الآيات 4 - 7

﴿وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الاُْمُورُ (4) يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَـنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَـبِ السَّعِيرِ(6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)﴾

التّفسير

لا يغرنّكم الشيطان والدنيا

ينتقل القسم الثاني من هذه المجموعة من الآيات- وبعد أن كان الحديث حول توحيد الخالقية والرازقية- إلى الحديث في تفصيل البرامج العملية للرسول (ص)ويوجّه الخطاب إليه أوّلا، ثمّ لعموم الناس وبيان المناهج العملية لهم بعد تفصيل البرامج العقائدية سابقاً.

في البداية تقدّم الآيات للرسول درس الإستقامة على الصراط السوي، والذي هو أهمّ الدروس له، فتقول الآية الكريمة: (وإن يكذّبوك فقد كذبت رسل من قبلك) فهؤلاء الرسل الذين سبقوك قاوموا، ولم يهدأ لهم بال في أداء رسالتهم، وأنت أيضاً يجب أن تقف بصلابة، وتؤدّي رسالتك، والبقية بعهدة الله. (وإلى الله ترجع الاُمور) فهو الناظر والرقيب على كلّ شيء، وسوف يحاسب على جميع الأعمال.

فهو تعالى لا يتغافل عن المشاق التي تتحمّلها في هذا الطريق، كما أنّه لن يترك هؤلاء المكذّبين المخالفين المعاندين يمضون دون عقاب، فقد يكون للقلق محلّ لو لم يكن ليوم القيامة وجود، أمّا مع وجود تلك المحكمة الإلهية العظيمة، وتلك الكتابة لكلّ أعمال البشر لذلك اليوم العظيم، فأيّ داع للقلق بعد؟

ثمّ تنتقل الآيات لتوضيح أهم البرامج للبشرية، فتقول الآية الكريمة: (إنّ وعد الله حقّ) فالقيامة والحساب والكتاب والميزان والجزاء والعقاب والجنّة والنار كلّها وعود إلهية لا يمكن أن يُخلفها الله تعالى.

ومع الإنتباه إلى هذه الوعود الحقّة: (فلا تغرنّكم الحياة الدنيا ولا يغرنّكم بالله الغَرور) فلا ينبغي أن تخدعكم الحياة الدنيا، ولا يخدعكم الشيطان بعفو الله ورحمته... أجل، إنّ عوامل الإثارة، وزخارف الدنيا وزبارجها، إنّما تريد أن تملأ قلوبكم، وتلهيكم عن تلك الوعود الإلهيّة العظيمة، وكذلك فإنّ شياطين الجنّ والإنس دائمة السعي بوساوسها وإغرائها وبمختلف وسائل الخداع والإحتيال، وهي أيضاً تريد إلفات إهتمامكم إليها، وإلهائكم عن التفكير في ذلك اليوم الموعود، فإن تمكّنت أضاليلهم وخدعهم منكم، فقد ضاعت عليكم حياتكم بأكملها، وكانت سعادتكم وآمالكم نقشاً على الماء، فالحذر الحذر!!

إنّ تكرار التنبيه للناس لكي لا يغتّروا بوساوس الشياطين أو بزخارف الدنيا- في الحقيقة- إشارة إلى أنّ للذنوب طريقين للولوج إلى النفس الإنسانية:

1- مظاهر الدنيا الخدّاعة، كالجاه والمقام والمال والكبرياء وأنواع الشهوات.

2- الإغترار بعفو الله وكرمه، وهنا فإنّ الشيطان يزيّن الدنيا في نظر الإنسان ويصوّرها له متاعاً مباحاً وجذّاباً ومحبّباً وقيّماً من جهة.

ومن جهة اُخرى فإنّه كلّما أراد الإنسان أن يتذكّر الآخرة ومحكمة العدل الإلهي ومقاومة الجاذبية الشديدة للدنيا وخِدعها، فانّه يغريه بعفو الله ورحمته، فيدفعه بالنتيجة إلى التسويف والطغيان وإرتكاب الذنوب. غافلا عن أنّ الله سبحانه مع كونه في موضع الرحمة و "أرحم الراحمين" فهو تعالى في موضع العقوبة "أشدّ المعاقبين"، فإنّ رحمته لا يمكن أن تكون أبداً باعثاً على المعصية، كما أنّ غضبه لا يمكن أن يكون سبباً لليأس والقنوط.

"غَرور" صيغة مبالغة بمعنى الخدّاع أو المضلّل غير العادي، والظاهر أنّه إشارة إلى جميع عوامل الإغواء والخداع، كما أنّه قد يكون إشارة إلى خصوص الشيطان. وإن كان المعنى الثاني أكثر مناسبة للآية الثانية، خاصّة إذا علمنا أنّ القرآن الكريم نسب "الغرور" إلى الشيطان في آيات مختلفة.

بعض المفسّرين، لهم تحليل خاص هنا ملخّصه: أنّ الناس الذين يتعرضون لعوامل الخداع والإغراء ثلاثة أصناف:

1- صنف ضعيف وليس له قدرة بحيث أنّه يخدع بأبسط الحيل.

2- صنف أقوى من الأوّل، لا يخدعون فقط بزخرف الدنيا وزبرجها، بل مع ضمّ وساوس الشياطين الذين يعملون على تحريك شهواتهم ويهوّنون لهم مفاسد أعمالهم عندها يمكن خداعهم. فالملذّات الدنيوية من جهة، والوساوس الشيطانية من جهة اُخرى، تدفعهم إلى إرتكاب أعمال قبيحة وسيّئة.

3- أمّا الصنف الثالث وهو الأقوى والأعلم، فهم لا يغتّرون بأنفسهم ولا يمكن لأحد خداعهم.

