الآيات 28 - 31

﴿يَـأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاَِّزْوَجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلا (28) وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الاْخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَـتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يَـنِسَاءَ النَّبِىِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَـحِشَة مُّبَيِّنَة يُضَـعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (30) وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَـلِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً (31)﴾

سبب النّزول

ذكر المفسّرون أسباب نزول عديدة للآيات أعلاه، وهي لا تختلف عن بعضها كثيراً من جهة النتيجة.

ويستفاد من أسباب النّزول هذه أنّ نساء النّبي قد طلبن منه طلبات مختلفة فيما يتعلّق بزيادة النفقة، أو لوازم الحياة المختلفة، بعد بعض الغزوات التي وفّرت للمسلمين غنائم كثيرة.

وطبقاً لنقل بعض التفاسير فإنّ "اُمّ سلمة" طلبت من النّبي (ص) خادماً لها، وطلبت "ميمونة" حلّة، وأرادت "زينب بنت جحش" قماشاً يمنياً خاصّاً، و "حفصة" لباساً مصرياً، و "جويرية" لباساً خاصّاً، و "سودة" بساطاً خيبرياً! والنتيجة أنّ كلا منهنّ طلبت شيئاً.

فامتنع النّبي (ص) عن تلبية طلباتهنّ، وهو يعلم أنّ الإستسلام أمام هذه الطلبات التي لا تنتهي سيحمل معه عواقب وخيمة، وإعتزلهنّ شهراً، فنزلت الآيات أعلاه وخاطبتهنّ بنبرة التهديد والحزم الممتزج بالرأفة والرحمة، بأنكنّ إن كنتنّ تردن حياة مملوءة بزخارف الدنيا وزبارجها فبإمكانكن الإنفصال عن النّبي (ص) والذهاب إلى حيث تردن، وإن فضّلتنّ علاقتكنّ بالله ورسوله واليوم الآخر، وإقتنعتنّ بحياة النّبي (ص) البسيطة والباعثة على الفخر، فابقين معه، وتنعمنّ بمواهب الله العظيمة.

بهذا الجواب القاطع أجابت الآيات نساء النّبي اللائي كن يتوقعنّ رفاهية العيش، وخيّرتهنّ بين "البقاء" مع النّبي (ص) و "مفارقته".

التّفسير

أمّا السعادة الخالدة أو زخارف الدنيا!

لم يعزب عن أذهانكم أنّ الآيات الاُولى من هذه السورة قد توّجت نساء النّبي بتاج الفخر حيث سمّتهنّ بـ (اُمّهات المؤمنين) ومن البديهي أنّ المناصب والمقامات الحسّاسة التي تبعث على الفخر تصاحبها مسؤوليات ثقيلة، فكيف يمكن أن تكون نساء النّبي اُمّهات المؤمنين وقلوبهنّ وأفكارهنّ مشغولة بحبّ الدنيا ومغرياتها؟

وهكذا ظَنَنَّ، فإنّ الغنائم إذا سقطت في أيدي المسلمين فلا شكّ أنّ نصيبهنّ سيكون أفخرها وأثمنها كبقيّة نساء الملوك والسلاطين، ويعطى لهنّ ما ناله المسلمون بتضحيات الفدائيين الثائرين ودماء الشهداء الطاهرة، في الوقت الذي يعيش هنا وهناك اُناس في غاية العسرة والشظف.

وبغضّ النظر عن ذلك، فإنّ النّبي (ص) يجب أن لا يكون لوحده اُسوةً للناس بحكم الآيات السابقة، بل يجب أن تكون عائلته اُسوة لباقي العوائل أيضاً، ونساؤه قدوة للنساء المؤمنات حتّى تقوم القيامة، فليس النّبي (ص) ملكاً وإمبراطوراً ليكون له جناح خاصّ للنساء، ويُغرق نساءه بالحليّ والمجوهرات الثمينة النفيسة.

وربّما كان هناك جماعة من المسلمين المهاجرين الذين وردوا المدينة لا يزالون يقضون ليلهم على الصُفّة (وهي مكان خاصّ كان إلى جنب مسجد النّبي) حتّى الصباح، ولم يكن لهم في تلك المدينة أهل ولا دار، وفي مثل هذه الأحوال لا يمكن أن يسمح النّبي (ص) لأزواجه أن يتوقّعن كلّ تلك الرفاهية والتوقّعات الاُخرى.

