الآيات 28 - 30

﴿وَمَا أَرْسَلْنَـكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ (29) قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْم لاَّ تَسْتَئْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ (30)﴾

التّفسير

الدّعوة العالمية:

الآية الاُولى من هذه الآيات، تتحدّث في نبوّة الرّسول (ص)، والآيات التي تليها تتحدّث حول الميعاد، ومع الأخذ بنظر الإعتبار أنّ الآيات السابقة تحدّثت عن التوحيد، نصبح أمام مجموعة كاملة من بحوث العقائد، تتناسب مع كون السورة مكية.

أشارت الآيات إبتداءً إلى شمولية دعوة الرّسول (ص) وعمومية نبوّته لجميع البشر فقالت: (وما أرسلناك إلاّ كافّة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون).

"كافّة" من مادّة "كفّ" وتعني الكفّ من يد الإنسان، وبما أنّ للإنسان يقبض على الأشياء بكفّه تارةً ويدفعها عنه بكفّه تارةً اُخرى، فلذا تستخدم هذه الكلمة للقبض أحياناً، وللمنع اُخرى.

وقد إحتمل المفسّرون الإحتمالين هنا، الأوّل بمعنى "الجمع" وفي هذه الحالة يكون مفهوم الآية "إنّنا لم نرسلك إلاّ لجميع الناس".

أي عالمية دعوة الرّسول (ص).

ويقوّي هذا المعنى روايات عديدة وردت في تفسير الآية من طرق الفريقين.

وعليه فمحتوى الآية شبيه ب سورة الفرقان (تبارك الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً).

وكذلك الآية ( رقم 19) من سورة الأنعام (واُوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ).

جاء في حديث عن ابن عبّاس ينقله المفسّرون بمناسبة هذه الآية، أنّ عمومية دعوة الرّسول (ص) ذكرت كواحدة من مفاخره العظيمة.

فعنه (ص) يقول: "اُعطيت خمساً ولا أقول فخراً، بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، واُحلّ لي المغنم ولا يحلّ لأحد قبلي، ونصرت بالرعب فهو يسير أمامي مسيرة شهر، واُعطيت الشفاعة فادّخرتها لاُمّتي يوم القيامة"(1).

وإن كان لم يرد في الحديث أعلاه تصريح بتفسير الآية، فثمّة أحاديث اُخرى بهذا الخصوص، إمّا أن تصرّح بأنّها في تفسير الآية، أو يرد فيها تعبير "للناس كافّة" الذي ورد في نفس الآية(2).

وجميعها تدلّل على أنّ مقصود الآية أعلاه، هو عالمية دعوة الرّسول (ص).

وذُكر للآية تفسير آخر مأخوذ من المعنى الثّاني لكلمة "كفّ" وهو (المنع)، وطبقاً لهذا التّفسير تكون "كافّة" صفة للرسول (ص)(3) ويكون المقصود أنّ الله

سبحانه وتعالى أرسل الرّسول (ص) كمانع ورادع وكافّ للناس عن الكفر والمعصية والذنوب، ولكن يبدو أنّ التّفسير الأوّل أقرب.

على كلّ حال - كما أنّ لكلّ الناس غريزة جلب النفع ودفع الضرر - فقد كان للرسل أيضاً مقام "البشارة" و "الإنذار".

لكي يوظّفوا هاتين الغريزتين ويحرّكوهما، ولكن أكثر المغفّلين الجهّال - بدون الإلتفات إلى مصيرهم - ينهضون للوقوف في وجههم ويتنكّرون تلك المواهب الإلهية العظيمة.

وبناءً على ما أشارت إليه الآيات السابقة من أنّ الله سبحانه وتعالى يجمع الناس ويحكم بينهم تورد هذه الآية سؤال منكري المعاد كما يلي: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين).

