الآيات 22 - 27

﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّة فِى السَّمَـوَتِ وَلاَ فِى الاَْرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْك وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِير (22) وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَـعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ قَلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِى ضَلَـل مُّبِين (24) قُل لاَّ تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِىَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)﴾

التّفسير

نبئوني لماذا؟

قلنا في بداية السورة بأنّ هناك مجموعة من آياتها تتحدّث حول المبدأ والمعاد والإعتقادات الحقّة، ومن ربطها مع بعضها نحصل على حقائق جديدة.

في هذا المقطع من الآيات يجرّ القرآن المشركين في الواقع إلى المحاكمة، وبالضربات الماحقة للأسئلة المنطقية، يحشرهم في زاوية ضيّقة، ثمّ يبيّن تفسّخ منطقهم الواهي بخصوص شفاعة الأصنام.

في هذه المجموعة من الآيات، خوطب الرّسول الأكرم (ص) خمس مرّات، وقيل له: (قل) لهم... وفي كلّ مرّة تعرض الآيات مطلباً جديداً يتعلّق بمصير الأصنام وعبّادها، بشكل يُشعر معه بأن ليس هناك عقيدة أفرغ ولا أجوف من عبادة الأصنام، بل لا يمكن أساساً تسمية هذه العبادة (عقيدة) أو (مذهباً).

في الآية الاُولى يقول تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله)(1) ولكن اعلموا أنّ هذه الأصنام أو الشركاء لا يستجيبون لدعائكم أبداً، ولا يحلّون لكم مشكلة، ثمّ تنتقل الآية إلى عرض الدليل على هذا القول، فيقول تعالى: لأنّهم (لا يملكون مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير).

فلو كانوا يستطيعون شيئاً لكان لهم أحد هذه الأوصاف الثلاثة: إمّا مالكية مستقلّة لشيء في السماء أو الأرض، أو على الأقل مشاركة مع الله في أمر الخلق، أو معاونة الخالق في شيء من هذه الاُمور.

في حال أنّ الواضح هو أنّ "واجب الوجود" واحد لا غير، والباقون جميعهم "ممكن الوجود" مرتبطون به.

ولو قطع الله تعالى نظر لطفه عنهم لحظة لأحلّهم دار البوار والعدم.

واللطيف هو قوله تعالى: (مثقال ذرّة في السموات والأرض)، فموجودات لا تملك في هذه السماء اللامحدودة، وهذه الأرض المترامية الأطراف ما يعادل "مثقال ذرّة"، فأي مشكلة يمكنها حلّها لنفسها، ناهيك عن سواها!!

هنا يتبادر إلى الذهن فوراً السؤال التالي: إذا كانت الأمر كذلك، فماذا تكون قضيّة شفاعة الشفعاء؟

وللإجابة على هذا التساؤل تقول الآية التي بعدها: لو كان هناك شفعاء لدى الله تعالى فانّهم لا يشفعون إلاّ بإذنه وأمره (ولا تنفع الشفاعة عنده إلاّ لمن أذن له).

وعليه فإنّ العذر الذي يتعلّل به الوثنيون بقولهم: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله)(2)، ينتهي بهذا الجواب، وهو أنّ الله سبحانه وتعالى، لم يجز شفاعتها أبداً.

أمّا جملة (إلاّ لمن أذن له) فهي إشارة إلى الشافعين أو إلى المشفوع لهم.

إحتمل المفسّرون الإحتمالين، وإن كان يناسب ما ورد في الآية السابقة من الحديث حول الأصنام واُولئك الذين توهّموا أنّها شفعاؤهم، أن تكون الإشارة إلى "الشافعين".

ثمّ هل أنّ المقصود من "الشفاعة" هنا شفاعة الدنيا، أم الآخرة؟ كلاّ الإحتمالين واردان، ولكن الجملة التي تلي ذلك تدلّل على أنّ المقصود هو شفاعة الآخرة.