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ بعض أزواجه قد كلّمنه بكلام خشن جاف، حتّى أنّهنّ قلن: لعلّك تظنّ إن طلّقتنا لا نجد زوجاً من قومنا غيرك(1).

هنا اُمر النّبي(ص) أن يواجه هذه المسألة بحزم تامّ، ويوضّح لهنّ حاله الدائمي، فخاطبت الآية الاُولى من الآيات أعلاه النّبي (ص) وقالت: (ياأيّها النّبي قل لأزواجك إن كنتنّ تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين اُمتّعكن واُسرحكنّ سراحاً جميلا).

"اُمتّعكنّ" من مادّة متعة، وكما قلنا في الآية (236) من سورة البقرة، فإنّها تعني الهدية التي تلائم أحوال المرأة.

والمراد هنا المقدار المناسب الذي يضاف على المهر، وإن لم يكن المهر معيّناً فإنّه يعطيها هدية لائقة بحالها بحيث ترضيها وتسرّها، ويتمّ طلاقها وفراقها في جوّ هاديء مفعم بالحبّ.

"السراح" في الأصل من مادّة (سرح) أي الشجرة التي لها ورق وثمر، و "سرّحت الإبل"، أي: أطلقتها لتأكل من الأعشاب وأوراق الشجر، ثمّ أطلقت بمعنى أوسع على كلّ نوع من السراح ولكلّ شيء وشخص، وتأتي أحياناً كناية عن الطلاق، ويطلق (تسريح الشعر) على تمشيط الشعر وترجيله، وفيه معنى الإطلاق أيضاً.

وعلى كلّ حال فإنّ المراد من "السراح الجميل" في الآية طلاق النساء وفراقهنّ فراقاً مقترناً بالإحسان، وليس فيه جبر وقهر.

وللمفسّرين وفقهاء المسلمين هنا بحث مفصّل في أنّه هل المراد من هذا الكلام أنّ النّبي (ص) قد خيّر نساءه بين البقاء والفراق، وإذا ما انتخبن الفراق فإنّه يعتبر طلاقاً بحدّ ذاته فلا يحتاج إلى إجراء صيغة الطلاق؟ أم أنّ المراد هو أنّهنّ يخترن أحد السبيلين، فإن أردن الفراق أجرى النّبي (ص) صيغة الطلاق، وإلاّ يبقين على حالهنّ؟

ولا شكّ أنّ الآية لا تدلّ على أيّ من هذين الأمرين، وما تصوّره البعض من أنّ الآية شاهد على تخيير نساء النّبي، وعدّوا هذا الحكم من مختصّات النّبي (ص)، لأنّه لا يجري في سائر الناس، لا يبدو صحيحاً، بل إنّ الجمع بين الآية أعلاه وآيات الطلاق يوجب أن يكون المراد الفراق عن طريق الطلاق.

وهذه المسألة مورد نقاش بين فقهاء الشيعة والسنّة، إلاّ أنّ القول الثّاني - أي الفراق عن طريق الطلاق - يبدو أقرب لظواهر الآيات، إضافةً إلى أنّ لتعبير (اُسرحكنّ) ظهوراً في أنّ النّبي (ص) كان يقدّم على تسريحهنّ، خاصّة وأنّ مادّة "التسريح" قد استعملت بمعنى الطلاق في موضع آخر من القرآن الكريم (سورة البقرة ( الآية 229)(2).

وتضيف الآية التالية: (وإن كنتنّ تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإنّ الله أعدّ للمحسنات منكنّ أجراً عظيماً).

لقد جمعت هذه الآية كلّ اُسس الإيمان وسلوكيات المؤمن، فمن جهة عنصر الإيمان والإعتقاد بالله والرّسول واليوم الآخر، ومن جهة اُخرى البرنامج العملي وكون الإنسان في صفّ المحسنين والمحسنات، وبناءً على هذا فإنّ إظهار عشق الله وحبّه، والتعلّق بالنّبي واليوم الآخر لا يكفي لوحده، بل يجب أن تنسجم البرامج العملية مع هذا الحبّ والعشق.

