الآيات 36 - 38

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلاَ مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَلا مُّبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَـهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَـكَهَا لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولا (37) مَّا كَانَ عَلَى النَّبِىِّ مِنْ حَرَج فِيَما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَّقْدُوراً (38)﴾

سبب النّزول

نزلت هذه الآيات - على قول أغلب المفسّرين - في قضيّة زواج "زينب بنت جحش" - بنت عمّة الرّسول الأكرم - بزيد بن حارثة مولى النّبي (ص) المعتق، وكانت القصّة كما يلي:

كانت خديجة قد إشترت قبل البعثة وبعد زواجها بالنّبي (ص) عبداً إسمه زيد، ثمّ وهبته للنبي (ص) فأعتقه رسول الله (ص)، فلمّا طردته عشيرته وتبرّأت منه تبنّاه النّبي (ص).

وبعد ظهور الإسلام أصبح زيد مسلماً مخلصاً متفانياً، وأصبح له موقع ممتاز في الإسلام، وكما نعلم فإنّه أصبح في النهاية أحد قوّاد جيش الإسلام في معركة مؤتة وإستشهد فيها.

وعندما صمّم النّبي (ص) على أن ينتخب زوجة لزيد، خطب له "زينب بنت جحش" - والتي كانت بنت "اُميّة بنت عبدالمطلّب"، أي بنت عمّته - فكانت زينب تظنّ أنّ النّبي (ص) يريد أن يخطبها لنفسه، فسرّت ورضيت، ولكنّها لمّا علمت فيما بعد أن خطبته كانت لزيد تأثّرت تأثّراً شديداً وإمتنعت، وكذلك خالف أخوها عبدالله هذه الخطبة أشدّ مخالفة.

هنا نزلت الآية الاُولى من الآيات مورد البحث وحذّرت زينب وعبدالله وأمثالهما بأنّهم لا يقدرون على مخالفة أمر يراه الله ورسوله ضرورياً، فلمّا سمعا ذلك سلّما لأمر الله.

إنّ هذا الزواج لم يكن زواجاً بسيطاً - كما سنرى ذلك - بل كان مقدّمة لتحطيم سنّة جاهلية مغلوطة، حيث لم تكن أيّة امرأة لها مكانتها وشخصيتها في المجتمع مستعدّة للإقتران بعبد في زمن الجاهلية، حتّى وإن كان متمتّعاً بقيم إنسانية عالية.

غير أنّ هذا الزواج لم يدم طويلا، بل إنتهى إلى الطلاق نتيجة عدم الإنسجام وإختلاف أخلاق الزوجين، بالرغم من أنّ النّبي الأكرم (ص) كان مصرّاً على أن لا يتمّ هذا الطلاق.

بعد ذلك اتّخذ النّبي (ص) بأمر الله "زينب" زوجةً له لتعوّض بذلك فشلها في زواجها، فإنتهت المسألة هنا، إلاّ أنّ همهمات وأقاويل قد ظهرت بين الناس، وقد إقتلعها القرآن و عالجها في هذه الآيات التي نبحثها، وسيأتي تفصيل ذلك، إن شاءالله تعالى(1).

التّفسير

تمرّد عظيم على العرف:

نعلم أنّ روح الإسلام التسليم، ويجب أن يكون تسليماً لأمر الله تعالى بدون قيد أو شرط، وقد ورد هذا المعنى في آيات مختلفة من القرآن الكريم، وبعبارات مختلفة، ومن جملتها الآية أعلاه، والتي تقول: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) بل يجب أن يجعلوا إرادتهم تبعاً لإرادة الله تعالى، كما أنّ كلّ وجودهم من الشعر حتّى أخمص القدمين مرتبط به ومذعن له.

(قضى) هنا تعني القضاء التشريعي، والقانون والأمر والحكم والقضاء، ومن البديهي أنّ الله تعالى غني عن طاعة الناس وتسليمهم، ولم يكن النّبي (ص) ينظر بعين الطمع لهذه الطاعة، بل هي في الحقيقة لمصلحتهم ومنفعتهم، فإنّهم قد يجهلونها لكون علمهم وآفاتهم محدودة، إلاّ أنّ الله تعالى يعلمها فيأمر نبيّه بإبلاغها.

إنّ هذه الحالة تشبه تماماً حالة الطبيب الماهر الذي يقول للمريض: إنّني أبدأ بعلاجك إذا أذعنت لأوامري تماماً، ولم تبد أي مخالفة تجاهها، وهذه الكلمات تبيّن غاية حرص الطبيب على علاج مريضه، والله تعالى أسمى وأرحم بعباده من مثل هذا الطبيب، ولذلك أشارت الآية إلى هذه المسألة في نهايتها، حيث تقول: (ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالا مبيناً).

