الآيات 39 - 42
﴿قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَىْء فَهُوَ يَخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّزِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَـئِكَةِ أَهَـؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَـنَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْض نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)﴾
التّفسير
نفور المعبودين من عابديهم:
تعود هذه الآيات لتؤكّد مرّة اُخرى خطأ الذين يتوهمون بأنّ أموالهم وأولادهم سبب لقربهم من الله فتقول: (قل إنّ ربّي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له).
ثمّ تضيف الآية: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين).
فمع أنّ محتوى هذه الآية يؤكّد ما عرضته الآيات السابقة إلاّ أنّ هناك ما هو جديد من جهتين:
الاُولى: أنّ الآية السابقة التي عرضت نفس المفهوم، كانت تتحدّث عن أموال وأولاد الكفّار، بينما الآية محلّ البحث باحتوائها على كلمة "عباد" تشير إلى المؤمنين، والمعنى أنّه حتّى فيما يخصّ المؤمنين فإنّه قد يتّسع الرزق - لأنّه الأصلح بالنسبة للمؤمن - وقد يضيق - لأنّ المصلحة تقتضي ذلك - على كلّ حال، فإنّ سعة وضيق الرزق لا يمكن أن يشكّل دليلا على أي شيء.
الثّانية: الآية السابقة أشارت إلى سعة الرزق وضيقه بالنسبة إلى مجموعتين مختلفتين، في حين أنّ هذه الآية تشير إلى حالتين مختلفتين بالنسبة لشخص واحد، حيناً يتّسع رزقه وحيناً يضيق.
إضافةً إلى أنّ ما جاء في بداية هذه الآية هو في الحقيقة مقدّمة لما جاء في آخرها، وهو الترغيب في الإنفاق في سبيل الله.
جملة "فهو يخلفه" تعبير جميل يشير إلى أنّ ما ينفق في سبيل الله إنّما هو في الحقيقة تجارة وافرة الربح، لأنّ الله سبحانه وتعالى تعهّد بأن يخلفه، ونعلم أنّه في الوقت الذي يتعهّد فيه الكريم بأداء العوض فإنّه لا يراعي المقدار الذي يريد تعويضه، بل إنّه يعوّض بأضعاف مضاعفة، بل بمئات الأضعاف.
طبعاً فإنّ هذا الوعد الإلهي لا ينحصر بالآخرة، فإنّ ذلك مسلّم به، ولكن في الدنيا أيضاً فإنّه يخلف ما أنفق بمختلف البركات.
جملة (هو خير الرازقين) ذات معنى واسع، ويمكن الإفادة منها من وجوه مختلفة.
هو خير من يعطي رزقاً، لأنّه يعلم ماذا يعطي وإلى أي حدّ، بحيث لا يكون ما يعطيه عاملا للفساد والغرور، لأنّه عالم بكلّ شيء.
هو يعطي أي شيء يريد أن يعطيه لأنّه قادر على كلّ شيء.
ولا يريد جزاءاً على ما يعطيه لأنّه غني بذاته.
ويعطي إبتداءً، لأنّه حكيم وعالم بكلّ شيء.
بل الحقيقة أنّه ليس من رزّاق غيره، لأنّ أي معط إنّما يعطي ممّا رزقه الله، وبذا فهو ليس سوى "واسطة إنتقال" لا رزّاقاً.
وكذلك فهو تعالى يعطي النعم الباقية قبال المال الفاني، والكثير مقابل القليل.
ولأنّ فريقاً من الأثرياء الظالمين الطغاة كانوا في صفّ المشركين، وادّعوا بأنّهم يعبدون الملائكة وأنّهم شفعاؤهم يوم القيامة، فقد ردّ القرآن على هذا الإدّعاء الباطل فقال: (ويوم يحشرهم جميعاً ثمّ يقول للملائكة أهؤلاء إيّاكم كانوا يعبدون).
