنتظم لتؤدّي المنفعة المناسبة والجيّدة للبشر، فإنّ النظام الذي يحكمها ليس بخالد، فحتّى هذه السيارات العظيمة بكلّ ذلك النور والإشراق ستصيبها العتمة في النهاية. وتتوقّف عن العمل. لذا يشير تعالى إلى ذلك بعد ذكر التسخير فيقول: (كلّ يجري لأجل مسمّى).
فبمقتضى (إذا الشمس كوّرت وإذا النجوم إنكدرت)(2)، فإنّها جميعاً ستواجه مصير الإنطفاء والفناء.
بعض المفسّرين ذكر تفسيراً آخر لجملة (أجل مسمّى)، وذلك أنّها تعبير عن حركة دوران الشمس والقمر حول محوريهما، والتي تتمّ في الاُولى في عام، وفي الثانية في شهر واحد(3).
ولكن بملاحظة الموارد التي استعمل فيها هذا التعبير في القرآن الكريم- بمعنى إنتهاء العمر- يتّضح أنّ التّفسير المشار إليه صحيحاً، كما أنّ التّفسير الأوّل أيضاً- أي نهاية عمر الشمس والقمر- ورد في الآيات (61- النحل و45- فاطر 42- الزمر 4- النور 67- غافر).
ثمّ يقول تعالى مسلّطاً الضوء على نتيجة هذا البحث التوحيدي (ذلكم الله ربّكم) الله الذي قرّر نظام النوم والظلام والحركات الدقيقة للشمس والقمر بكلّ بركاتها. (له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير)(4).
"قطمير": على ما يقول الراغب: هو الأثر في ظهر النواة، وذلك مثل للشيء الطفيف، ويقول "الطبرسي" في مجمع البيان والقرطبي في تفسيره: هو الغشاء الرقيق الشفّاف الذي يغلف نواة التمر بكاملها. وعلى كلّ حال فهو كناية عن موجودات حقيرة تافهة.
نعم فهذه الأصنام لا تضرّ ولا تنفع، لا تدفع عنكم ولا حتّى عن نفسها، لا تحكم ولا تملك حتّى غلاف نواة تمر! فإذا كانت حالها كذلك، فكيف تعبدونها أيّها المغفّلون، وتريدون منها حلا لمشكلاتكم.
ثمّ تضيف الآية: (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم)، لأنّها قطع من الحجر والخشب لا أكثر، جمادات لا شعور لها، (ولو سمعوا ما استجابوا لكم).
إذ اتّضح أنّها لا تملك نفعاً ولا ضرّاً حتّى بمقدار (قطمير) وعلى هذا فكيف تنتظرون منها أن تعمل لكم شيئاً أو تحلّ لكم عقدة.
وأدهى من ذلك (ويوم القيامة يكفرون بشرككم). ويقولون: اللهمّ إنّهم لم يعبدوننا، بل إنّهم عبدوا أهواءهم في الحقيقة.
هذه الشهادة إمّا بلسان الحال الذي يدركه كلّ شخص بآذان وجدانه، أو أنّ الله في ذلك اليوم يعطي فيه جوارح الإنسان وأعضاءه إمكانية التكلّم فتنطق هذه الأصنام أيضاً، ويشهدن بأنّ هؤلاء المشركين المنحرفين إنّما عبدوا في الحقيقة أوهامهم وشهواتهم.
ما ورد في هذه الآية شبيه بما ورد في الآية (28) من سورة يونس حيث يقول تعالى: (ويوم نحشرهم جميعاً ثمّ نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيّلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيّانا تعبدون).
احتمل جمع من المفسّرين أنّ أمثال هذه التعبيرات وردت بخصوص معبودات من أمثال الملائكة أو حضرة المسيح (ع)، لأنّ الحديث والتكلّم من خصوصية هؤلاء فقط، وجملة (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم) إشارة إلى أنّهم مشغولون بأنفسهم إلى درجة أنّكم لو خاطبتموهم لا يسمعون دعائكم(5).
ولكن- مع الإلتفات إلى سعة مفهوم (الذين تدعون من دونه)- يظهر أنّ المقصود هو الأصنام، وأنّ جملة (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم) ترتبط بالدنيا خاصّة. ثمّ يقول تعالى في ختام الآية من أجل تأكيد أكثر: أن لا أحد يخبرك عن جميع الحقائق كما يخبرك الله تعالى: (ولا ينبئك مثل خبير).
فإذا قالت الآية أنّ الأصنام تتنكّر لكم في يوم القيامة، وتتضايق منكم، فلا تتعجّبوا من هذا القول، فإنّ من يخبركم هو الذي يعلم بكلّ ما في هذا الكون بالتفصيل، فهو المحيط علماً بالمستقبل والماضي والحاضر.
بحث
الدين أصل التحوّلات:
بسبب إحساس العقائد المادية والشيوعية بالخطر من المذاهب السماوية الحقّة، فهي تدعوها بـ (أفيون الشعوب) أي أنّها عامل تخدير لأفكار الجماهير!!
وقد سعى المستعمرون في الغرب والشرق إلى تلقين مثل هذا الرأي عن طريق علماء الإجتماع وعلماء النفس، وذلك لتضليل الجماهير وإبعادها عن فطرتها، والذي دفعهم إلى هذا هو خوفهم وحذرهم من نهضة الشعوب المؤمنة المسلّحة بالأفكار الدينية السماوية، ومن إستقبالها الشهادة في سبيل الله بصدور رحبة!.. والأنكى من ذلك أنّهم أوعزوا منشأ الدين لجهل البشر بالعوامل الطبيعيّة.
