الآيتان 10 - 11
﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَـجِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَـبِغَـت وَقَدِّرْ فِى السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَـلِحاً إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)﴾
التّفسير
المواهب الإلهية العظيمة لداود:
بناء على ما مرّ ذكره في آخر المجموعة السابقة من الآيات وما قلناه حول "العبد المنيب" والثواب.
ولعلمنا بأنّ هذا الوصف قد ذكر للنبي داود (ع) (في الآية 24 من سورة ص) - كما سيرد شرحه بإذن الله - فالأفضل من أن نتعرّض لجانب من حياة هذا النّبي (ع) كمثال للإنابة والتوبة وإكمال البحث السابق.
وهي أيضاً تنبيه لكل من يغمط نعم الله ويتناساها، ويتخلّى عن عبوديته لله عند جلوسه على مسند القدرة والسلطة.
في الآية الاُولى يقول تعالى: (ولقد آتينا داود منّا فضلا).
مفردة "فضل" ذات معنى وسيع، يشمل كلّ المواهب التي تفضّل الله بها على داود، وزادها التنكير سعة ودلّل على عظمة تلك المواهب.
فقد شُمل داود بالمواهب العظيمة سواء من الناحية المادية أو المعنوية، وقد تعرّض القرآن الكريم مراراً لذكرها.
ففي موضع يقول تعالى: (ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضّلنا على كثير من عباده المؤمنين).(1)
وفي موضع آخر يقول تعالى على لسان داود (ياأيّها الناس عُلِّمنا منطق الطير واُوتينا من كلّ شيء إنّ هذا لهو الفضل المبين).(2)
وسترد ضمن حديثنا حول آخر هذه الآيات، معجزات مختلفة تمثّل جزءاً من هذا الفضل العظيم، وكذلك الصوت الباهر، والقدرة العالية على القضاء العادل التي اُشير إليها في سورة (ص) تمثّل لوناً آخر من ذلك الفضل الإلهي، وأهمّ من ذلك كلّه النبوّة والرسالة التي شُرِّف بها داود.
وعلى كلّ حال، فبعد هذه الإشارة الإجمالية العامّة، تبدأ الآية بشرح وتوضيح جوانب من الفضائل المعنوية والمادية التي تمتّع بها داود، فيقول تعالى: (ياجبال أوّبي معه والطير).
كلمة "أوّبي" في الأصل من "التأويب" بمعنى الترجيع وإعادة الصوت في الحلق.
وهذا الأصل يستعمل أيضاً بمعنى "التوبة" لأنّ حقيقتها الرجوع إلى الله.
ومع أنّ كلّ ذرّات الوجود تذكر الله وتسبّح بحمده، سواء أسَبَّحَ داود (ع) معها أو لم يسبّح، ولكن الميزة التي خُصّ بها داود هي أنّه ما إن يرفع صوته ويبدأ التسبيح، إلاّ ويظهر ما كان خفيّاً وكامناً في الموجودات، وتتبدل الهمهمة الباطنية إلى نغمة علنية منسجمة، كما ورد في الروايات من تسبيح الحصاة في يد الرّسول الأكرم(ص).
وقد ورد عن الإمام الصادق (ع) عند ذكره لقصّة داود "إنّه خرج يقرأ الزبور، وكان إذا قرأ الزبور لا يبقى جبل ولا حجر ولا طائر إلاّ أجابه"(3).
وبعد ذكر هذه الفضيلة المعنوية، تذكر الآية فضيلة مادية اُخرى فتقول: (وألنّا له الحديد).
يمكن القول، بأنّ الله تعالى علّم داود - إعجازاً - ما استطاع بواسطته تليين الحديد حتّى يمكنه من صنع أسلاك رقيقة وقوية لنسج الدروع منها، أو أنّه كان قبل داود يستفاد من صفائح الحديد لصناعة الدروع والإفادة منها في الحروب، ممّا كان يسبّب حرجاً وإزعاجاً للمحاربين نتيجة ثقل الحديد من جهة، وعدم قابلية تلك الدروع للإنحناء أو الإلتواء حين إرتدائها، ولم يكن أحدٌ قد إستطاع حتّى ذلك اليوم نسج الدروع من أسلاك الحديد الرفيعة المحكمة، ليكون لباساً يمكن إرتداؤه بسهولة والإفادة من قابليته على التلوّي والإنحناء مع حركة البدن برقّة وإنسياب(4).
ولكن ظاهر الآية يدلّل على أنّ ليونة الحديد تمّت لداود بأمر إلهي، فما يمنع الذي أعطى لفرن النار خاصية إلانة الحديد، أن يعطي هذه الخاصية لداود بشكل آخر، وقد أشارت بعض الروايات أيضاً إلى هذا المعنى.
فقد روي عن الإمام الصادق (ع)، أنّه قال: "إنّ الله أوحى إلى داود: نعم العبد أنت إلاّ أنّك تأكل من بيت المال، فبكى داود أربعين صباحاً، فألان الله له الحديد، وكان يعمل كلّ يوم درعاً فيبيعها بألف درهم فعمل ثلاثمائة وستّين درعاً فباعها بثلاثمائة وستّين ألفاً فاستغنى عن بيت المال"(5).
