الآيات 21 - 25
﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الاْخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَءَا الْمُؤْمِنُونَ الاَْحْزَابَ قَالُوا هَـذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَـناً وَتَسْلِيماً (22) مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَـهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا (23) لِّيَجْزِىَ اللهُ الصَّـدِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَـفِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (24) وَرَدَّ اللهُ الَّذِين كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيّاً عَزِيزاً (25)﴾
التّفسير
دور المؤمنين المخلصين في معركة الأحزاب:
يستمرّ الكلام إلى الآن عن الفئات المختلفة ومخطّطاتهم وأدوارهم في غزوة الأحزاب، وقد تقدّم الكلام عن ضعفاء الإيمان والمنافقين ورؤوس الكفر والنفاق والمعوّقين عن الجهاد.
ويتحدّث القرآن المجيد في نهاية المطاف عن المؤمنين الحقيقيين، ومعنوياتهم العالية ورجولتهم وثباتهم وسائر خصائصهم في الجهاد الكبير.
ويبدأ مقدّمة هذا البحث بالحديث عن النّبي الأكرم (ص)، حيث كان إمامهم وقدوتهم، فيقول: (لقد كان لكم في رسول الله اُسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً).
فإنّ النّبي (ص) خير نموذج لكم، لا في هذا المجال وحسب، بل وفي كلّ مجالات الحياة، فإنّ كلاًّ من معنوياته العالية، وصبره وإستقامته وصموده، وذكائه ودرايته، وإخلاصه وتوجّهه إلى الله، وتسلّطه وسيطرته على الحوادث، وعدم خضوعه وركوعه أمام الصعاب والمشاكل، نموذج يحتذي به كلّ المسلمين.
إنّ هذا القائد العظيم لا يدع للضعف والعجلة إلى نفسه سبيلا عندما تحيط بسفينته أشدّ العواصف، وتعصف بها الأمواج المتلاطمة، فهو ربّان السفينة، ومرساها المطمئن الثابت، وهو مصباح الهداية، ومبعث الراحة والهدوء والإطمئنان الروحي لركابها.
إنّه يأخذ المعول بيده ليحفر الخندق مع بقيّة المؤمنين، فيجمع ترابه بمسحاة ويخرجه بوعاء معه، ويمزح مع أصحابه لحفظ معنوياتهم والتخفيف عنهم، ويرغّبهم في إنشاد الشعر الحماسي لإلهاب مشاعرهم وتقوية قلوبهم، ويدفعهم دائماً نحو ذكر الله تعالى ويبشّرهم بالمستقبل الزاهر والفتوحات العظيمة.
يحذّرهم من مؤامرات المنافقين، ويمنحهم الوعي والإستعداد اللازم.
ولا يغفل لحظة عن التجهيز والتسلّح الحربي الصحيح، وإنتخاب أفضل الأساليب العسكرية، ولا يتوانى في الوقت نفسه عن إكتشاف الطرق المختلفة التي تؤدّي إلى بثّ التفرقة وإيجاد التصدّع في صفوف الأعداء.
نعم... إنّه أسمى مقتدى، وأحسن اُسوة للمؤمنين في هذا الميدان، وفي كلّ الميادين.
"الاُسوة" تعني في الأصل الحالة التي يتلبّسها الإنسان لدى اتّباعه لآخر، وبتعبير آخر: هي التأسّي والإقتداء، وبناءً على هذا فإنّ لها معنى المصدر لا الصفة، ومعنى جملة: (لقد كان لكم في رسول الله اُسوة حسنة) هو أنّ لكم في النّبي (ص)تأسّياً وإقتداءً جيّداً، فإنّكم تستطيعون بالإقتداء به واتباعه أن تصلحوا اُموركم وتسيروا على الصراط المستقيم.
والطريف أنّ القرآن الكريم يعتبر هذه الاُسوة الحسنة في الآية أعلاه مختّصة بمن لهم ثلاث خصائص: الثقة بالله، والإيمان بالمعاد، وأنّهم يذكرون الله كثيراً.
إنّ الإيمان بالمبدأ والمعاد هو سبب وباعث هذه الحركة في الحقيقة، وذكر الله يعمل على إستمراره، إذ لا شكّ أنّ من لم يمتليء قلبه بهكذا إيمان لا يقدر أن يضع قدمه موضع قدم النّبي، وإذا لم يُدم ذكر الله ويعمّر قلبه به أثناء إستمراره في هذا الطريق، ويبعد الشياطين عنه، فسوف لا يكون قادراً على إدامة التأسّي والإقتداء.