والجواب على مثل الكلام مرّ في محلّه، ولسنا هنا في معرض سرد الردود جميعاً، ولكن الآيات التي نحن بصددها تدعو الإنسان إلى التفكّر والتدبّر، واعتبرت طريق التفكّر هو الأساس لتطور وتكامل البشرية.
كيف يمكن أن يكون الإسلام داعية لتخدير أفكار الناس، أو أنّه نشأ بفعل جهل البشر بالعوامل الطبيعيّة، ويدعو الناس إلى النهضة والتفكّر والعيش بصفاء في محيط بعيد عن الضوضاء والضجيج الإعلامي المسموم، بعيداً عن التعصّب والعناد؟! هل يمكن إتّهام الدين الذي يدعو الناس لمثل هذه الأفكار بكونه أفيون الشعب، أو عامل تخدير لها؟!
ويمكن هنا القول: إنّ على الإنسان أن لا يفكّر لوحده وبشكل إنفرادي، بل عليه مشاورة الآخرين وأن تتعاضد آراؤه معهم، لسماع دعوة الأنبياء الصادقة، ومطالعة الدلائل والآيات التي جاؤوا بها .. عند ذلك يمكن للإنسان الإذعان للحقّ.
إنّ الأحداث التي مرّت في عصرنا الحالي سيّما نهضة المسلمين الثوريين في مختلف البلدان الإسلامية بوجه القوى الكبرى وعملائها في الشرق والغرب، والتي جعلت الدنيا ظلاماً دامساً في وجوههم، وهزّت كياناتهم، تشير جميعاً إلى أنّ الخطر الكبير الذي يتهدّد هذه القوى هو العقائد الدينية الأصيلة، ومن هنا يفهم هدف الإتّهامات الموجّهة ضدّ العقائد الدينية.
وممّا يثير العجب والغرابة أنّ علماء الإجتماع في الغرب قالوا بعدم وجود عالم ما وراء الطبيعة، واعتبروا الدين ظاهرة من صنع البشر، كما قالوا بوجود عوامل مختلفة لنشوء الدين، كالعامل الإقتصادي، وخوف الإنسان، وعدم إطّلاعه، والعقد النفسية ... الخ!! كما أنّهم غير مستعدّين للتفكّر ولو للحظة واحدة بعالم ما وراء الطبيعة وبالدلائل المدهشة والواضحة لتوحيد الخالق جلّ وعلا، والعلامات الصريحة لنبوّة الأنبياء كنبيّنا الأكرم (ص). وغير مستعدّين أيضاً للتنصّل عن أحكامهم التي أثبتت فشلها.
لا يمكن أن نماثل بين هؤلاء وبين مشركي عصر الجاهلية بالتعصّب والعناد وعدم الإطّلاع، نعم، هؤلاء متعصّبون ومعاندون ولكنّهم مطّلعون، ولهذا فهم أكثر خطراً وضلالةً من مشركي عصر الجاهلية.
وممّا يجدر ذكره أنّ ذيل أكثر الآيات القرآنية يدعو الإنسان إلى التفكّر والتعقّل والتذكّر: فأحياناً تقول: (إنّ في ذلك لآية لقوم يتفكّرون) (النحل- 11 و69) واُخرى تقول: (إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون) (الرعد- 3، والزمر- 42، والجاثية- 13) وثالثة تقول: (لعلّهم يتفكّرون) (الحشر- 21، والأعراف- 176)، وأحياناً تطرح الآيات القرآنية نفس المفهوم وجهاً لوجه (كذلك يبيّن الله لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون) (البقرة- 219 و266).
وقد ورد في القرآن الكريم الكثير من هذا القبيل، منه الدعوة إلى الفقه- أي الفهم- والدعوة إلى العقل والتعقّل، ومدح الناس المتعقّلين، والندم الشديد لاُولئك المتعصّبين، وقد جاء ذلك في (46) آية من آيات القرآن المجيد، وقد قال الكثير من العلماء: إنّنا لو أردنا جمع هذه الآيات وتفسيرها لأحتجنا إلى كتاب مستقل.
وفي هذا المجال ذكر القرآن الكريم أنّ أحد صفات أهل النار هو عدم التفكّر والتعقّل كقوله تعالى: (وقالوا لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السعير) ومنه قوله تعالى: (ولقد ذرأنا لجهنّم كثيراً من الجنّ والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها اُولئك كالأنعام بل هم أضلّ اُولئك هم الغافلون).
1- بحثنا موضوع التغيير التدريجي لليل والنهار في تفسير الآية (27) من سورة آل عمران.
2- سورة التكوير، 1 ـ 2.
3- تفسير "روح البيان" و "أبو الفتوح الرازي".
4- التعبير بـ "الذين" الذي هو عادةً لجمع المذكّر العاقل، ذكرت هنا للأصنام بسبب إعتقاد المشركين الوهمي بهذه الموجودات الجامدة، وقد ذكره القرآن هكذا، ثمّ ردّ عليه بشدّة.
5- ورد هذا التّفسير في مجمع البيان، وتفسير الآلوسي، والقرطبي.