فسوف يضلّ طريق السعادة، ويسلك طريق الضلال والضياع، لأنّه لم يعبأ بأمر ربّ الكون الرحيم، وبأمر رسوله، ذلك الأمر الضامن لخيره وسعادته، وأيّة ضلالة أوضح من هذه؟!

ثمّ تناولت الآية التالية قصّة "زيد" وزوجته "زينب" المعروفة، والتي هي إحدى المسائل الحسّاسة في حياة النّبي (ص)، ولها إرتباط بمسألة أزواج النّبي (ص)التي مرّت في الآيات السابقة، فتقول: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتّق الله).

والمراد من نعمة الله تعالى هي نعمة الهداية والإيمان التي منحها لزيد بن حارثة، ومن نعمة النّبي (ص) أنّه كان قد أعتقه وكان يعامله كولده الحبيب العزيز.

ويستفاد من هذه الآية أنّ شجاراً قد وقع بين زيد وزينب، وقد استمرّ هذا الشجار حتّى بلغ أعتاب الطلاق، وبملاحظة جملة (تقول) حيث إنّ فعلها مضارع، يتسفاد أنّ النّبي كان ينصحه دائماً ويمنعه من الطلاق.

هل أنّ هذا الشجار كان نتيجة عدم تكافؤ الحالة الإجتماعية بين زينب وزيد، حيث كانت من قبيلة معروفة، وكان هو عبداً معتق؟

أم كان ناتجاً عن بعض الخشونة في أخلاق زيد؟

أو لا هذا ولا ذاك، بل لعدم وجود إنسجام روحي وأخلاقي بينهما، فإنّ من الممكن أن يكون شخصان جيدين، إلاّ أنّهما يختلفان من ناحية السلوك والفكر والطباع بحيث لا يستطيعان أن يستمرا في حياة مشتركة؟

ومهما يكن الأمر فإنّ المسألة إلى هنا ليست بذلك التعقيد.

ثمّ تضيف الآية: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحقّ أن تخشاه).

لقد أسهب المفسّرون هنا في الكلام، وكان تسامح بعضهم في التعبيرات قد منح الأعداء حربة للطعن، في حين يفهم من القرائن الموجودة في نفس الآية، وسبب نزول الآيات، والتأريخ، أنّ معنى الآية ليس مطلباً ومبحثاً معقّداً، وذلك:

إنّ النّبي (ص) كان قد قرّر أن يتّخذ "زينب" زوجة له إذا ما فشل الصلح بين الزوجين ووصل أمرهم إلى الطلاق لجبران هذه النكسة الروحية التي نزلت بابنة عمّته زينب من جرّاء طلاقها من عبده المعتق، إلاّ أنّه كان قلقاً وخائفاً من أن يعيبه الناس ويثير مخالفيه ضجّة وضوضاء، من جهتين:

الاُولى: أنّ زيداً كان ابن رسول الله (ص) بالتبنّي، وكان الابن المتبنّى - طبقاً لسنّة جاهلية - يتمتّع بكلّ أحكام الابن الحقيقي، ومن جملتها أنّهم كانوا يعتقدون حرمة الزواج من زوجة الابن المتبنّى المطلّقة.

والاُخرى: هي كيف يمكن للنبي (ص) أن يتزوّج مطلّقة عبده المعتق وهو في تلك المنزلة الرفيعة والمكانة السامية؟

ويظهر من بعض الروايات أنّ النّبي (ص) قد صمّم على أن يقدم على هذا الأمر بأمر الله سبحانه رغم كلّ الملابسات والظروف، وفي الجزء التالي من الآية قرينة على هذا المعنى.

بناءً على هذا، فإنّ هذه المسألة كانت مسألة أخلاقية وإنسانية، وكذلك كانت وسيلة مؤثّرة لكسر سنّتين جاهليتين خاطئتين، وهما: الإقتران بمطلّقة الابن المتبنّى، والزواج من مطلّقة عبد معتق.

