الآيات 15 - 17

﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإِ فِى مَسْكَنِهِمْ ءَايَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِين وَشِمَال كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَـهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُل خَمْط وَأَثْل وَشَىْء مِّن سِدْر قَلِيل (16) ذَلِكَ جَزَيْنَـهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَـزِى إِلاَّ الْكَفُورَ (17)﴾

التّفسير

المدينة الراقية التي أضاعها الكفران:

بعد أن تطرّقت الآيات السابقة إلى توضيح النعم الإلهية العظيمة التي أولاها الله داود وسليمان (ع)، وأداء هذين النّبيين العظيمين وظيفتهما بالشكر، تنتقل الآيات أعلاه إلى الحديث عن قوم آخرين يمثّلون الموقف المقابل للموقف السابق، ويحتمل أن يكونوا قد عاصروا داود وسليمان أو عاشوا بعدهما بفترة قليلة... قوم شملهم الله بأنواع النعم، ولكنّهم سلكوا طريق الكفران، فسلبهم الله ذلك، ومزّقهم شرّ ممزّق، حتّى أصبح ما حلّ بهم عبرةً للعالمين، اُولئك كانوا "قوم سبأ".

عرض القرآن المجيد تأريخ "قوم سبأ" من خلال خمس آيات، وأشار بإختصار إلى بعض خصوصيات وجزئيات حياتهم.

يقول تعالى: (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية).

وكما سنرى فإنّ عظمة هذه الآية تنبع من أنّهم بالإستفادة من خصوصيات موقعهم وطريقة إحاطة الجبال بمنطقة سكناهم وبالذكاء العالي الذي وهبهم الله، إستطاعوا حصر مياه السيول - التي لا تخلف وراءها إلاّ الدمار - خلف سدٍّ عظيم، وبذا عمّروا دولة رفيعة التمدّن، فكانت آية عظيمة أن يتحوّل سبب الخراب والدمار إلى عامل رئيسي من عوامل العمران والتمدّن!!

"سبأ" اسم من؟ وما هي؟.

الموضوع مورد أخذ وردّ بين المؤرخين، ولكن المشهور هو أنّ "سبأ" اسم "أبي العرب" في اليمن، وطبقاً للرواية الواردة عن "فروة بن مسيك" أنّه قال: "سألت رسول الله عن "سبأ" أرجل هو أم امرأة؟ فقال: هو رجل من العرب ولد له عشرة، تيامن منهم ستّة وتشاءم منهم أربعة، فأمّا الذين تيامنوا فالأزد وكندة ومذحج والأشعرون وأنمار ومجد.

فقال رجل من القوم: ما أنمار؟ قال: الذين منهم خثعم وبجيلة، وأمّا الذين تشاءموا فعاملة وجذام ولخم وغسان.

فالمراد بسبأ هاهنا القبيلة الذين هم أولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان"(1).

وبعضهم ذهب إلى أنّ "سبأ" اسم لأرض اليمن أو لإحدى مناطقها.

وظاهر الآيات القرآنية التي تحدّثت في قصّة سليمان (ع) و (الهدهد) أشارت إلى هذا المعنى أيضاً ففي الآية ( رقم 22) من سورة النمل، يقول تعالى على لسان الهدهد: (وجئتك من سبأ بنبأ يقين) يعني لقد جئتك من أرض سبأ بنبأ يقين.

في حال أنّ ظاهر الآية مورد البحث هو أنّ "سبأ" كانوا "قوماً" عاشوا في تلك المنطقة، بلحاظ أنّ ضمير "هم" في "مساكنهم" يعود عليهم.

ولا منافاة بين التّفسيرين لأنّ من الممكن أن يكون "سبأ" اسم شخص ابتداءً، ثمّ بعدئذ سمّي كلّ أولاده وقومه من بعده باسمه، ثمّ إنتقل الاسم ليشمل مكان سكناهم.

تنتقل الآية بعد ذلك لتجلّي الموقف عن تلك الموهبة الإلهية التي وضعت بين يدي قوم سبأ.

فيقول تعالى: (جنّتان عن يمين وشمال).

ما حصل هو أنّ قوم سبأ إستطاعوا - ببناء سدٍّ عظيم بين الجبال الرئيسية في منطقتهم - حصر مياه السيول المدمّرة أو الضائعة هدراً على الأقل، والإفادة منها... وبإحداث منافذ في ذلك السدّ سيطروا تماماً على ذلك الخزّان المائي الهائل، وبالتحكّم فيه تمكّنوا من زراعة مساحات شاسعة من الأرض.

الإشكال الذي أثاره (الفخر الرازي) هو: ما هي أهميّة وجود مزرعتين لكي يذكر ذلك في آية مستقلّة؟ ثمّ يقول في الجواب أنّ هاتين المزرعتين لم تكونا عاديتين، بل إنّهما عبارة عن سلسلة من رياض المترابطة مع بعضها البعض والممتدة على جانبي نهر عظيم يتغذّى من ذلك السدّ العظيم.

وكانت تلك الرياض مليئة بالبركات إلى درجة أنّه ورد في كتب التأريخ عنها، أن لو مرّ شخص يحمل على رأسه سلّة فارغة من تحت أشجار تلك المزارع في فصل نضوج الأثمار فانّها تمتلىء بسرعة نتيجة ما يتساقط من تلك الأثمار الناضجة.