وبهذا فقد بيّن الله سبحانه تكليف نساء النّبي وواجبهنّ في أن يكنّ قدوة واُسوة للمؤمنات على الدوام، فإن هنّ تحلين بالزهد وعدم الإهتمام بزخارف الدنيا وزينتها، وإهتممن بالإيمان والعمل الصالح وتسامي الروح، فإنّهن يبقين أزواجاً للنبي ويستحقّنّ هذا الفخر، وإلاّ فعليهنّ مفارقته والبون منه.

ومع أنّ المخاطب في هذه الآية هو نساء النّبي إلاّ أنّ محتوى الآيات ونتيجتها تشمل الجميع، وخاصّة من كان في مقام قيادة الناس وإمامتهم واُسوة لهم، فإنّ هؤلاء على مفترق الطرق دائماً، فإمّا أن يستغلّوا المنصب الظاهري للوصول إلى الحياة المادية المرفّهة، أو البقاء على حرمانهم لنوال رضى الله سبحانه وهداية خلقه.

ثمّ تتناول الآية التالية بيان موقع نساء النّبي أمام الأعمال الصالحة والطالحة، وكذلك مقامهنّ الممتاز، ومسؤولياتهنّ الضخمة بعبارات واضحة، فتقول: (يانساء النّبي من يأت منكنّ بفاحشة مبيّنة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيراً).

فأنتنّ تعشن في بيت الوحي ومركز النبوّة، وعلمكنّ بالمسائل الإسلامية أكثر من عامّة الناس لإرتباطكنّ المستمر بالنّبي (ص) ولقائه، إضافةً إلى أنّ الآخرين ينظرون إليكنّ ويتّخذون أعمالكنّ نموذجاً وقدوة لهم.

بناءً على هذا فإنّ ذنبكنّ أعظم عند الله، لأنّ الثواب والعقاب يقوم على أساس المعرفة، ومعيار العلم، وكذلك مدى تأثير ذلك العمل في البيئة، فإنّ لكُنَّ حظّاً أعظم من العلم، ولكُنّ موقع حسّاس له تأثيره في المجتمع.

ويضاف إلى ذلك أنّ مخالفتكنّ تؤذي النّبي (ص) من جهة، ومن جهة اُخرى توجّه ضربة إلى كيانه ومركزه، ويعتبر هذا بحدّ ذاته ذنباً آخر، ويستوجب عذاباً آخر.

والمراد من "الفاحشة المبيّنة" الذنوب العلنية، ونعلم أنّ المفاسد التي تنجم عن الذنوب التي يقترفها اُناس مرموقون تكون أكثر حينما تكون علنية.

ولنا بحث في مورد "الضعف" و "المضاعف" سيأتي في البحوث.

أمّا قوله عزّوجلّ: (وكان ذلك على الله يسيراً) فهو إشارة إلى أن لا تظنّن أنّ عذابكنّ وعقابكنّ عسير على الله تعالى، وأنّ علاقتكنّ بالنّبي (ص) ستكون مانعة منه، كما هو المتعارف بين الناس حيث يغضّون النظر عن ذنوب الأصدقاء والأقرباء، أو يعيرونها أهميّة قليلة... كلاّ، فإنّ هذا الحكم سيجري في حقّكنّ بكلّ صرامة.

أمّا في الطرف المقابل، فتقول الآية: (ومن يقنت منكنّ لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرّتين واعتدنا لها رزقاً كريماً).

"يقنت" من القنوت، وهو يعني الطاعة المقرونة بالخضوع والأدب(3)، والقرآن يريد بهذا التعبير أن يأمرهنّ بأن يطعن الله ورسوله، ويراعين الأدب مع ذلك تماماً.

ونواجه هنا هذه المسألة مرّة اُخرى، وهي أنّ مجرّد ادّعاء الإيمان والطاعة لا يكفي لوحده، بل يجب أن تُلمس آثاره بمقتضى (وتعمل صالحاً).

