الآيات 69 - 71
﴿يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ ءَاذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللهِ وَجِيهاً (69) يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)﴾
التّفسير
بماذا رموا موسى (ع) واتّهموه؟
بعد البحوث التي مرّت في الآيات السابقة حول وجوب إحترام مقام النّبي (ص)، وترك كلّ ما يؤذيه والإبتعاد عنه، فقد وجّهت هذه الآيات الخطاب للمؤمنين، وقالت: (ياأيّها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرّأه الله ممّا قالوا وكان عند الله وجيهاً).
إنّ إختيار موسى (ع) من جميع الأنبياء الذين طالما اُوذوا، بسبب أنّ المؤذين من بني إسرائيل قد آذوه أكثر من أي نبي آخر، إضافةً إلى أنّ بعض أنواع الأذى التي رآها كانت تشبه أذى المنافقين لنبي الإسلام (ص).
وهناك بحث بين المفسّرين في المراد من إيذاء موسى (ع) هنا؟ ولماذا ذكره القرآن بشكل مبهم؟ وقد ذكروا إحتمالات عديدة في تفسير الآية، ومن جملتها:
1- إنّ موسى وهارون (ع) قد ذهبا إلى جبل - طبق رواية - وودّع هارون الحياة، فأشاع المرجفون من بني إسرائيل أنّ موسى (ع) قد تسبّب في موته، فأبان الله سبحانه حقيقة الأمر، وأسقط ما في يد المرجفين.
2- كما أوردنا مفصّلا في ذيل الآيات الأخيرة من سورة القصص، فإنّ قارون المحتال أراد أن يتملّص من قانون الزكاة، ولا يؤدّي حقوق الضعفاء والفقراء، فعمد إلى بغيّ واتّفق معها على أن تقوم بين الناس وتتّهم موسى (ع) بأنّه زنى بها، إلاّ أنّ هذه الخطّة قد فشلت بلطف الله سبحانه، بل وشهدت تلك المرأة بطهارة موسى (ع) وعفته، وبما أراده منها قارون.
3- إنّ جماعة من الأعداء اتّهموا موسى (ع) بالسحر والجنون والإفتراء على الله، ولكن الله تعالى برّأه منها بالمعجزات الباهرات.
4- إنّ جماعة من جهّال بني إسرائيل قد اتّهموه بأنّ فيه بعض العيوب الجسمية كالبرص وغيره، لأنّه كان إذا أراد أن يغتسل ويستحمّ لا يتعرّى أمام أحد مطلقاً، فأراد أن يغتسل يوماً بمنأى عن الناس، فوضع ثيابه على حجر هناك، فتدحرج الحجر بثيابه، فرأى بنو إسرائيل جسمه، فوجدوه مبرّأً من العيوب.
5- كان المعذرون من بني إسرائيل أحد عوامل إيذاء موسى (ع)، فقد كانوا يطلبون تارةً أن يريهم الله عزّوجلّ "جهرةً"، واُخرى يقولون: إنّ نوعاً واحداً من الطعام - وهو "المنّ والسلوى" - لا يناسبنا، وثالثة يقولون: إنّنا غير مستعدّين للدخول إلى بيت المقدس ومحاربة "العمالقة".
إذهب أنت وربّك فقاتلا، وافتحاه لنا لندخله بعد ذلك!
إلاّ أنّ الأقرب لمعنى الآية، هو أنّها بصدد بيان حكم كلّي عام جامع، لأنّ بني إسرائيل قد آذوا موسى (ع) من جوانب متعدّدة... ذلك الأذى الذي لم يكن يختلف عن أذى بعض أهل المدينة (لنبيّنا (ص)) كإشاعة بعض الأكاذيب وإتّهام زوج النّبي بتهم باطلة، وقد مرّ تفصيلها في تفسير سورة النور - ذيل الآيات 11- 20- والإعتراضات التي اعترضوا بها على النّبي (ص) في زواجه بزينب، وأنواع الأذى والمضايقات التي كانوا يضايقونه بها في بيته، أو مناداته باُسلوب خال من الأدب والأخلاق، وغير ذلك.