لذا تقول العبارة بعدها بأنّه في ذلك اليوم تهيمن الوحشة والإضطراب على القلوب، ويستولي القلق على الشافعين والمشفوع لهم بإنتظار أن يروا لمن يأمر الله بجواز الشفاعة؟ وعلى من ستجوز تلك الشفاعة؟ وتستمر حالة القلق والإضطراب، حتّى حين... فيزول ذلك الفزع والإضطراب عن القلوب بصدور الأمر الإلهي.

(حتّى إذا فزّع عن قلوبهم)(3).

على كلّ حال فذلك يوم الفزع، وعيون الذين يطمعون بالشفاعة تعلّقت بالشفعاء، ملتمسة منهم الشفاعة بلسان الحال أو بالقول.

ولكن الشفعاء أيضاً ينتظرون أمر الله، كيف؟ ولمن سيجيز الشفاعة؟ ويبقى ذلك الفزع وذلك الإضطراب عاماً، إلى أن يصدر عن الحكيم المتعالي أمره بخصوص المتأهّلين للشفاعة.

هنا وحينما يتواجه الفريقان ويتساءلان، (أو أنّ المذنبين يسألون الشافعين) (قالوا: ماذا قال ربّكم) فيجيبونهم: (قالوا: الحقّ)، وما الحقّ إلاّ جواز الشفاعة لمن لم يقطعوا إرتباطهم تماماً مع الله، لا للذين قطعوا كلّ حلقات الإرتباط، وأضحوا غرباء عن ورسوله وأحبّائه.

وتضيف الآية في الختام (وهو العلي الكبير) وهذه العبارة متمّمة لما قاله "الشفعاء"، حيث يقولون: لأنّ الله عليٌّ وكبير فأي أمر يصدره هو عين الحقّ، وكلّ حقّ ينطبق مع أوامره.

ما عرضناه هو أقرب تفسير يتساوق وينسجم مع تعابير الآية، وللمفسّرين بهذا الخصوص تفسيرات اُخرى، والعجيب أنّ بعضها لم يأخذ بنظر الإعتبار الترابط بين صدر الآية وذيلها وما قبلها وما بعدها.

في الآية التالية يلج القرآن الكريم طريقاً آخر لإبطال عقائد المشركين، ويجعل مسألة "الرازقية" عنواناً بعد طرحه لمسألة "الخالقية" التي مرّت معنا في الآيات السابقة.

وهذا الدليل - أيضاً - يطرحه القرآن بصيغة السؤال والجواب من أجل إيقاظ وجدان هؤلاء والفاتهم إلى إشتباههم من خلال تثوير الجواب في ذواتهم.

يقول تعالى: (قل من يرزقكم من السموات والأرض).

بديهي أن لا أحد منهم يستطيع القول بأنّ هذه الأصنام الحجرية والخشبية هي التي تنزل المطر من السماء، أو تنبت النباتات في الأرض، أو تسخّر المنابع الأرضية والسماوية لنا.

الجميل أنّه - بدون إنتظار الجواب منهم - يردف تعالى قائلا: (قل الله).

قل الله الذي هو منبع كلّ هذه البركات، أي أنّ الأمر واضح إلى درجة لا يحتاج إلى جواب من طرف آخر، بل إنّ للسائل والمجيب رأياً واحداً، لأنّ المشركين يعتقدون بأنّ الله هو الخالق والرازق، والأصنام لها مقام الشفاعة فقط.

من الجدير بالملاحظة - أيضاً - أنّ الأرزاق التي تصل إلى الناس من السماء ليست محصورة بالغيث، بل إنّ النور والحرارة الصادرة عن الشمس، والهواء الموجود في جوّ الأرض، هي الاُخرى لا تقلّ أهميّة عن قطرات المطر.

كما أنّ بركات الأرض كذلك، ليست محصورة في النباتات، بل إنّ المنابع المائية تحت سطح الأرض، والمعادن المختلفة التي كانت معروفة في ذلك الوقت والتي عرفت بعد مرور الزمان تندرج تحت هذا العنوان أيضاً.

آخر الآية تشير إلى موضوع يمكنه أن يكون أساساً لدليل واقعي ومتوائم مع غاية الأدب والإنصاف، بطريقة تستنزل الطرف المقابل من مركب الغرور والعناد الذي يمتطيه، وتدفعه إلى التفكّر والتأمّل، يقول تعالى: (وإنّا أو إيّاكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين)(4).