صحيح أنّ بيت المال يؤمّن مصارف الأشخاص الذين يقدّمون خدمة مجانية للاُمّة، ويتحمّلون الأعباء التي لا يتحمّلها غيرهم، ولكن ما أروع أن يستطيع الإنسان تقديم هذه الخدمة، وتأمين معاشه - في حال الإستطاعة - من كدّ يمينه، وداود (ع) أراد أن يكون ذلك العبد الممتاز.
على كلّ حال، فإنّ داود وجّه هذه القدرة التي وهبها إيّاه الله في أفضل الطرق وهي صناعة وسائل الجهاد والدفاع ضدّ الأعداء، ولم يحاول الإستفادة منها في صناعة وسائل الحياة العادية، وعلاوة على الإستفادة من دخله منها في تصريف اُمور حياته المعاشية البسيطة، فقد هيّأ جزءاً منه للإنفاق على المحتاجين(6).
وفوق كلّ هذا، فقد كان عمله بحدّ ذاته معجزة إرتبطت به.
نقل بعض المفسّرين قال "حُكي أنّ لقمان حضر داود عند أوّل درع عملها فجعل يتفكّر فيها ولا يدري ما يريد، ولم يسأله حتّى فرغ منها ثمّ قام فلبسها وقال: نعم جُنة الحرب هذه.
فقال لقمان: الصمت حكمة وقليل فاعله!"(7).
الآية التي بعدها تتعرّض لشرح صناعة داود للدروع والأمر الإلهي العميق المعنى بهذا الخصوص.
يقول تعالى: (أن اعمل سابغات وقدّر في السرد).
"سابغات": جمع (سابغ) وهو الدرع التامّ الواسع، و"إسباغ النعمة" أيضاً بمعنى توسيعها.
"سرد": في الأصل بمعنى حياكة ما يخشن ويغلظ كنسج الدرع وخرز الجلد، واستعير لنظم الحديد.
وجملة (وقدّر في السرد) معناها مراعاة المقاييس المتناسبة في حلقات الدرع وطريقة نسجها.
وفي الواقع فإنّ الله تعالى قد أمر داود بأن يكون مثالا يحتذى لكل الحرفيين والعمّال المؤمنين في العالم، بمراعاته للإتقان والدقّة في العمل من حيث الكمّ والكيف في المصنوعات، ليستطيع بالتالي مستهلكوها إستعمالها براحة وبشكل جيّد، والإفادة من متانتها.
يقول تعالى لداود: أن اصنع الدروع واسعة ومريحة، حتّى لا تكون سجناً للمقاتل وقت إرتدائها... لا تجعل حلقاتها صغيرة وضيّقة أكثر من اللازم فتفقد بذلك خاصيّة الإنثناء والتطوّي، ولا كبيرة إلى درجة يمرّ منها حدّ السيف والخنجر والسنان، فكلّ شيء يجب أن يكون ضمن مقياس معيّن وتناسب محدّد.
الخلاصة: هي أنّ الله تعالى قد قيّض لداود "المادّة" بمقتضى (وألنّا له الحديد).
وكذلك علّمه بطريقة تحويلها وصناعتها، حتّى يكون الناتج كاملا بإجتماع "المادّة" و "الصورة".
ثمّ تُختم الآية بخطاب لداود وأهل بيته (واعملوا صالحاً إنّي بما تعملون بصير).
ويلاحظ أنّ المخاطب كان في صدر الآية داود وحده، بيننما تحوّل الخطاب في آخر الآية ليشمل داود وأهل بيته أو داود وقومه، ذلك لأنّ هذه الاُمور مقدّمة للعمل الصالح، فالهدف ليس صناعة الدروع وتحقيق الربح، بل إنّ ذلك كلّه وسيلة في المسير باتّجاه العمل الصالح.
وليستفيد أيضاً داود وأهل بيته.
وإحدى خصائص العمل الصالح هي مراعاة الدقّة الكافية في الصناعات من كلّ الجوانب وتقديم نتاج كامل ومفيد خال من أي عيب أو تقصير.
ومن المحتمل أيضاً أن يكون الخطاب لداود وكلّ من تحقّقت له الإستفادة من جهده ونسيجه، إشارة إلى أنّ هذه الوسيلة الدفاعية ينبغي أن تستخدم في طريق العمل الصالح، وليس في طريق المعاصي والجور والظلم.
1- النمل، 16.
2- الميزان، ج16، ص367.
3- اُنظر تفسير البرهان، ج3، ص343. وتفسير نور الثقلين، ج4، ص315.
4- مجمع البيان - ج8 ص381.
5- راجع تفسير أبو الفتوح الرازي، ج9، ص192.
6- مجمع البيان، ج8، ص382.
7- "لسليمان" جار ومجرور متعلّق بفعل مقدّر تقديره "سخّرنا" كما يفهم بقرينة الآيات السابقة، وقد صُرّح بذلك في الآية (36) من سورة ص. التي قال فيها سبحانه وتعالى: (فسخّرنا له الريح). وبعض المفسّرين يعتقد بأنّ (اللام) في (لسليمان) للتخصيص، إشارةً إلى أنّ المعجزة إختصّ بها سليمان ولم يشاركه فيها أحد من الأنبياء.