من المسلّم أنّ النّبي (ص) لا ينبغي أن يخاف الناس في مثل هذه المسائل، ولا يدع للضعف والتزلزل والخشية من تأليب الأعداء وشايعاتهم إلى نفسه سبيلا، إلاّ أنّ من الطبيعي أن يبتلى الإنسان بالخوف والتردّد في مثل هذه المواقف، خاصّة وأنّ أساس هذه المسائل كان إختيار الزوجة، وأنّه كان من الممكن أن تؤثّر هذه الأقاويل والضجيج على إنتشار أهدافه المقدّسة وتوسّع الإسلام، وبالتالي ستؤثّر على ضعفاء الإيمان، وتغرس في قلوبهم الشكّ والتردّد.

لهذا تقول الآية في متابعة المسألة: إنّ زيد لمّا أنهى حاجته منها وطلّقها زوجناها لك: (فلمّا قضى زيد منها وطراً زوّجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهنّ وطراً) وكان لابدّ أن يتمّ هذا الأمر (وكان أمر الله مفعولا).

"الأدعياء" جمع "دعي"، أي الابن المتبنّى، و "الوطر" هو الحاجة المهمّة، وإختيار هذا التعبير في مورد طلاق زينب للطف البيان، لئلاّ يصرّح بالطلاق الذي يعدّ عيباً للنساء، بل وحتّى للرجال، فكأنّ كلا من هذين الشخصين كان محتاجاً للآخر ليحيا حياة مشتركة لمدّة معيّنة، وإفتراقهما كان نتيجة لإنتفاء هذه الحاجة ونهايتها.

والتعبير بـ (زوجناكها) دليل على أنّ هذا الزواج كان زواجاً بأمر الله، ولذلك ورد في التواريخ أنّ زينب كانت تفتخر بهذا الأمر على سائر زوجات النّبي (ص)، وكانت تقول: زوّجكنّ أهلوكنّ وزوّجني الله من السماء(2).

وممّا يستحقّ الإنتباه أنّ القرآن الكريم يبيّن بمنتهى الصراحة الهدف الأصلي من هذا الزواج، وهو إلغاء سنّة جاهلية كانت تقضي بمنع الزواج من مطلّقات الأدعياء، وهذا بنفسه إشارة إلى مسألة كلّية، وهي أنّ تعدّد زواج النّبي (ص) لم يكن أمراً عادياً بسيطاً، بل كان يرمي إلى أهداف كان لها أثرها في مصير دينه.

وجملة (كان أمر الله مفعولا) إشارة إلى وجوب الحزم في مثل هذه المسائل، وكلّ عمل ينبغي فعله يجب أن ينجز ويتحقّق، حيث لا معنى للإستسلام أمام الضجيج والصخب في المسائل التي تتعلّق بالأهداف العامّة والأساسية.

ويتّضح من التّفسير الواضح الذي أوردناه في بحث الآية أعلاه أنّ الإدّعاءات التي أراد الأعداء أو الجهلاء إسنادها لهذه الآية لا أساس لها مطلقاً، وسنعطي في بحث الملاحظات توضيحاً أكثر في هذا الباب إن شاء الله تعالى.

وتقول الآية الأخيرة في تكميل المباحث السابقة: (ما كان على النّبي من حرج فيما فرض الله) فحيث يأمره الله سبحانه لا تجوز المداهنة في مقابل أمره تعالى، ويجب تنفيذه بدون أيّ تردّد.

إنّ القادة الربانيين يجب أن لا يصغوا إلى كلام هذا وذاك لدى تنفيذ الأوامر الإلهيّة، أو يراعوا الأجواء السياسية والآداب والأعراف الخاطئة السائدة في المحيط، وربّما كان هذا الأمر قد صدر لتمزيق هذه الأعراف المغلوطة، ولتحطيم البدع القبيحة.

إنّ القادة الإلهيين يجب أن ينفّذوا أمر الله بدون خوف من الملامة والعتاب والضجّة والغوغاء، وأن كونوا مصداق (ولا يخافون لومة لائم).(3)

إنّنا إذا أردنا أن نجلس وننتظر رضا الجميع وسرورهم ثمّ ننفّذ أمر الله سبحانه، فلنعلم أنّ هذا الأمر لا يمكن تحقّقه، لأنّ بعض الفئات لا ترضى حتّى نستسلم لما تريد ونتّبع دينها وفكرها، كما يقول القرآن الكريم ذلك: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتّى تتّبع ملّتهم).(4)

وكذلك كان الأمر في مورد الآية التي نبحثها، لأنّ زواج النّبي (ص) من زينب كان يكتنفه في أفكار الناس العامّة إشكالان كما قلنا:

الأوّل: أنّ الزواج بمطلّقة المدّعى كان في نظر اُولئك كالزواج بزوجة الابن الحقيقي، وكانت هذه بدعة يجب أن تُلغى.