وهذا إشارة إلى: أنّ عقيدتنا وعقيدتكم متضادّتان، وعليه - بناءً على إستحالة الجمع بين النقيضين - فلا يمكن أن تكون الدعوتان على حقّ، لذا فمن المحتّم أن يكون أحد الفريقين أهل هدى، والثّاني أسير الضلال.

والآن عليكم أن تفكّروا في أيّ الفئتين على هدىً، وأيّهما على ضلال؟... انظروا إلى علامات وخصائص كلّ منهما، ومدى تطابقها مع علامات الهدى والضلال.

وهذا أحد أفضل أساليب المناظرة والبحث، بأن يضع الطرف الآخر في حالة من التفكّر والتفاعل، وما يتوهّمه البعض أنّ ذلك نوع من التقيّة فهو منتهى الإشتباه.

الملفت للنظر هو ذكر "على" من "الهدى" و "في" مع "الضلال"، إشارة إلى أنّ المهتدين كأنّهم يركبون مركباً سريعاً، أو يستعلون مناراً عالياً ويتسلّطون على كلّ شيء، في حال كون الضالّين مغمورين في ظلمة جهلهم.

ومن الجدير بالملاحظة كذلك هو أنّه تعالى تحدّث عن "الهدى" أوّلا ثمّ "الضلال"، وذلك أنّه قال: "إنّا" في بداية الجملة أوّلا، ثمّ قال "إيّاكم"، لتكون تلميحاً إلى هدى الفريق الأوّل، وضلالة الفريق الثاني.

ورغم أنّ بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ وصف "المبين" يرتبط فقط (بالضلال)، بلحاظ أنّ الضلال أنواع وضلال الشرك أوضحها.

ولكن يحتمل أيضاً أن يكون هذا الوصف للهدى والضلال على حدّ سواء، لأنّ "الصفة" في مثل هذه الموارد لا تتكرّر لتكون أكثر بلاغة، وعليه فيكون (الهدى) مبنياً و (الضلال) مبنياً، كما ورد في كثير من آيات القرآن(5).

وتستمرّ الآية التي بعدها بالإستدلال بشكل آخر - ولكن بنفس النمط المنصف الذي يستنزل الخصم من مركب العناد والغرور.

يقول تعالى: (قل لا تسألون عمّا أجرمنا ولا نُسأل عمّا تعملون).

والعجيب هنا أنّ الرّسول (ص) مأمور بإستعمال تعبير "جرم" فيما يخصّه، وتعبير "أعمال" فيما يخصّ الطرف الآخر، وبذا تتّضح حقيقة أنّ كلّ شخص مسؤول أن يعطي تفسيراً لأعماله وأفعاله، لأنّ نتائج أعمال أي إنسان تعود عليه، حسنها وقبيحها، وفي الضمن إشارة لطيفة إلى إنّنا إنّما نصرّ على إرشادكم وهدايتكم، لا لأنّ ذنوبكم تقيّد في حسابنا، ولا لأنّ شرّكم يضرّ بنا، نحن نصرّ على ذلك بدافع الغيرة عليكم وطلباً للحقّ.

الآية التالية - في الحقيقة - توضيح لنتيجة الآيتين السابقتين، فبعد أن نبّه إلى أنّ أحد الفريقين على الحقّ والآخر على الباطل، وإلى أنّ كلاًّ منهما مسؤول عن أعماله، إنتقل إلى توضيح كيفية التحقّق من وضع الجميع، والتفريق بين الحقّ والباطل ومجازاة كلّ فريق طبق مسؤوليته، فيقول تعالى، قل لهم بأنّ الله سوف يجمعنا في يوم البعث، ويحكم بيننا بالحقّ، ويفصل بعضنا عن بعض، حتّى يعرف المهتدون من الضالّين، ويبلغ كلّ فريق بنتائج أعماله.

(قل يجمع بيننا ربّنا ثمّ يفتح بيننا بالحقّ).