وأمّا الإتّهام بالسحر والجنون وأمثال ذلك، أو العيوب البدنية، فإنّها وإن اتُّهم موسى بها، إلاّ أنّها لا تتناسب مع (ياأيّها الذين آمنوا) بالنسبة لنبيّنا (ص) إذ لم يتّهم المؤمنون موسى (ع) ولا نبيّنا (ص) بالسحر والجنون.
وكذلك الإتّهام بالعيوب البدنية، فإنّه على فرض كونه قد حدث بالنسبة لموسى (ع)، وأنّ الله تعالى قد برّأه، فليس له مصداق أو حادثة تؤيّده في تاريخ نبيّنا (ص).
وعلى أيّة حال، فيمكن أن يستفاد من هذه الآية أنّ من كان عند الله وجيهاً وذا منزلة، فإنّ الله سبحانه يدافع عنه في مقابل من يؤذيه ويتّهمه بالأباطيل، فكن طاهراً وعفيفاً، واحفظ وجاهتك عند الله، فإنّه تعالى سيظهر عفّتك وطهارتك للناس، حتّى وإن سعى الأشقياء والمسيؤون إلى اتّهامك وتحطيم منزلتك وتشويه سمعتك بين الناس.
وقد قرأنا نظير هذا المعنى في قصّة "يوسف" الصدّيق الطاهر، وكيف برّأه الله سبحانه من تهمة امرأة عزيز مصر الكبيرة والخطيرة.
وكذلك في شأن "مريم" بنت عمران اُمّ عيسى (ع)، حيث شهد وليدها الرضيع بطهارتها وعفّتها، وقطع بذلك ألسن المتربّصين بها من بني إسرائيل، والذين كانوا يسعون لإتّهامها وتلويث سمعتها.
والجدير بالذكر أنّ هذا الخطاب لم يكن مختّصاً بالمؤمنين في زمان النّبي (ص)، بل من الممكن أن تشمل الآية حتّى اُولئك الذين سيولدون بعده ويقومون بعمل يؤذون روحه الطاهرة به، فيحتقرون دينه ويستصغرون شأنه، وينسون مواريثه، ولذلك جاء في بعض الرّوايات الواردة عن أهل البيت (ع): "ياأيّها الذين آمنوا لا تؤذوا رسول الله (ص) في علي والأئمّة صلوات الله عليهم..."(1).
وآخر كلام في تفسير هذه الآية هو: أنّه بعد ملاحظة أحوال الأنبياء العظام الذين لم يكونوا بمأمن من جراحات ألسن الجاهلين والمنافقين، يجب أن لا نتوقّع أن لا يبتلى المؤمنون والطاهرون بمثل هؤلاء الأفراد، فإنّ الإمام الصادق (ع) يقول: "إنّ رضى الناس لا يملك وألسنتهم لا تضبط..." ثمّ يضيف الإمام في نهاية هذا الحديث: "ألم ينسبوا إلى موسى أنّه عنين وآذوه حتّى برّأه الله ممّا قالوا، وكان عند الله وجيهاً"(2).
قولوا الحقّ لتصلح أعمالكم:
بعد البحوث السابقة حول ناشري الإشاعات والذين يؤذون النّبي، تصدر الآية التالية أمراً هو في الحقيقة علاج لهذا المرض الإجتماعي الخطير، فتقول: (ياأيّها الذين آمنوا اتّقوا الله وقولوا قولا سديداً).
"القول السديد" من مادّة (سد) أي المحكم المنيع الذي لا يعتريه الخلل، والموافق للحقّ والواقع، ويعني القول الذي يقف كالسدّ المنيع أمام أمواج الفساد والباطل.
وإذا ما فسّره بعض المفسّرين بالصواب، والبعض الآخر بكونه خالصاً من الكذب واللغو وخالياً منه، أو تساوي الظاهر والباطن ووحدتهما، أو الصلاح والرشاد، وأمثال ذلك، فإنّها في الواقع تفاسير ترجع إلى المعنى الجامع أعلاه.
ثمّ تبيّن الآية التالية نتيجة القول السديد، فتقول: (يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم).