أليس من العجيب إذاً أن يتحوّل سبب الخراب والدمار إلى سبب رئيسي للعمران بذلك الشكل المدهش؟ ثمّ ألا يعدّ ذلك من عجائب آيات الله سبحانه وتعالى؟

وعلاوة على كلّ ذلك - وكما سترد الإشارة إليه في الآيات الآتية - فإنّ من آيات الله أيضاً ذلك الأمن والأمان غير العاديين اللذين شملا تلك الأرض.

ثمّ يضيف القرآن: (كلوا من رزق ربّكم واشكروا له بلدةً طيّبة وربّ غفور)(2)(3).

هذه الجملة القصيرة تصوّر مجموعة النعم المادية والمعنوية بأجمل تعابير، فبلحاظ النعم المادية أرض طيّبة خالية من الأمراض المختلفة، من السراق والظلمة، من الآفات والبلايا، من الجفاف والقحط، من الخوف والوحشة، وقيل خالية حتّى من الحشرات المؤذية.

هواء نقي، ونسيم يبعث على السرور، أرض معطاءة وأشجار وافرة الثمر.

وأمّا بلحاظ النعم المعنوية فمغفرة الله التي شملتهم، والتغاضي عن تقصيرهم، وصرف البلاء والعذاب عنهم وعن بلدتهم.

ولكن هؤلاء الجاحدين غير الشكورين.

لم يقدّروا تلك النعمة حّق قدرها.

ولم يخرجوا من بوتقة الإمتحان بسلام، سلكوا طريق الإعراض والكفران، فقرّعهم الله أيّما تقريع!!

قال تعالى: (فاعرضوا) استهانوا بنعمة الله، توهّموا بأنّ العمران والمدنية والأمن أشياء عادية، نسوا الله، وأسكرتهم النعمة، وتفاخر الأغنياء على الفقراء، وظنّوا أنّهم يزاحمونهم في أرزاقهم - كما سيرد في الآيات اللاحقة -.

وهنا مسّهم سوط الجزاء، يقول تعالى: (فأرسلنا عليهم سيل العرم) فدمّر بيوتهم ومزارعهم وحوّلها إلى خرائب... "العرم": من "العرامة" وهي شراسة وصعوبة في الخلق تظهر بالفعل، ووصف "السيل" بالعرم إشارة إلى شدّته وقابليته على التدمير.

وتعبير "سيل العرم" من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة.

وقيل: "العرم" الجرذان الصحراوية، وهي التي سبّبت إنهيار السدّ بنفوذها فيه (قصّة نفوذ الجرذان الصحراوية في السدّ، مع كونها ممكنة - كما سيرد شرحه فيما بعد - لكن تعبير الآية ليس فيه أدنى تناسب مع هذا المعنى).

في "لسان العرب"، مادّة "عرم" وردت معان مختلفة من جملتها "السيل الذي لا يطاق" ومنه قوله تعالى "الآية"، وقيل: إضافة إلى المسنّاة أو السدّ، وقيل: إلى الفأر(4).

ولكن أنسب التفاسير هو الأوّل، وهو الذي إعتمده - أيضاً - علي بن إبراهيم في تفسيره.

بعدئذ يصف القرآن الكريم عاقبة هذه الأرض كما يلي: (وبدلّناهم بجنتيهم جنّتين ذواتي أُكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل).

"أُكل": بمعنى الطعام.

"خمط": بمعنى النبات المرّ وهو "الأراك".

"أثل": شجر معروف.

وبذا يكون قد نبت محلّ تلك الأشجار الخضراء المثمرة، أشجار صحراوية غليظة ليست ذات قيمة، والتي قد يكون "السدر" أهمّها، وهذا أيضاً كان نادراً بينها.

ولك - أيّها القارىء - أن تتخيّل أي بلاء حلّ بهؤلاء وبأرضهم؟!

ولعلّ ذكر هذه الأنواع الثلاثة من الأشجار التي بقيت في تلك الأرض المدمّرة إشارة إلى ثلاثة اُمور: أحدها قبيح المنظر، والثّاني لا نفع فيه، والثالث له منفعة قليلة جدّاً.

يقول تعالى في الآية التالية بصراحة وكتلخيص وإستنتاج لهذه القصّة (ذلك جزيناهم بما كفروا).

ويجب أن لا يتبادر إلى الذهن بأنّ هذا المصير يخصّ هؤلاء القوم، بل إنّ من المسلّم أنّه يعمّ كلّ من كانت لهم أعمال شبيهة بأعمال هؤلاء.

وهكذا تضيف الآية (وهل نجازي إلاّ الكفور).

كان هذا مختصراً عن مصير "قوم سبأ" الذي سنفصّله أكثر في تفسير الآيات اللاحقة.


1- "بلدة": خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هذه بلدة طيّبة وهذا ربّ غفور.

2- يمكن أن يكون هذا الخطاب الإلهي لهؤلاء القوم على أحد إحتمالين، فإمّا أن يكون قد أبلغ ذلك بواسطة الأنبياء المبعوثين منهم، كما قال به بعض المفسّرين، أو أنّ هذه النعم كانت توصل إلى إدراكهم مثل هذا الخطاب.

3- لسان العرب مادّة "عرم" ج12، ص396.

4- نقل هذا المثل على صورتين "تفرّقوا أيدي سبأ" و "أيادي سبأ"، ففي الشكل الأوّل إشارة إلى التمزّق البشري، والشكل الثّاني إشارة إلى تمزّق الأموال والنعم والإمكانات، لأنّ "أيادي" عادةً تستعمل بمعنى النعم.