وتجدر الإشارة إلى أنّ علياً (ع) مع شهامته وشجاعته في كلّ ميادين الحرب، والتي تمثّل معركة الأحزاب نموذجاً منها، وسيشار إليها فيما بعد، يقول في نهج البلاغة فيما روي عنه: "كنّا إذا احمرّ البأس اتّقينا برسول الله (ص) فلم يكن أحد منّا أقرب إلى العدوّ منه"(1).
بعد ذكر هذه المقدّمة تطرّقت الآية التالية إلى بيان حال المؤمنين الحقيقيين، فقالت: (ولمّا رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلاّ إيماناً وتسليماً).
ولكن ما هذا الوعد الذي كان الله ورسوله قد وعدهم به؟
قال البعض: إنّه إشارة إلى الكلام الذي كان رسول الله قد تكلّم به من قبل بأنّ قبائل العرب ومختلف أعدائكم سيتّحدون ضدّكم قريباً ويأتون إليكم، لكن اعلموا أنّ النصر سيكون حليفكم في النهاية، فلمّا رأى المؤمنون هجوم الأحزاب أيقنوا أنّ هذا ما وعدهم به رسول الله (ص) وقالوا: ما دام الجزء الأوّل من الوعد قد تحقّق، فمن المسلّم أنّ جزأه الثّاني - أي النصر - سيتحقّق بعده، ولذلك زاد إيمانهم وتسليمهم.
وقال البعض الآخر: إنّ هذا الوعد هو ما ذكره الله سبحانه في الآية (214) من سورة البقرة حيث قال: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضرّاء وزلزلوا حتّى يقول الرّسول والذين آمنوا معه متى نصر الله).
أي إنّهم قيل لهم من قبل: إنّكم ستخضعون لإمتحان عسير، فلمّا رأوا الأحزاب تيقّنوا صدق إخبار الله ورسوله، وزاد إيمانهم وتسليمهم.
ومن الطبيعي أنّ هذين التّفسيرين لا يتنافيان، خاصّة بملاحظة أنّ أحد الوعدين كان في الأساس وعد الله، والآخر وعد الرّسول (ص)، وقد جاءا معاً في الآية مورد البحث، ويبدو أنّ الجمع بينهما مناسب تماماً.
وتشير الآية التالية إلى فئة خاصّة من المؤمنين، وهم الذين كانوا أكثر تأسّياً بالنّبي (ص) من الجميع، وثبتوا على عهدهم الذي عاهدوا الله به، وهو التضحية في سبيل دينه حتّى النفس الأخير، وإلى آخر قطرة دم، فتقول: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر) من دون أن يتزلزل أو ينحرف ويبدّل العهد ويغيّر الميثاق الذي قطعه على نفسه (وما بدّلوا تبديلا).
إنّهم لم ينحرفوا قيد أنملة عن خطّهم، ولم يألوا جهداً في سبيل الله، ولم يتزلزلوا لحظة، بعكس المنافقين أو ضعاف الإيمان الذين بعثرتهم عاصفة الحوادث هنا وهناك وأفرزت الشدائد في أدمغتهم الخاوية أفكاراً جوفاء خبيثة... إنّ المؤمنين وقفوا كالجبل الأشمّ وأثبتوا أنّ العهد الذي عاهدوا به لا يقبل النقض أو التراجع عنه.
إنّ لفظة (نحب) على زنة (عهد) تعني العهد والنذر والميثاق، ووردت أحياناً بمعنى الموت، أو الخطر، أو سرعة السير، أو البكاء بصوت مرتفع(2).
وهناك إختلاف بين المفسّرين في المعنيّ بهذه الآية.
يروي العالم المعروف (الحاكم أبو القاسم الحسكاني) - وهو من علماء السنّة - بسند عن علي (ع) أنّه قال: "فينا نزلت (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) فأنا - والله - المنتظر وما بدّلت تبديلا، ومنّا رجال قد إستشهدوا من قبل كحمزة سيّد الشهداء"(3).
وقال آخرون: إنّ جملة (من قضى نحبه) إشارة إلى شهداء بدر واُحد، وجملة: (ومنهم من ينتظر) إشارة إلى المسلمين الصادقين الآخرين الذين كانوا بإنتظار إحدى الحسنيين: النصر، أو الشهادة.