والآخر: أنّ زواج رجل مرموق له مكانته في المجتمع كالنّبي (ص) من مطلّقة غلام محرّر كان يعدّ عيباً وعاراً، لأنّه يجعل النّبي والعبد في مرتبة واحدة، وهذه الثقافة الخاطئة كان يجب أن تقلع وتجتّث من الجذور لتُزرع مكانها القيم الإنسانية، وكون الزوجين كفؤين لبعضهما إنّما يستقيم ويقاس على أساس الإسلام والإيمان والتقوى وحسب.

وأساساً فانّ مخالفة السنن والأعراف، وإقتلاع الآداب والعادات الخرافية وغير الإنسانية يقترن عادةً بالضجيج والغوغاء والصخب، وينبغي أن لا يهتمّ الأنبياء بهذا الضجيج والصخب مطلقاً، ولذلك تعقب الجملة التالية فتقول: (سنّة الله في الذين خلوا من قبل).

فلست الوحيد المبتلى بهذه المشكلة، بل إنّ الأنبياء جميعاً كانوا يعانون هذه المصاعب عند مخالفتهم سنن مجتمعاتهم، وعند سعيهم لإجتثاث اُصول الأعراف الفاسدة منها.

ولم تكن المشكلة الكبرى منحصرة في محاربة هاتين السنّتين الجاهليتين، بل إنّ هذا الزواج لمّا كان مرتبطاً بالنّبي (ص) فإنّه يمكن أن يعطي الأعداء حربة اُخرى ليعيبوا على النّبي (ص) فعله، ويطعنوا في دينه، وسيأتي تفصيل ذلك.

ويقول الله سبحانه في نهاية الآية تثبيتاً لاتّباع الحزم في مثل هذه المسائل الأساسية: (وكان أمر الله قدراً مقدوراً).

إنّ التعبير بـ (قدراً مقدوراً) قد يكون إشارة إلى كون الأمر الإلهي حتمياً، ويمكن أن يكون دالا على رعاية الحكمة والمصلحة فيه، إلاّ أنّ الأنسب في مورد الآية أن يراد منه كلا المعنيين، أي أنّ أمر الله تعالى يصدر على أساس الحساب الدقيق والمصلحة، وكذلك لابدّ من تنفيذه بدون إستفهام أو تلكّؤ.

والطريف أنّنا نقرأ في التواريخ أنّ النّبي (ص) قد أولم للناس وليمة عامّة لم يكن لها نظير فيما سبق إقترانه بزوجاته(5)، فكأنّه أراد بهذا العمل أن يبيّن للناس أنّه غير قلق ولا خائف من السنن الخرافية التي كانت سائدة في تلك البيئة، بل إنّه يفتخر بتنفيذ هذا الأمر الإلهي، إضافةً إلى أنّه كان يطمح إلى أن يصل صوت إلغاء هذه السنّة الجاهلية إلى آذان جميع من في جزيرة العرب عن هذا الطريق.

بحثان

1- أساطير كاذبة

مع أنّ القرآن الكريم كان غاية في الصراحة في قصّة زواج النّبي الأكرم (ص)من زينب، وفي تبيان هذه المسألة، والهدف من هذا الزواج، وأعلن أنّ الهدف هو محاربة سنّة جاهلية فيما يتعلّق بالزواج من مطلّقة الإبن المدّعى، إلاّ أنّها ظلّت مورد إستغلال جمع من أعداء الإسلام، فحاولوا إختلاق قصّة غرامية منها ليشوّهوا بها صورة النّبي المقدّسة، واتّخذوا من الأحاديث المشكوك فيها أو الموضوعة في هذا الباب آلة وحربة يلوّحون بها.

ومن جملة ذلك ما كتبوه من أنّ النّبي (ص) جاء إلى دار زيد ليسأل عن حاله، فما إن فتح الباب حتّى وقعت عينه على جمال زينب، فقال: "سبحان الله خالق النور! تبارك الله أحسن الخالقين" واتّخذوا هذه الجملة دليلا على تعلّق النّبي (ص)بزينب.