بديهي أنّ هذا السؤال ليس من باب الإستفهام عن الجواب، لأنّ الله تعالى عالم بكلّ شيء، ولكن الهدف هو أن تظهر الحقائق من إجابة الملائكة، لكي يخسأ هؤلاء الضالّون ويخيب ظنّهم، ويعلموا بأنّ الملائكة متنفّرين من أعمالهم، فيصيبهم اليأس إلى الأبد.
ذكر (الملائكة) من بين المعبودات التي كان المشركون يعبدونها، إمّا لأنّ الملائكة أشرف المخلوقات التي عبدها الضالّون، والتي لم يحصلوا على شفاعتها يوم القيامة، فماذا يستطيعون الحصول عليه من حفنة من الحجر أو الأخشاب أو الجنّ أو الشياطين!؟
أو أنّه من قبيل أنّ عبدة الأوثان كانوا يعتقدون بأنّ الأحجار والأخشاب هي مظهر ونموذج لموجودات علوية (كالملائكة وأرواح الأنبياء)، ولذا عبدوها.
فكما ورد في تاريخ الوثنية عند العرب "إنّ سبب حدوث عبادة الأصنام في العرب، هو أنّ "عمرو بن لحي" مرّ بقوم بالشام فرآهم يعبدون الأصنام فسألهم فقالوا له: هذه أرباب نتّخذها على شكل الهياكل العلوية فنستنصر بها ونستسقي.
فتبعهم وأتى بصنم معه إلى الحجاز وسوّل للعرب فعبدوه وإستمرّت عبادة الأصنام فيهم إلى أن جاء الإسلام"(1) (2).
والآن لننظر ماذا تقول الملائكة للإجابة على سؤال الباري عزّوجلّ؟ لقد إختارت الملائكة في الحقيقة أكثر الأجوبة شمولية وأعظمها أدباً (قالوا سبحانك أنت وليّنا من دونهم بل كانوا يعبدون الجنّ أكثرهم بهم مؤمنون).
أمّا ما هو المقصود من الجواب الذي أجابت به الملائكة؟ فللمفسّرين أقوال، ويبدو أنّ أقربها هو القول بأنّ المقصود (بالجنّ) هو (الشيطان) وسائر الموجودات الخبيثة التي شجّعت عبدة الأوثان على ذلك العمل، وزينته في أنظارهم، وعليه فإنّ المراد من عبادة الجنّ هي تلك الطاعة والإنقياد لأوامرها والرضى بأضاليلها.
فالملائكة إذاً يقولون ضمن إعلان تنفّرهم وعدم رضاهم على هذه الأعمال: إنّ العامل الأساسي لهذا الفساد هم الشياطين، وإن كان الظاهر أنّهم يعبدوننا، فالمهمّ هو الكشف عن الوجه الحقيقي لهذا العمل أمام الملأ.
وقد ورد نظير هذا المعنى في سورة يونس - الآية ( رقم 28) حيث يقول تعالى: (ويوم نحشرهم جميعاً ثمّ نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيّلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيّانا تعبدون).
أي إنّكم في الحقيقة لم تعبدونا نحن، بل تعبدون أهواءكم وأوهامكم وخيالاتكم، ناهيك عن أنّ هذه العبادة لم تكن بأمرنا ورضانا.
وعبادة هذا شكلها ليست بعبادة أصلا.
وبهذه الطريقة يتبدّل أمل المشركين في ذلك اليوم إلى يأس كامل، وتتجلّى لهم بذلك حقيقة أنّ معبوديهم لن يحلّوا من مشاكلهم عقدة صغيرة واحدة، بل على العكس فهم منهم متنفّرون مستاءون.
لذا - وكإستخلاص للنتيجة - تقول الآية الكريمة التي بعدها: (فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعاً ولا ضرّاً).
وبناءً على ذلك فلا الملائكة - الذين هم ظاهراً معبودون - يستطيعون الشفاعة لهم، ولا هم يستطيعون مساعدة بعضهم البعض.
(ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذّبون).
ليست هذه هي المرّة الاُولى التي يعبّر فيها القرآن عن المشركين بـ "الظلم" بل ورد ذلك في الكثير من آيات القرآن.
التعبير عن "الكفر" بـ "الظلم".