لقد طرح هذا السؤال من قبل منكري المعاد على الرّسول الأكرم (ص) أو الأنبياء الآخرين مراراً، حيناً لفهم وإدراك هذا المطلب، وأغلب الأحيان للإستهزاء والسخرية من قبيل: أين هذه القيامة التي تؤكّدون على ذكرها مراراً وتكراراً، لو كانت حقّاً فقولوا متى ستأتي؟ إشارة منهم إلى أنّ الإنسان الصادق في إخباره يجب أن يعلم بجميع جزئيات الموضوع الذي يُخبر عنه.

ولكن القرآن الكريم يمتنع دائماً عن الإجابة الصريحة على هذا السؤال وتعيين زمان وقوع البعث، ويؤكّد أنّ هذه الاُمور هي من علم الله الخاصّ به سبحانه وتعالى، وليس لأحد غيره الإطلاع عليها.

لذا فقد تكرّر في الآية التي بعدها، هذا المعنى بعبارة اُخرى، يقول تعالى: (قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون).

إنّ إخفاء تأريخ قيام الساعة - حتّى على شخص الرّسول الأكرم (ص) - كما أسلفنا - لأنّ الله سبحانه وتعالى أراد لعباده نوعاً من حرية العمل مقترنة بحالة من التهيّؤ الدائم، لأنّه لو كان تأريخ قيام القيامة معلوماً فإنّ الجميع سيغطّون في الغفلة والغرور والجهل حينما يكون بعيداً عنهم، أمّا حين إقترابه منهم فستكون أعمالهم ذات جنبة إضطرارية، وفي كلتا الحالتين تتحجّم الأهداف التربوية للإنسان، لذا بقي تأريخ القيامة مكتوماً، كما هو الحال بالنسبة إلى "ليلة القدر" تلك الليلة التي هي خير من ألف شهر، أو تاريخ قيام المهدي (ع)، وعبّر عن ذلك المعنى بلطف ما ورد في الآية ( رقم 15) من سورة طه (إنّ الساعة لآتية أكاد اُخفيها لتجزي كلّ نفس بما تسعى).

أمّا اُولئك الذين يتصوّرون أنّ النّبي (ص) يجب أن يكون على علم بالتأريخ الدقيق ليوم القيامة لأنّه يخبر عنها، فإنّ ذلك غاية الإشتباه، ودليل على عدم معرفتهم بوظيفة النبوّة، فالنّبي مكلّف بالإبلاغ والبشارة والإنذار، أمّا مسألة القيامة فمرتبطة بالله سبحانه وتعالى، وهو وحده الذي يعلم تمام تفاصيلها، وما يراه الله لازماً لأغراض تربوية، أطلع عليه الرّسول الكريم (ص).

هنا يثار سؤال، وهو أنّ القرآن الكريم في مقام تهديد المخالفين يقول: (لا تستأخرون) ولكن لماذا يقول أيضاً: (لا تستقدمون)؟ فما هو تأثير ذلك في هدف القرآن.

للإجابة يجب الإلتفات إلى نكتتين:

الاُولى: أن ذكر ذينك الإثنين معاً إشارة إلى قطعية ودقّة تأريخ أي أمر، تماماً كما تقول: "فلان قطعي الموعد، وليس لديه تقديم أو تأخير".

الثّانية: أنّ جمعاً من الكفّار المعاندين يلحّون على الأنبياء دائماً، بقولهم: لماذا لا تأتي القيامة؟ وبتعبير آخر، كانوا يستعجلون ذلك الأمر سواءً كان ذلك من قبيل الإستهزاء أو غير ذلك.

والقرآن يقول لهم: "لا تستعجلوا فإنّ تأريخ ذلك اليوم هو عينه الذي قرّره الله سبحانه وتعالى".


1- اُنظر تفسير نور الثقلين، مجلّد 4، ص255 و256.

2- أحياناً تلحق (التاء) اسم الفاعل لتكون صيغة مبالغة لا علامة للتأنيث كما في "رواية".

3- (يرجع): تأتي كفعل لازم وكفعل متعدّي، وقد وردت هنا بالحالة الثّانية لتعطي معنى العودة، ومجيئها بعد "بعضهم إلى بعض" معناه في النتيجة بمعنى "مفاعلة".