وجملة (فلا تغرنّكم الحياة الدنيا) إشارة إلى الصنف الأوّل، وجملة (ولا يغرنّكم بالله الغرور) إشارة إلى الصنف الثاني، وأمّا الصنف الثالث فهم مصداق قوله: (إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان)(1).

الآية التالية تنذر وتنبّه جميع المؤمنين فيما يخصّ مسألة وساوس الشيطان ومكائده والتي تعرّضت لها الآية السابقة فتقول: (إنّ الشيطان لكم عدو فاتّخذوه عدوّاً).

تلك العداوة التي شرع بها الشيطان من أوّل يوم خُلق فيه آدم (ع)، وأقسم حين طرد من قرب الله وجواره بسبب عدم تسليمه للأمر الإلهي بالسجود لآدم، أقسم وتوعّد بأن يسلك طريق العداء لآدم وبنيه، وحتّى أنّه دعا من الله أن يمهله ويطيل في عمره لذلك الغرض.

وقد التزم بما قال، ولم يفوّت أدنى فرصة لإبراز عدائه وإنزال الضربات بأفراد بني آدم، فهل يصحّ منكم يابني آدم أن لا تعتبروه عدوّاً لكم، أو أن تغفلوا عنه ولو لحظة واحدة، فكيف الحال باتّباعه وإقتفاء خطواته، أو تعدونه وليّاً شفيقاً وصاحباً ناصحاً (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو).(2)

مضافاً إلى أنّه عدو يهاجم من كلّ طرف وجانب، فهو نفسه "لعنه الله" يقول: على ما نقله القرآن الكريم: (ثمّ لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم).(3)

وهو يكمن لكم ويراكم ولا ترونه: (إنّه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم).(4)

ومع ذلك، فهذا لا يعني أنّكم لا تقدرون على الدفاع عن أنفسكم أمام مكائده ووساوسه، فقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلوات والسلام): أنّ الله

سبحانه وتعالى أوصى موسى (ع) أربع وصايا وطالبه بحفظها:

أُولاهنّ: ما دمت لا ترى ذنوبك تغفر فلا تشتغل بعيوب غيرك!

والثانية: ما دمت لا ترى كنوزي قد نفذت فلا تهتم برزقك!

والثالثة: ما دمت لا ترى زوال ملكي فلا ترج أحداً غيري!

والرابعة: ما دمت لا ترى الشيطان ميتاً فلا تأمن مكره(5)!

على كلّ حال، فقد وردت في آيات كثيرة الإشارة إلى عداوة الشيطان لبني آدم، وأطلقت عليه مراراً وتكراراً عبارة (عدوّ مبين)(6) لذا يجب الحذر الدائم من هذا العدوّ.

في آخر الآية يضيف تعالى للتأكيد أكثر: (إنّما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير).

"حزب" في الأصل بمعنى الجماعة التي لها فعالية، ولكنّها تطلق عادةً على كلّ مجموعة تتبع برنامجاً وهدفاً خاصاً.

والمقصود (بحزب الشيطان) أتباعه.

طبيعي أنّ الشيطان لا يمكنه إدخال أيّ أحد من الناس ليكون عضواً رسمياً في حزبه ويقوده إلى جهنّم، فأعضاء حزبه هم الذين يتّصفون بالصفات المذكورة في بعض الآيات القرآنية ..

- فهم الذين طوّقوا أنفسهم بطوق العبودية للشيطان (إنّما سلطانه على الذين يتولّونه).(7)

- وهم الذين (استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله اُولئك حزب الشيطان ألا إنّ حزب الشيطان هم الخاسرون).(8)

والملفت للنظر أنّ القرآن الكريم ذكر "حزب الله" في ثلاثة مواضع وكذلك ذكر "حزب الشيطان" في ثلاثة مواضع أيضاً، حتّى يتّضح من الذين يقيّدون أسماءهم في حزب الله، ومن هم أعضاّ حزب الشيطان؟

ولكن من الطبيعي أنّ الشيطان يدعو حزبه إلى المعاصي والذنوب ولوث الشهوات .. إلى الشرك والطغيان والإضطهاد، وبالنتيجة إلى جهنّم وبئس المصير.

وسوف نستوفي الشرح حول خصائص "حزب الله" وخصائص "حزب الشيطان" في تفسير الآية (22) من سورة "المجادلة" إن شاء الله.

آخر آية من هذه الآيات توضّح عاقبة "حزب الله" السعيدة وخاتمة "حزب الشيطان" المريرة، فتقول: (الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير).

من الجدير بالملاحظة هنا أنّ القرآن الكريم اكتفى بذكر "الكفر" كسبب لإستحقاق العذاب، ولكنّه لم يكتف بذكر (الإيمان) وحده كسبب "للمغفرة والأجر الكبير" بل أردف مضيفاً له "العمل الصالح". لأنّ الكفر وحده يكفي للخلود في عذاب السعير، بينما الإيمان بدون العمل لا يكفي لتحقيق النجاة، فإنّهما مقترنان.

وقد ورد في الآية ذكر (المغفرة) ثمّ ذكر "الأجر الكبير" بعدها، باعتبار أنّ (المغفرة) تغسل المؤمنين في البدء وتهيؤهم لتلقّي "الأجر الكبير".


1- تفسير الفخر الرازي، المجلّد 26، ص5.

2- الكهف، 50.

3- الأعراف، 17.

4- الأعراف، 27.

5- سفينة البحار، المجلّد 1، صفحة 501 ـ مادّة ربع.

6- لاحظ الآيات 161 و208 من سورة البقرة، والآية (142) من سورة الأنعام، والآية (22) من سورة الأعراف، والآية (5) سورة يوسف، والآية (60) سورة يس، والآية (62) من سورة الزخرف.

7- النحل، 100.

8- المجادلة، 19.