وروي عن "أنس بن مالك" أيضاً: أنّ عمّه "أنس بن النضر" لم يكن حاضراً في غزوة بدر، فلمّا علم فيما بعد، وكانت الحرب قد وضعت أوزارها، أسف لعدم إشتراكه في الجهاد، فعاهد الله على أن يشارك في الجهاد إن وقعت معركة اُخرى ويثبت فيها وإن زهقت روحه، ولذلك فقد شارك في معركة اُحد، وحينما فرّ جماعة لم يفرّ معهم، وقاوم وصمد حتّى جرح ثمّ استشهد(4).
وروي عن "ابن عبّاس" أنّه قال: إنّ جملة: (منهم من قضى نحبه) إشارة إلى حمزة بن عبدالمطّلب وباقي شهداء اُحد، وأنس بن النضر وأصحابه(5).
ولا منافاة بين هذه التفاسير مطلقاً، لأنّ للآية مفهوماً واسعاً يشمل كلّ شهداء الإسلام الذين إستشهدوا قبل معركة الأحزاب، وكلّ من كان منتظراً للنصر أو الشهادة، وكان على رأسهم رجال كحمزة سيّد الشهداء وعلي (ع)، ولذلك ورد في تفسير الصافي: أنّ أصحاب الحسين بكربلاء كانوا كلّ من أراد الخروج للقتال ودّع الحسين (ع) وقال: السلام عليك يابن رسول الله، فيجيبه: وعليك السلام ونحن خلفك، ويقرأ: (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر)(6).
ويستفاد من كتب المقاتل أنّ الإمام الحسين (ع) تلا هذه الآية عند أجساد شهداء آخرين كمسلم بن عوسجة، وحين بلغه خبر شهادة "عبدالله بن يقطر"(7).
ومن هنا يتّضح أنّ للآية مفهوماً واسعاً يشمل كلّ المؤمنين المخلصين الصادقين في كلّ عصر وزمان، سواء من إرتدى منهم ثوب الشهادة في سبيل الله، أم من ثبت على عهده مع ربّه ولم يتزعزع، وكان مستعدّاً للجهاد والشهادة.
وتبيّن الآية التالية النتيجة النهائية لأعمال المؤمنين والمنافقين في جملة قصيرة، فتقول: (ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذّب المنافقين إن شاء) فلا يبقى صدق وإخلاص ووفاء المؤمنين بدون ثواب، ولا ضعف وإعاقات المنافقين بدون عقاب.
ومع ذلك، ولكي لا يغلق طريق العودة والإنابة بوجه هؤلاء المنافقين العنودين، فإنّ الله سبحانه قد فتح أبواب التوبة أمامهم بجملة: (أو يتوب عليهم) - إذا تابوا - ووصف نفسه بالغفور والرحيم (إنّ الله كان غفوراً رحيماً) ليحيي فيهم الحركة نحو الإيمان والصدق والإخلاص والوفاء بالتزاماتهم أمام الله والعمل بمقتضاها.
ولمّا كانت هذه الجملة قد ذكرت كنتيجة لأعمال المنافقين القبيحة، فإنّ بعض كبار المفسّرين رأى على أساسها بأنّ الذنب الكبير في القلوب التي لها قابلية الهداية ربّما كان دفعاً للحركة المضادّة والرجوع إلى الحقّ والحقيقة، وقد يكون الشرّ مفتاحاً للخير والرشاد(8).
وتطرح الآية الأخيرة من هذه الآيات - والتي تتحدّث عن غزوة الأحزاب وتنهي هذا البحث - خلاصة واضحة لهذه الواقعة في عبارة مختصرة، فتقول في الجملة الاُولى: (وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً).
"الغيظ" يعني (الغضب) ويأتي أحياناً بمعنى (الغمّ)، وهنا جاء مزيجاً من المعنيين، فإنّ جيوش الأحزاب قد بذلت قصارى جهدها للإنتصار على جيش الإسلام، لكنّها خابت، ورجع جنود الكفر إلى أوطانهم يعلوهم الغمّ والغضب.
والمراد من "الخير" هنا الإنتصار في الحرب، ولم يكن إنتصار جيش الكفر خيراً أبداً، بل إنّه شرّ، ولمّا كان القرآن يتحدّث من وجهة نظرهم الفكرية عبّر عنه بالخير، وهو إشارة إلى أنّهم لم ينالوا أيّ نصر في هذا المجال.
وقال البعض: إنّ المراد من "الخير" هنا (المال) لأنّ هذه الكلمة اُطلقت في مواضع اُخرى بهذا المعنى، ومن جملتها ما في آية الوصية (180) من سورة البقرة: (إن ترك خيراً الوصيّة للوالدين).