"الرزق الكريم" له معنى واسع يتضمّن كلّ المواهب المادية والمعنوية، وتفسيره بالجنّة باعتبارها مجمعاً لكلّ هذه المواهب.

بحث

لماذا يضاعف ثواب وعقاب المرموقين؟

قلنا: إنّ هذه الآيات وإن كانت تتحدّث عن نساء النّبي بأنّهنّ إن أطعن الله فلهنّ أجر مضاعف، وإن ارتكبن ذنباً مبيّناً فلهنّ عذاب الضعف بما إكتسبن، إلاّ أنّ الملاك والمعيار الأصلي لما كان إمتلاك المقام والمكانة المرموقة، والشخصية الإجتماعية البارزة، فإنّ هذا الحكم صادق في حقّ الأفراد الآخرين الذين لهم مكانة ومركز إجتماعي مهمّ.

إنّ مثل هؤلاء الأفراد لا يرتبط سلوكهم وتصرفاتهم بهم خاصّة، بل إنّ لوجودهم بعدين: بعد يتعلّق بهم، وبعد يرتبط بالمجتمع، ويمكن أن يكون نمط حياتهم سبباً لهداية جماعة من الناس، أو ضلال اُخرى.

بناءً على هذا فإنّ لأعمالهم أثرين: أحدهما فردي، والآخر إجتماعي، ولكلّ منهما ثواب وعقاب بهذا اللحاظ، ولذلك نقرأ في حديث عن الإمام الصادق (ع)أنّه قال: "يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد"(4)!

ومضافاً إلى ذلك، فإنّ العلاقة وثيقة بين مستوى العلمية ومقدار الثواب والعقاب، كما ورد ذلك في بعض الأحاديث الشريفة، حيث نقرأ: "إنّ الثواب على قدر العقل"(5).

وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقر (ع): "إنّما يداقّ الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا"(6).

بل ورد في رواية عن الإمام الصادق (ع): إذا بلغت النفس ههنا - وأشار بيده إلى حلقه - لم يكن للعالم توبة، ثمّ قرأ: (إنّما التوبة للذين يعملون السوء بجهالة)(7).

ومن هنا يتّضح أنّه ربّما كان معنى المضاعف والمرتين هنا هو الزيادة، فقد تكون ضعفين حيناً، وتكون أضعافاً مضاعفة حيناً آخر، تماماً كما في الأعداد التي لها صفة التكثير، خاصّة وأنّ الراغب يقول في مفرداته في معنى الضعف: ضاعفته: ضممت إليه مثله فصاعداً - تأمّلوا بدقّة - والرواية التي ذكرناها قبل قليل حول التفاوت بين ذنب العالم والجاهل إلى سبعين ضعفاً شاهد آخر على هذا الإدّعاء.

إنّ تعدّد مراتب الأشخاص وإختلاف تأثيرهم في المجتمع نتيجة إختلاف مكاناتهم الإجتماعية، وكونهم اُسوة يوجب أن يكون الثواب والعقاب الإلهي بتلك النسبة.

وننهي هذا البحث بحديث عن الإمام السجّاد عليّ بن الحسين (ع)، وذلك أنّ رجلا قال له: إنّكم أهل بيت مغفور لكم، فغضب الإمام وقال: "نحن أحرى أن يجري فينا ما أجرى الله في أزواج النّبي (ص) من أن نكون كما تقول، إنّا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر، ولمسيئنا ضعفين من العذاب، ثمّ قرأ الآيتين"(8).


1- كنز العرفان، المجلّد 2، ص238.

2- طالع التوضيح الأكثر في هذا الباب في الكتب الفقهية، وخاصة كتاب الجواهر، المجلّد 29، صفحة 122 وما بعدها.

3- المفردات للراغب، مادّة قنوت.

4- اُصول الكافي، المجلّد الأوّل، ص37 باب لزوم الحجّة على العالم.

5- اُصول الكافي، الجزء الأوّل، صفحة 9 كتاب العقل والجهل.

6- المصدر السابق.

7- اُصول الكافي، المجلّد الأوّل، صفحة 38 باب لزوم الحجّة على العالم، والآية (17) من سورة النساء.

8- مجمع البيان، المجلّد 8، صفحة 354 ذيل الآية مورد البحث.