أو عن "الكافرين والمشركين" بـ "الظالمين".
ذلك لأنّهم قبل كلّ شيء ظلموا أنفسهم بخلعهم تاج العبودية لله عن رؤوسهم، ولفّوا طوق الذلّة للأوثان على رقابهم.
ودمّروا شخصيتهم ومصيرهم.
وفي الحقيقة فإنّهم سيعاقبون يوم القيامة على شركهم وعلى إنكارهم للمعاد، وجملة (ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذّبون) تشتمل على المعنيين.
بحوث
1- الإنفاق سبب النماء لا النقصان
التعبير الوارد في الآية السابقة يحتوي على معان جمّة:
أوّلا: فمن جهة أنّ كلمة "شيء" بمعناها الواسع تشمل كلّ أنواع الإنفاق، المادّي والمعنوي القليل والكثير، لأيّ من المحتاجين كان الإنفاق، صغيراً أو كبيراً، المهمّ أن يعطي الإنسان شيئاً ممّا يملك في سبيل الله بأي كيفية كان وبأي كميّة كانت.
ثانياً: لقد أخرجت الآية (الإنفاق) بمفهومه من "الفناء"، ولوّنته بلون "البقاء" لأنّ الله ضَمِنَ إخلاف ما يُنفق في سبيله بمواهبه المادية والمعنوية، بمرّات مضاعفة، مئات الآلاف، أقلّها عشرة أضعاف، وبذا فإنّ المنفق - وبهذه الروحية
وهذا الإعتقاد - سيلج ميدان الإنفاق بيد وقلب أكثر إنفتاحاً، ولن يخطر على باله إحساس بالقلّة، ولن يفكّر بالفقر، بل إنّه سيشكر الله على حسن توفيقه له على هذه التجارة الوفيرة الربح.
وقد عبّر القرآن في الآيات (10) و (11) من سورة الصفّ عن هذا المعنى فقال: (ياأيّها الناس هل أدلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم - تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون).
ونقرأ في الحديث عن الرّسول الأكرم (ص):
ينادي مناد كلّ ليلة: لدوا للموت.
وينادي مناد: ابنوا للخراب.
وينادي مناد: اللهمّ هب للمنفق خلفاً.
وينادي مناد: اللّهمّ هب للممسك تلفاً.
وينادي مناد: ليت الناس لم يخلقوا.
وينادي مناد: ليتهم إذ خلقوا فكّروا فيما له خلقوا!!"(3).
والمقصود من هؤلاء المنادين هم الملائكة الذين يدبّرون اُمور هذا العالم بأمر الله.
وفي حديث آخر عنه (ص): "من أيقن بالخلف سخت نفسه بالنفقة"(4).
وقد نقل نفس المعنى عن الإمامين الباقر والصادق (ع).
والجدير بالتذكير هو أنّ الإنفاق يجب أن يكون من المال الحلال والكسب المشروع، وإلاّ فلا قبول لغيره عند الله ولا بركة فيه.
لذا فقد ورد عن الإمام الصادق (ع) حينما سأله أحدهم قال: قلت: آيتان في كتاب الله عزّوجلّ أطلبهما فلا أجدهما.
قال (ع) "وما هما؟".
قلت: قول الله عزّوجلّ: (ادعوني أستجب لكم)، فندعوه ولا نرى إجابة.
قال (ع): أفترى الله عزّوجلّ أخلف وعده؟".
قلت: لا.
قال: فممّ ذلك؟
قلت: لا أدري.
قال (ع): "لكنّي أخبرك، من أطاع الله عزّوجلّ فيما أمره من دعائه من جهة الدعاء أجابه".
قلت: وما جهة الدعاء.
قال: "تبدأ فتحمد الله وتذكر نعمه عندك ثمّ تشكره ثمّ تصلّي على النّبي (ص)، ثمّ تذكر ذنوبك فتقرّ بها، ثمّ تستعيذ منها فهذا جهة الدعاء".
ثمّ قال (ع): "وما الآية الاُخرى؟".