وإذا كنتم اليوم ترون أنّكم مخلوطون بعضكم البعض، وكلاًّ يدّعي بأنّه على الحقّ وبأنّه من أهل النجاة، فإنّ هذا الوضع لن يدوم إلى الأبد، ولابدّ أن يأتي يوم التفريق بين الصفوف.

فربوبية الله إقتضت فصل "الطيب" من "الخبيث" و "الخالص" من "المشوب" و "الحقّ" عن "الباطل" في النهاية.

ويستقرّ كلّ منهما في مكانه اللائق.

فكّروا الآن ماذا ستعملون في ذلك اليوم؟ وفي أي صفّ ستقفون؟ وهل أحضرتم إجابة لمساءلة الله في ذلك اليوم؟.

وفي آخر الآية يضيف ليؤكّد حتمية ذلك التفريق فيقول: (وهو الفتّاح العليم).

هذان الإسمان - وهما من أسماء الله الحسنى - أحدهما يشير إلى قدرة الله تعالى على عملية فصل الصفوف، والآخر إلى علمه اللا متناهي.

إذ أنّ عملية تفريق صفوف الحقّ عن الباطل لا يمكن تحقّقها بدون هاتين الصفتين.

وإستخدام كلمة "الربّ" في الآية أعلاه إشارةً إلى أنّ الله هو المالك والمربّي للجميع، وذلك ممّا يقتضي أن يكون برنامج مثل ذلك اليوم معدّاً، وفي الحقيقة هي إشارة لطيفة إلى إحدى دلائل "المعاد".

لفظة "فتح"، كما يشير الراغب في مفرداته "الفتح إزالة الإغلاق والإشكال، وذلك ضربان: أحدهما يدرك بالبصر كفتح الباب ونحوه، وكفتح القفل، والغلق والمتاع.

والثّاني: يدرك بالبصيرة كفتح الهم وهو إزالة الغمّ، وذلك ضروب: أحدها: في الاُمور الدنيوية كغمّ يُفرج وفقر يزال بإعطاء المال ونحوه، والثاني: فتح المستغلق من العلوم، ... إلى أن يقول: و "فتح القضيّة فتاحاً" فصل الأمر فيها وأزال الإغلاق عنها".

وعليه فإنّ إستخدام هذه المفردة هنا لأنّ الحكم والقضاء يتمّ أيضاً هناك، فضلا عن الفصل والتفريق بينهما الذي هو أحد معاني كلمة "فتح" - ومجازاة كلّ بما يستحق.

الجدير بالملاحظة، هو أنّ بعض الرّوايات أشارت إلى ذكر "يافتّاح" في الأدعية لحلّ بعض المعضلات، لأنّ هذا الإسم الإلهي العظيم وهو بصيغة المبالغة من الفتح - يدلّل على قدرة الله على حلّ أي مشاكل ورفع أي حسرة وغمّ، وتهيئة أسباب أي فتح ونصر، وفي الواقع فإنّه هو وحده (الفتّاح)، ومفتاح كلّ الأبواب المغلقة في يد قدرته تعالى.

في الآية الأخيرة من هذه الآيات والتي هي عبارة عن الأمر الخامس للرسول (ص) يعود القرآن إلى الحديث مرّة اُخرى في مسألة التوحيد التي ابتدأ بها ليختمه بها، يقول تعالى: (قل أروني الذين ألحقتم به شركاء).

فما هي قيمة هؤلاء وقابلياتهم؟ فإن كان مقصودكم حفنة الحجر والخشب الجامدة الميتة.

فإنّ ذلك لممّا يدعو إلى الخجل ويدلّل على سوء التوفيق أن تتوهّموا تشابه أحقر الموجودات - وهي الجمادات ممّا صنعت أيديكم - مع الله تعالى.

وإن إعتقدتم بأنّها تمثّل الأرواح والملائكة فالمصيبة أعظم، لأنّ هؤلاء أيضاً مخلوقات له سبحانه وتعالى، ومنفذة لأوامره.