في حين أنّ هناك دلائل واضحة - بغضّ النظر عن مسألة العصمة والنبوّة - تكذّب هذه الأساطير:

الاُولى: أنّ زينب كانت بنت عمّة النّبي (ص)، وقد تربيّا وكبرا معاً في محيط عائلي تقريباً، والنّبي (ص) هو الذي خطبها بنفسه لزيد، وإذا كان لزينب ذلك الجمال الخارق، وعلى فرض أنّه استرعى إنتباهه، فلم يكن جمالها أمراً خافياً عليه، ولم يكن زواجه منها قبل هذه الحادثة أمراً عسيراً، بل إنّ زينب لم تبد أي رغبة في الإقتران بزيد، بل أعلنت مخالفتها صراحةً، وكانت ترجّح تماماً أن تكون زوجة للنبي (ص)، بحيث أنّها سرّت وفرحت عندما ذهب النّبي (ص) لخطبتها ظنّاً منها بأنّ النّبي (ص) يخطبها لنفسه، إلاّ أنّها رضخت لأمر الله ورسوله بعد نزول هذه الآية القرآنية وتزوّجت زيداً.

مع هذه المقدّمات هل يبقى مجال لهذا الوهم بأنّ النّبي (ص) لم يكن عالماً بحال زينب وجمالها؟ وأيّ مجال لهذا الظنّ الخاطيء بأن يكون راغباً في الزواج منها ولا يستطيع الإقدام عليه؟

والثّانية: أنّ زيداً عندما كان يراجع النّبي (ص) لطلاق زوجته زينب، كان النّبي ينصحه مراراً بصرف النظر عن هذا الأمر، وهذا بنفسه شاهد آخر على بطلان هذه الإدّعاءات والأساطير.

ومن جهة اُخرى فإنّ القرآن الكريم قد أوضح الهدف من هذا الزواج بصراحة لئلاّ يبقى مجال لأقاويل اُخرى.

ومن جهة رابعة قرأنا في الآيات المذكورة أعلاه أنّ الله تعالى يقول: قد كان في حادثة زواج النّبي بمطلّقة زيد أمر كان النّبي يخشى الناس فيه، في حين أنّ خشيته من الله أحقّ من الخشية من الناس.

إنّ مسألة خشية الله سبحانه توحي بأنّ هذا الزواج قد تمّ كتنفيذ لواجب شرعي، يجب عنده طرح كلّ الإعتبارات الشخصية جانباً من أجل الله تعالى ليتحقّق هدف مقدّس من أهداف الرسالة، حتّى وإن كان ثمن ذلك جراحات اللسان التي يلقيها جماعة المنافقين في اتّهاماتهم للنبي، وكان هذا هو الثمن الباهض الذي دفعه النّبي (ص) - ولا زال يدفعه إلى الآن - في مقابل طاعة أمر الله سبحانه، وإلغاء عرف خاطيء وسنّة مبتدعة.

إلاّ أنّ هناك لحظات حرجة في حياة القادة المخلصين تحتّم عليهم أن يضحّوا ويعرّضوا أنفسهم فيها لاتّهام أمثال هؤلاء الأفراد ليتحقّق هدفهم!

أجل... لو كان النّبي (ص) لم ير زينب من قبل مطلقاً، ولم يكن يعرفها، ولم يكن لدى زينب الرغبة في الإقتران به، ولم يكن زيد مستعدّاً لطلاقها - وبغضّ النظر عن مسألة النبوّة والعصمة - لكان هناك مجال لمثل هذه الأقاويل والتخرّصات، لكن بملاحظة إنتفاء كلّ هذه الظروف يتّضح كون هذه الأكاذيب مختلفة.

إضافةً إلى أنّ تاريخ النّبي (ص) لم يعكس أي دليل أو صورة تدلّ على وجود رغبة خاصّة لديه (ص) في الزواج من زينب، بل هي كسائر الزوجات، بل ربّما كانت أقل من بعض الزوجات من بعض الجهات، وهذا شاهد تأريخي آخر على نفي هذه الأساطير.

ونرى في نهاية المطاف ضرورة الإشارة إلى إحتمال أن يقول شخص: إنّ محاربة مثل هذه السنّة الخاطئة واجب، ولكن أيّة ضرورة تدعو إلى أن يقتحم النّبي (ص) هذا الميدان بنفسه؟ فقد كان بإمكانه أن يطرح هذه المسألة ويبيّنها كقانون، ويرغب الآخرين في الزواج من مطلّقة المتبنّي.

غير أنّ مخالفة سنّة جاهلية خاطئة - خاصّة وأنّها تتعلّق بالزواج من أفراد هم دون شأن المقابل ظاهراً - قد تكون غير مقبولة بالكلام والتقنين أحياناً، إذ يقول الناس: إذا كان هذا الأمر حسناً فلماذا لم يفعله هو؟ لِمَ لم يتزوّج بمطلّقة عبده المعتق وإبنه المتبنى؟

في مثل هذه الموارد ينهي الإقدام والإجراء العملي كلّ هذه الأسئلة والإشكالات، وعندها ستتكسّر وتتلاشى تلك السنّة الخاطئة.

