الآيات 6 - 9

﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِى إلى صِرَطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُل يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّق إِنَّكُمْ لَفِى خَلْق جَدِيد (7) أَفْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ فِى الْعَذَابِ وَالضَّلَـلِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالاَْرْضِ إِن نَّشَأَ نَخْسِفْ بِهِمْ الاَْرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَةً لِّكُلِّ عَبْد مُّنِيب (9)﴾

التّفسير

العلماء يرون دعوتك إنّها حقّ:

كان الحديث في الآيات السابقة عن عمي البصائر، المغفّلين الذين أنكروا المعاد مع كلّ تلك الدلائل القاطعة، وسعوا سعيهم لتكذيب الآيات الإلهية، وإضلال الآخرين.

وعلى هذا، فإنّ الآيات مورد البحث، تتحدّث عن العلماء والمفكّرين الذين صدّقوا بآيات الله وسعوا سعيهم لتشجيع الآخرين على التصديق بها، يقول تعالى: (ويرى الذين اُوتوا العلم الذي اُنزل إليك من ربّك هو الحقّ ويهدي إلى صراط العزيز الحميد).

فسّر بعض المفسّرين عبارة (الذين اُوتوا العلم)، بتلك المجموعة من علماء أهل الكتاب الذين يتّخذون موقف الخضوع والإقرار للحقّ عند مشاهدة آثار حقّانية القرآن الكريم.

وليس هناك مانع من إعتبار علماء أهل الكتاب أحد مصاديق الآية، ولكن تحديدها بهم يفتقد إلى الدليل، بل مع الإلتفات إلى الفعل المضارع (يرى) وسعة مفهوم "الذين اُوتوا العلم" يتّضح شمول الآية لكلّ العلماء والمفكّرين في كلّ عصر وزمان ومكان.

وإذا فُسّرت بكونها إشارة إلى "أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام"، كما في تفسير علي بن إبراهيم، فإنّ ذلك توضيح وإشارة إلى أتمّ وأكمل مصاديق الآية.

نعم، فأي عالم موضوعي وغير متعصّب إذا تأمّل في ما ورد في هذا الكتاب السماوي، وتدبّر في معارفه العميقة، وأحكامه المتينة، ونصائحه الحكيمة، ومواعظه المؤثّرة في الوجدان إلى قصصه التأريخية المشعّة بالعِبرة، وبحوثه العلمية الإعجازية، فسيعلم بأنّها جميعاً دليل على حقّانية هذه الآيات.

واليوم، فإنّ هناك كتباً متنوّعة كتبها مفكّرون غربيون وشرقيون حول الإسلام والقرآن، تحوي إعترافات ظاهرة على عظمة الإسلام وصدق الآية مورد البحث.

التعبير بـ "هو الحقّ" تعبير جامع ينطبق على جميع محتوى القرآن الكريم، حيث أنّ "الحقّ" هو تلك الواقعة العينية والوجود الخارجي، أي إنّ محتوى القرآن يتساوق وينسجم مع قوانين الخلق وحقائق الوجود وعالم الإنسانية.

ولكونه كذلك فهو يهدي إلى صراط الله، الله "العزيز" و "الحميد" أي أنّه تعالى الأهل لكلّ حمد وثناء وفي ذات الوقت فانّ قدرته غاية القدرة والغلبة، وليس هو كأصحاب القدرة من البشر الذي يتعامل منطلقاً من كونه على عرش القدرة بالدكتاتورية والظلم والتجاوز والتلاعب.

وقد جاء نظير هذا التعبير في الآية الاُولى من سورة "إبراهيم" حيث قال جلّ من قائل: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربّهم إلى صراط العزيز الحميد).

وواضح أنّ من كان مقتدراً وأهلا للحمد والثناء، ومن هو عالم ومطّلع رحيم وعطوف، من المحتّم أن يكون طريقه أكثر الطرق إطمئنان وإستقامة.

فمن يسلك طريقه إنّما يقترب من منبع القدرة وكلّ الأوصاف الحميدة.

ويعود تعالى إلى مسألة القيامة والبعث في الآية التي بعدها، ويكمل البحوث السابقة بطريقة اُخرى، فيقول تعالى: (وقال الذين كفروا هل ندلّكم على رجل ينبئكم إذا مُزقتم كلّ ممزق إنّكم لفي خلق جديد).

يبدو أنّ إصرار - هؤلاء الكفّار - على إنكار مسألة المعاد يعتمد على أمرين:

الأوّل: توهمّهم أنّ المعاد الذي تحدّث عنه رسول الإسلام (ص) وهو "المعاد الجسماني"، أمر يسهل الإشكال عليه والطعن فيه، وأنّ بإمكانهم تنفير الناس منه فينكرونه بسهولة.