لذا فبعد هذه الجملة مباشرة، وبكلمة واحدة يشطب على هذه الأباطيل فيقول: (كلاّ) فهذه الأشياء لا تستحقّ أن تعبد أبداً وهذه الأوهام والتصورات ليس لها شيء من الواقعية، فإلى متى تسلكون هذه الطريقة الخاطئة.

وكلمة "كلاّ" مع صغرها استبطنت كلّ هذه المعاني.

ثمّ لأجل تأكيد وتثبيت هذا المعنى يقول مختتماً الحديث (بل هو الله العزيز الحكيم).

فعزّته وقدرته الخارقة، تقتضي الدخول في حريم ربوبيته، وحكمته تقتضي توجيه هذه القدرة في محلّها.

نعم، فإنّ إمتلاك هذه الصفات علامة كونه واجب الوجود، وواجب الوجود وجود لا نهاية له ولا حدّ، وغير قابل للتعدّد، ولا شريك له ولا شبيه، لأنّ أي تعدّد له يعني حدّه وإمكانيته، بينما "الوجود اللا متناهي" دائماً وأبداً واحد لا غير "تأمّل".

بحث

طريق تسخير القلوب:

كثيراً ما يلاحظ أفراد فضلاء وعلى مستوى من العلم والمعرفة، لا يمكنهم النفوذ في أفكار الآخرين، لعدم إطّلاعهم على الفنون الخاصّة بالبحث والإستدلال، وعدم رعايتهم للجوانب النفسية، على عكس البعض الآخر الذين ليسوا على وفرة من العلم، إلاّ أنّهم موفّقين من ناحية جذب القلوب وتسخيرها والنفوذ في أفكار الآخرين.

والعلّة الأساسية لذلك هي أنّ طريقة البحث، واُسلوب التعامل مع الطرف المقابل يجب أن تكون مقرونة باُصول وقواعد تتّسق مع الخُلُق والروح، فلا تستثار الجوانب السلبية في الطرف المقابل، كي لا يندفع إلى العناد والإصرار، إذ أنّ مراعاة الجانب النفسي ستؤدّي إلى إيقاظ وجدانه وإثارة روح البحث عن الحقيقة وإحيائها فيه.

والمهمّ هنا أن نعلم أنّ الإنسان ليس فكراً وعقلا صرفاً كي يستسلم أمام قدرة الإستدلال، بل علاوةً على ذلك فإنّ مجموعة من العواطف والأحاسيس التي تشكّل جانباً مهمّاً من روحه مطوية في وجوده، والتي يجب إشباعها بشكل صحيح ومعقول.

والقرآن الكريم علّمنا كيفية مزج البحوث المنطقية بالاُصول الأخلاقية في المحاورة، حتّى تنفذ في أرواح الآخرين.

شرط التأثير والنفوذ في روح الطرف المقابل هو إحساس الطرف المقابل بأنّ المتحدّث يتحلّى بالصفات التالية:

1- مؤمن بما يقول، وما يقوله صادر من أعماقه.

2- هدفه من البحث طلب الحقّ، وليس التفوّق والتعالي.

3- لا يقصد تحقير الطرف المقابل، وإعلاء شأن نفسه.

4- ليس له مصلحة شخصية فيما يقول، بل إنّ ما يقوله نابع من الإخلاص.

5- يكنّ الإحترام للطرف المقابل، لذا فهو يستخدم الأدب والرقّة في تعبيراته.

6- لا يريد إثارة العناد لدى الطرف المقابل، ويكتفي من البحث في موضوع بالمقدار الكافي، دون الإصرار على إثبات أنّ الحقّ إلى جانبه.

ليعرض حديثه.

7- منصف، لا يفرط بالإنصاف أبداً، حتّى وإن لم يراع الطرف المقابل هذه الاُصول.

8- لا يقصد تحميل الآخرين أفكاره، بل يرغب في إيجاد الدافع لدى الآخرين حتّى يوصلهم إلى الحقيقة بمنتهى الحرية.

الدقّة المتناهية في هذه الايات، واُسلوب تعامل الرّسول (ص) - بأمر الله - مع المخالفين، المقترن بكثير من اللفتات الجميلة، تعتبر دليلا حيّاً على ما ذكرناه.