إضافةً إلى أنّ هذا العمل كان بنفسه تضحية وإيثاراً.

2- روح الإسلام التسليم أمام الله

لا شكّ أنّ إستقلال الإنسان الفكري والروحي لا يسمح له أن يستسلم لأحد بدون قيد أو شرط، لأنّه إنسان مثله، ومن الممكن أن تكون له أخطاء وإشتباهات في المسائل.

أمّا إذا إنتهت المسألة إلى الله العالم والحكيم، والنّبي الذي يتحدّث عنه ويسير بأمره، فإنّ عدم التسليم المطلق دليل على الضلال والإنحراف، حيث لا يوجد أدنى إشتباه في أوامره سبحانه.

إضافةً إلى أنّ أمره حافظ لمنافع الإنسان نفسه، ولا يعود شيء على ذاته المقدّسة، فهل يوجد إنسان عاقل يسحق مصالحه برجله بعد تشخيص هذه الحقيقة؟

ومضافاً إلى ذلك فإنّنا منه تعالى، وكلّ ما لدينا منه، ولا يمكن أن يكون لنا أمر وقرار إلاّ التسليم لإرادته وأمره، ولذلك ترى بين دفّتي القرآن آيات كثيرة تشير إلى هذه المسألة:

فمرّة تقول آية: (إنّما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا واُولئك هم المفلحون).(6)

وتقول اُخرى: (فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلّموا تسليماً).(7)

ويقول القرآن في موضع آخر: (ومن أحسن ديناً ممّن أسلم وجهه لله وهو محسن).(8)

إنّ "الإسلام" أخذ من مادّة "التسليم"، وهو يشير إلى هذه الحقيقة، وبناءً على هذا فإنّ كلّ إنسان يتمتّع بروح الإسلام بمقدار تسليمه لله سبحانه.

ينقسم الناس عدّة أقسام من هذه الناحية: فقسم يسلّمون لأمر الله في الموارد التي تنفعهم فقط، وهؤلاء في الحقيقة مشركون إنتحلوا اسم الإسلام، وعملهم تجزئة لأحكام الله تعالى، فهم مصداق (نؤمن ببعض ونكفر ببعض) فإيمانهم في الحقيقة إيمان بمصالحهم لا بالله تعالى.

وآخرون جعلوا إرادتهم تبعاً لإرادة الله، وإذا تعارضت منافعهم الزائلة مع أمر الله سبحانه، فإنّهم يغضّون الطرف عنها ويسلّمون لأمر الله، وهؤلاء هم المؤمنون والمسلمون الحقيقيون.

والقسم الثالث أسمى من هؤلاء، فهم لا يريدون إلاّ ما أراد الله، وليس في قلوبهم إلاّ ما يشاؤه سبحانه، فقد بلغوا مرتبة من التسامي لا يحبّون معها إلاّ ما يحبّه الله، ولا يبغضون إلاّ ما أبغضه الله عزّوجلّ.

هؤلاء هم الخاصّة والمخلصون والمقرّبون لديه، فقد صبغ التوحيد كلّ وجودهم، وغرقوا في حبّه، وفنوا في جماله(9).


1- إقتباس من تفسير مجمع البيان، والقرطبي، والميزان، والفخر الرازي، وفي ظلال القرآن، وتفاسير اُخرى في ذيل الآيات مورد البحث، وكذلك سيرة ابن هشام، المجلّد الأوّل، صفحة 264، والكامل لابن الأثير، المجلّد الثّاني، صفحة 177.

2- الكامل لابن الأثير، المجلّد 2، ص177. وممّا يستحقّ الإلتفات أنّ زواج النّبي (صلى الله عليه وآله) من زينب قد تمّ في السنة الخامسة للهجرة. المصدر السابق.

3- المائدة، 54.

4- البقرة، 120.

5- يروي المفسّر الكبير المرحوم الطبرسي في مجمع البيان: فتزوّجها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ... وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها، ذبح شاة، وأطعم الناس الخبز واللحم حتّى امتدّ النهار. مجمع البيان، ج8، ص361.

6- النور، 51.

7- النساء، 65.

8- النساء، 125.

9- لقد أوردنا بحثاً آخر في هذا الباب في ذيل الآية (65) من سورة النساء.