الثّاني: أنّ الإعتقاد بالمعاد، أو حتّى القبول بإحتماله - على كلّ حال - إنّما يفرض على الإنسان مسؤوليات وتعهّدات، ويضعه وجهاً لوجه أمام الحقّ، وهذا ما إعتبره رؤوس الكفر خطراً حقيقيّاً، لذا فقد أصرّوا على إلغاء فكرة المعاد والجزاء الاُخروي على الأعمال من أذهان الناس.

فقالوا: أيمكن لهذه العظام المتفسّخة، وهذه الذرّات المبعثرة، التي تعصف بها الريح من كلّ جانب، أن تُجمع في يوم وتُلبس ثوب الحياة من جديد؟

وإستخدامهم لكلمة (رجل) بصيغة النكرة في تعبيرهم عن الرّسول (ص) يقصد منه التحقير "وحاشاه".

ولكن فاتهم أنّنا في بدء الخليقة لم نكن إلاّ أجزاء مبعثرة، فكلّ قطرة ماء في أبداننا إنّما كانت قطرة في زاوية من بحر أو ينبوع ماء، وكلّ ذرّة من مواد أجسامنا، كانت في جانب من جوانب هذه الأرض المترامية، وسيجمعها الله تبارك وتعالى في النهاية أيضاً كما جمعها في البدء، وهو على كلّ شيء قدير.

والعجيب أنّهم اعتبروا ذلك دليلا على كذب الرّسول (ص) أو جنونه، وحاشاه (افترى على الله كذباً أم به جنّة).

وإلاّ فكيف يمكن لرجل عاقل أو صادق أن يتفوّه بمثل هذا الحديث!!؟

ولكن القرآن يردّ عليهم بشكل حاسم قائلا: (بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد).

فأي ضلال أوضح من أن يرى مُنكِرُ المعاد باُمّ عينيه مثالا لهذا المعاد في عالم الطبيعة في كلّ عام بإحياء الأرض الميتة بالزرع.

المعاد الذي لولا وجوده لما كان للحياة في هذا العالم أي معنى أو محتوى.

وأخيراً فإنكار المعاد مساو لإنكار قدرة وعدل وحكمة الله جلّ وعلا.

ولكن لماذا يؤكّد تعالى أنّهم الآن في العذاب والضلال؟

ذلك لأنّ الإنسان يواجه في حياته مشاكل وأحداثاً لا يمكنه - بدون الإيمان بالآخرة - تحمّلها، والحقيقة أنّ الحياة لو حُدَّت بهذه الأيّام القليلة من عمر الدنيا لكان تصوّر الموت بالنسبة لكلّ إنسان كابوساً مرعباً، لهذا السبب نرى أنّ منكري المعاد في قلق دائم منغّص وعذاب أليم، في حال المؤمنين بالمعاد يعتبرون الموت قنطرة إلى عالم البقاء، ووسيلة لكسر القيود والتحرّر من سجن الدنيا.

نعم، فالإيمان بالمعاد، يغمر قلب الإنسان بالطمأنينة، ويهوّن عليه المشكلات، ويجعله أكثر قدرة على الإيثار والفداء والتضحية.

أمّا الذين يرون المعاد - لجهلهم وكفرهم - دليلا على الكذب أو الجنون، إنّما يأسرون أنفسهم في عذاب العمى، والضلال البعيد.

ومع أنّ بعض المفسّرين اعتبروا هذا العذاب إشارة إلى عذاب الآخرة، ولكنّ ظاهر الآية يدلّل على أنّهم أسرى هذا العذاب والضلال الآن وفي هذه الدنيا.

ثمّ ينتقل القرآن الكريم لتقديم دليل آخر عن المعاد، مقترن بتهديد الغافلين المعاندين فيقول تعالى: (أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض).

فإنّ هذه السماء العظيمة بكلّ عجائبها، بكواكبها الثابتة والسيّارة، وبالأنظمة التي تحكمها، وكذلك الأرض بكلّ مدهشاتها وأنواع موجوداتها الحيّة، وبركاتها ومواهبها، لأوضح دليل على قدرة الخلاّق العظيم.

فهل أنّ القدير على كلّ هذه الاُمور، عاجز عن إعادة الإنسان بعد الموت إلى الحياة؟

وهذا هو "برهان القدرة" الذي استدلّ به القرآن الكريم في آيات اُخرى في مواجهة منكري المعاد، ومن جملة هذه الآيات، الآية ( رقم 82) من سورة يس.

الآية ( رقم 99) من سورة الإسراء والآيتين (6 و7) من سورة ق.

ونشير إلى أنّ هذه الجملة كانت مقدّمة لتهديد تلك الفئة المتعصّبة من ذوي القلوب السوداء، الذين يصّرون على عدم رؤية كلّ هذه الحقائق.