إنّ التقوى في الواقع هي دعامة إصلاح اللسان وأساسه، ومنبع قول الحقّ، والقول الحقّ أحد العوامل المؤثّرة في إصلاح الأعمال، وإصلاح الأعمال سبب مغفرة الذنوب، وذلك لـ (انّ الحسنات يذهبن السيّئات).(3)
يقول علماء الأخلاق: إنّ اللسان أكثر أعضاء البدن بركة، وأكثر الوسائل تأثيراً في الطاعة والهداية والصلاح، وهو في الوقت نفسه يعدّ أخطر أعضاء البدن وأكثرها معصية وذنباً، حتّى أنّ ما يقرب من الثلاثين كبيرة تصدر من هذا العضو الصغير(4).
وفي حديث عن النّبي الأكرم (ص): "لا يستقيم إيمان عبد حتّى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه"(5).
ومن الرائع جدّاً ما ورد في حديث آخر عن الإمام السجّاد (ع): "إنّ لسان ابن آدم يشرف كلّ يوم على جوارحه فيقول: كيف أصبحتم؟ فيقولون: بخير إن تركتنا.
ويقولون: الله الله فينا، ويناشدونه ويقولون: إنّما نثاب بك ونعاقب بك"(6).
هناك روايات كثيرة في هذا الباب تحكي جميعاً عن الأهميّة الفائقة للّسان ودوره في إصلاح الأخلاق وتهذيب النفوس الإنسانية، ولذلك نقرأ في حديث: "ما جلس رسول الله (ص) على هذا المنبر قطّ إلاّ تلا هذه الآية: (ياأيّها الذين آمنوا
اتّقوا الله وقولوا قولا سديداً)(7).
ثمّ تضيف الآية في النهاية: (ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً)وأي فوز وظفر أسمى من أن تكون أعمال الإنسان صالحة، وذنوبه مغفورة، وهو عند الله من المبيضة وجوههم الذين رضي الله عنهم؟!
1- ممّا يستحقّ الإنتباه أنّه قد ورد "الضعفان" في الآيات مورد البحث، و "الضعف" في آية سورة الأعراف، إلاّ أنّه بالتدقيق في معنى الضعف يتّضح أنّ لكليهما معنىً واحداً.
2- نور الثقلين، المجلّد 4، ص308.
3- نور الثقلين، المجلّد 4، ص309.
4- سورة هود، الآية 114.
5- عدّ الغزالي في إحياء العلوم عشرين كبيرة أو معصية تصدر عن اللسان، وهي: ( 1) - الكذب ( 2) - الغيبة( 3) النميمة ( 4 ) النفاق في الكلام، أي كون الإنسان ذا لسانين ووجهين( 5 ) المدح في غير موضعه( 6) بذاءة الكلام( 7 ) الغناء والأشعار غير المرضية( 8) - الإفراط في المزاح (9 ) السخرية والإستهزاء( 10) إفشاء أسرار الآخرين( 11 ) الوعد الكاذب (12 ) اللعن في غير موضعه( 13 ) التخاصم والنزاع( 14 ) الجدال والمراء( 15) - البحث في اُمور الباطل( 16 ) الثرثرة( 17 ) البحث في الاُمور التي لا تعني الإنسان( 18 ) وصف مجالس الشراب والقمار والمعصية( 19 ) السؤال عن المسائل الخارجة عن إدراك الإنسان والبحث فيها( 20) التصنّع والتكلّف في الكلام.
ونزيد عليها عشرة مواضيع مهمّة اُخرى، وهي: ( 1 ) الإتّهام(2 ) شهادة الزور( 3 ) إشاعة الفحشاء، ونشر الإشاعات التي لا أساس لها( 4 ) مدح الإنسان نفسه( 5 ) الإصرار في غير محلّه( 6 ) الغلظة والخشونة في الكلام( 7 ) الأذى باللسان( 8 ) ذم من لا يستحقّ الذمّ( 9 ) كفران النعمة اللسان (10 ) الإعلام الباطل.
6- بحار الأنوار، المجلّد 71، صفحة 78.
7- بحار الأنوار، المجلّد 71، صفحة 278.