قلت: قول الله عزّوجلّ: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين)وإنّي أنفق ولا أرى خلفاً؟
قال: "أفترى الله عزّوجلّ أخلف وعده؟
قلت: لا.
قال: "فممّ ذلك؟".
قلت: لا أدري؟
قال: لو أنّ أحدكم إكتسب المال من حلّه وأنفقه في حلّه لم ينفق درهماً إلاّ أخلف عليه"(5).
2- أمّنوا على أموالكم بتأمين إلهي!!
لأحد المفسّرين تحليل جميل بهذا الخصوص، يقول: "ثمّ إنّ من العجب أنّ التاجر إذا علم أنّ مالا من أمواله في معرض الهلاك يبيعه نسيئة وإن كان من الفقراء، ويقول بأنّ ذلك أولى من الإمهال إلى أن يهلك المال، فإن لم يبع حتّى يهلك ينسب إلى الخطأ، ثمّ إن حصل به كفيل مليء ولا يبيع ينسب إلى قلّة العقل.
فإن حصل به رهن وكتب به وثيقة ولا يبيعه ينسب إلى الجنون، ثمّ إنّ كلّ أحد يفعل هذا ولا يعلم أنّ ذلك قريب من الجنون، فإنّ أموالنا كلّها في معرض الزوال المحقّق، والإنفاق على الأهل والولد إقراض، وقد حصل الضامن المليء وهو الله العلي وقال تعالى: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه) ثمّ رهن عند كلّ واحد إمّا أرضاً أو بستاناً أو طاحونة، أو حمّاماً أو منفعة، فإنّ الإنسان لابدّ أن يكون له صفة أو جهة يحصل له منها مال، وكلّ ذلك ملك الله، وهو في يد الإنسان بحكم العارية، فكأنّه مرهون بما تكفّل الله من رزقه ليحصل له الوثوق التامّ، ومع هذا لا ينفق ويترك ماله ليتلف لا مأجوراً ولا مشكوراً"(6).
3- سعة مفهوم الإنفاق:
لأجل فهم الحدّ لمفهوم الإنفاق في الإسلام، نطالع الحديث التالي عن الرّسول الأكرم (ص) إذ يقول: "كلّ معروف صدقة، وما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له صدقة، وما وقى به الرجل عرضه فهو صدقة، وما أنفق الرجل من نفقة فعلى الله خلفها، إلاّ ما كان من نفقة في بنيان أو معصية"(7).
يبدو أنّ إستثناء البنيان من قانون الإخلاف، لأنّ عين البناء باقية، أو لأنّه يكثر توجّه الناس إليه.
1- عمرو بن لُحي: أحد الشخصيات المعروفة في مكّة قبل الإسلام.
2- مجمع البيان: ذيل الآيات مورد البحث.
3- نور الثقلين، المجلّد 4، ص340، ح77.
4- تفسير البرهان، مجلّد 3، ص353.
5- تفسير الفخر الرازي، مجلّد 25، ص263 (ذيل الآيات مورد البحث).
6- الجامع لأحكام القرآن (القرطبي)، مجلّد 14، ص307.
7- بعض المفسّرين احتملوا تفسيراً آخر لهذه الآية، وهو أنّ المقصود من (وما بلغوا معشار ما آتيناهم) وهو عشر الآيات التي أنزلناها على مشركي قريش لإتمام الحجّة عليهم، لم ننزّله على الأقوام السابقين، فإذا كان العذاب الذي عذّبناهم به بتلك الشدّة، فما بالك بمصير مشركي قريش الذين نالهم عشرة أضعاف الآيات لإتمام الحجّة! ولكن يبدو أنّ التّفسير الأوّل أنسب (وبناءً على التّفسير الأوّل فإنّه من أربعة ضمائر موجودة في الآية، يعود الضميران الأوّل والثّاني على كفّار قريش، والضمير الثالث والرابع على الكفّار السالفين، أمّا بناءً على التّفسير الثّاني فإنّ الضمير الأوّل يعود على كفّار قريش، والثّاني على الكفّار السالفين، والثالث على كفّار قريش والرابع على الكفّار السابقين - تأمّل).