لذا يضيف تعالى قائلا: (إن نشأ نخسف بهم الأرض) فنأمر الأرض فتنشقّ بزلزلة مهولة وتبتلعهم، أو نأمر السماء فترميهم بقطعات من الحجر وتدمّر بيوتهم وتهلكهم (أو نسقط عليهم كسفاً من السماء) أجل، إنّ في هذا الأمر دلائل واضحة على قدرة الله تعالى على كلّ شيء، ولكن يختّص بإدراك ذلك كلّ إنسان يتدبّر في مصيره ويسعى في الإنابة إلى الله (إنّ في ذلك لآية لكلّ عبد منيب).

لابدّ أن سمع أو شاهد كلّ منّا نماذج من الزلازل أو الخسف في الأرض، أو سقوط النيازك من السماء، أو بتساقط وتناثر صخور الجبال بسبب صاعقة أو إنفجار بركان، وكلّ عاقل يدرك إمكانية حصول مثل هذه الاُمور في أيّة لحظة وفي أيّ مكان من العالم، فإذا كانت الأرض هادئة تحت أقدامنا، والسماء آمنة فوق رؤوسنا، فلأنّها كذلك بقدرة اُخرى وبأمر من آمر، فكيف نستطيع - ونحن المحكومون بقدرته في كلّ طرفة عين - إنكار قدرته على البعث بعد الموت، أو كيف نستطيع الفرار من سلطة حكومته!!.

هنا يجب الإلتفات إلى جملة اُمور:

1- يعبّر القرآن الكريم هنا عن السماء التي فوق رؤوسنا، والأرض التي تحت أقدامنا بـ (ما بين أيديهم) و (ما خلفهم).

وهو المورد الوحيد الذي يلاحظ فيه مثل هذا التعبير.

وهذا التعبير لعلّه إشارة إلى أنّ قدرة وعظمة الله أظهر في السماء وقت طلوع أو غروب الشمس وظهور القمر والنجوم فيها.

ونعلم أنّ من يقف غالب باتّجاه الاُفق تكون السماء بين يديه، والأرض التي تأتي بالدرجة الثّانية من الأهميّة اُطلق عليها (ما خلفهم).

كذلك هي إشارة إلى هؤلاء المغرورين أنّهم إن لم يجيزوا لأنفسهم النظر إلى ما فوق رؤوسهم، فلا أقل من أن ينظروا إلى ما بين أيديهم في جوار الاُفق.

2- نعلم بأنّنا نعيش بين مصدرين عظيمين من مصادر الخطر على حياتنا:

أوّلهما: باطن الكرة الأرضية المشتعل الذي هو عبارة عن صخور مذابة ومشتعلة وفي حالة من الفوران، وفي الحقيقة فإنّ حياة جميع البشر فوق مجموعة من البراكن - بالقوّة - وبمجرّد صدور أمر إلهي صغير ينطلق أحد هذه البراكين ليهزّ منطقة عظيمة من الأرض وينثر عليها الأحجار الملتهبة والمواد المعدنية المذابة المشتعلة.

وثانيهما: مئات الآلاف من الأحجار الصغيرة والكبيرة السابحة في الفضاء الخارجي تنجذب نحو الأرض يومياً بفعل جاذبيتها، ولولا إحتراقها نتيجة إصطدامها بالغلاف الغازي، لكنّا هدفاً "لمطر حجري" بشكل متواصل ليل نهار، وأحياناً تكون أحجامها وسرعتها وقوّتها إلى درجة أنّها تتخطّى ذلك المانع وتنطلق باتّجاه الأرض لتصطدم بها.

وهذا واحد من الأخطار السماوية، وعليه فإذا كنّا نعيش وسط هذين المصدرين الرهيبين للخطر، بمنتهى الأمن والأمان بأمر الله، أفلا يكفي ذلك لأن نتوجّه إلى جلال قدرته العظيمة ونسجد تعظيماً وطاعة له!!.

3- من الجدير بالملاحظة أنّ الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث أشارت إلى (أنّ في ذلك لآية) ولكنّها حدّدت (لكلّ عبد منيب).

والإشارة تستبعد ذلك المتمرّس بالعصيان الذي خلع عن رقبته طوق العبودية لله سبحانه وتعالى، والغافلين الذين أداموا السير في الطريق الخاطئة الملوّثة بالخطايا واستبعدوا عن أذهانهم - كلياً - التوبة والإنابة، فهولاء أيضاً لا يمكنهم الإنتفاع من هذه الآية المشرقة، لأنّ وجود الشمس الساطعة لا يكفي وحده لتحصل الرؤية، بل يستلزم أيضاً العين المبصرة وإرتفاع الحجاب بينهما.