فهو أحياناً يصل إلى حدّ لا يشير بدقّة إلى المهتدي أو المضلّ في أحد الفريقين، بل يقول: (وإنّا وإيّاكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين) حتّى يثير في الذهن التساؤل عن علامات الهدى أو الضلال في أي الفريقين.

أو يقول: (قل يجمع بيننا ربّنا ثمّ يفتح بيننا بالحقّ).

طبعاً لا يمكن إنكار أنّ كلّ ذلك بالنسبة إلى الأشخاص المؤمّل إهتداؤهم، وإلاّ فإنّ القرآن يتعامل مع الأعداء المعاندين والظلمة القساة الذين لا يؤمّل منهم القبول بذلك بطريقة اُخرى.

اُسلوب محاورات الرّسول (ص) والأئمّة (ع) مع مخالفيهم يمثّل نموذجاً حيّاً في هذا المجال، وكمثال على ذلك لاحظوا ما ورد عن الإمام الصادق (ع) بهذا الخصوص في كتب الحديث:

ففي أوائل كتاب توحيد المفضّل نقرأ "روى محمّد بن سنان قال: حدّثني المفضّل بن عمر قال: كنت ذات يوم بعد العصر جالساً في الروضة الشريفة بين القبر والمنبر، وأنا مفكّر فيما خصّ الله تعالى به سيّدنا محمّداً (ص)، من الشرف والفضائل، وما منحه وأعطاه وشرّفه وحباه، ممّا لا يعرفه الجمهور من الاُمّة وما جهلوه من فضله وعظيم منزلته، وخطير مرتبته، فإنّي لكذلك إذ أقبل "ابن أبي العوجاء، "رجل ملحد معروف".

إلى أن يذكر أحاديث هذا الرجل التي سمعها المفضّل... إلى أن (قال المفضّل): فلم أملك نفسي غضباً وغيظاً وحنقاً، فقلت: ياعدوّ الله ألحدت في دين الله، وأنكرت الباري جلّ قدسه الذي خلقك في أحسن تقويم وصوّرك في أتمّ صورة، ونقلك في أحوالك حتّى بلغ إلى حيث إنتهيت.

فلو تفكّرت في نفسك وصدقك ولطيف حسّك، لوجدت دلائل الربوبية وآثار الصنعة فيك قائمة، وشواهده جلّ وتقدّس في خلقك واضحة، وبراهينه لك لائحة، فقال: ياهذا إن كنت من أهل الكلام كلّمناك فإن ثبتت لك حجّة تبعناك، وإن لم تكن منهم فلا كلام لك، وإن كنت من أصحاب جعفر بن محمّد الصادق فما هكذا تخاطبنا، ولا بمثل دليلك تجادل فينا، ولقد سمع من كلامنا أكثر ممّا سمعت، فما أفحش في خطابنا، ولا تعدّى في جوابنا، وإنّه الحليم الرزين، العاقل الرصين، لا يعتريه خرق ولا طيش ولا نزق، يسمع كلامنا، ويصغي إلينا ويتعرّف حجّتنا، حتّى إذا إستفرغنا ما عندنا، وظننا أنّا قطعناه، دحض حجّتنا بكلام يسير، وخطاب قصير يلزمنا به الحجّة، ويقطع العذر، ولا نستطيع لجوابه ردّاً، فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه"(6).


1- يونس، 18.

2- (فزع) من مادّة "فزع"، وفي وقت تعدّيها بحرف الجرّ (عن) تكون بمعنى إزالة الفزع والوحشة والإضطراب، كذلك لو وردت بصورة الثلاثي المجرّد وتعدّت بحرف الجرّ (عن) يكون لها نفس المعنى أيضاً.

3- هذه الجملة تقديراً تعود إلى جملتين كما يلي "وانّا لعلى هدىً أو في ضلال مبين، وإنّكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين" (مجمع البيان، مجلّد7، ص388).

4- راجع الآيات التالية: النمل: 1، النور: 12، هود: 6، القصص: 2، النمل: 79.

5- توحيد المفضّل - أوائل الكتاب.

6- تفسير مجمع التبيان، مجلّد 8، ص391.