ومع أنّ أحد الأهداف الأصليّة لمعسكر الكفر كان الحصول على غنائم المدينة والإغارة على هذه الأرض، وهذا الباعث كان أهمّ البواعث في عصر الجاهلية، لكنّنا لا نمتلك الدليل على حصر معنى (الخير) هنا بالمال، بل يشمل كلّ الإنتصارات التي كانوا يطمحون إليها، وكان المال أحدها لكنّهم حرموا من الجميع.
وتضيف في الجملة التالية: (وكفى الله المؤمنين القتال) فقد هيّأ عوامل بحيث إنتهت الحرب من دون حاجة إلى إلتحام واسع بين الجيشين، ومن دون أن يتحمّل المؤمنون خسائر فادحة، لأنّ العواصف الهوجاء القارصة قد مزّقت أوضاع المشركين من جهة، ومن جهة اُخرى فإنّ الله تعالى قد ألقى الرعب والخوف في قلوبهم من جنود الله التي لا ترى، ومن جهة ثالثة فإنّ الضربة التي أنزلها علي بن أبي طالب (ع) بأعظم بطل من أبطالهم، وهو "عمرو بن عبد ودّ"، قد تسبّبت في تبدّد أحلامهم وآمالهم، ودفعتهم إلى أن يلملموا أمتعتهم ويتركوا محاصرة المدينة ويرجعوا إلى قبائلهم تقدمهم الخيبة والخسران.
وتقول الآية في آخر جملة: (وكان الله قويّاً عزيزاً) فمن الممكن أن يوجد اُناس أقوياء، لكنّهم ليسوا بأعزّاء لا يُقهرون، بل هناك من يقهرهم ومن هو أقوى منهم، إلاّ أنّ القوي العزيز الوحيد في العالم هو الله عزّوجلّ الذي لا حدّ لقدرته وقوّته ولا إنتهاء، فهو الذي أنزل على المؤمنين النصر في مثل هذا الموقف العسير والخطير جدّاً بحيث لم يحتاجوا حتّى إلى النزال وتقديم التضحيات!
بحوث
1- ملاحظات هامّة في معركة الأحزاب
أ - إنّ معركة الأحزاب - وكما هو معلوم من اسمها - كانت حرباً اتّحدت فيها كلّ القبائل والفئات المختلفة التي تعادي الإسلام، للقضاء على الإسلام اليافع.
لقد كانت "حرب الأحزاب" آخر سعي للكفر، وآخر سهم في كنانته، وآخر إستعراض لقوى الشرك، ولهذا قال النّبي (ص): "برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه"(9)عندما تقابل أعظم أبطال العدوّ، وهو عمرو بن عبد ودّ، وبطل الإسلام الأوحد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، لأنّ إنتصار أحدهما على الآخر كان يعني إنتصار الكفر على الإيمان، أو الإيمان على الكفر، وبتعبير آخر: كان عملا مصيرياً يحدّد مستقبل الإسلام والشرك، ولذلك فإنّ المشركين لم تقم لهم قائمة بعد إنهزامهم في هذه المواجهة العظيمة، وكانت المبادرة وزمامها بيد المسلمين بعدها دائماً.
لقد أفل نجم الأعداء، وإنهدمت قواعد قوّتهم، ولذلك نقرأ في حديث أنّ النّبي (ص) قال بعد نهاية غزوة الأحزاب: "الآن تغزوهم ولا يغزوننا"(10).
ب - ذكر بعض المؤرخّين أنّ عدد أفراد جيوش الكفر كان أكثر من عشرة آلاف محارب، ويقول "المقريزي" في "الإمتاع": إنّ قريشاً أتت لوحدها بأربعة آلاف رجل، وألف وثلاثمائة فرس، وألف وخمسمائة من الإبل، ونزلت عند حافّة الخندق، وجاءت قبيلة بني سليم بسبعمائة رجل والتقوا بهم في مرّ الظهران، وجاء "بنو فزارة" بألف، وكلّ من "بني أشجع" و "بني مرّة" بأربعمائة، والقبائل الاُخرى أرسلت عدداً من الرجال، فتجاوز مجموع كلّ من حضر عشرة آلاف رجل.
في حين أنّ عدد المسلمين لم يكن يتجاوز الثلاثة آلاف رجل، وكانوا قد جعلوا مخيّمهم الأصلي أسفل جبل سلع، وكانت نقطة مرتفعة جنب المدينة مشرفة على الخندق، وكانوا يستطيعون عن طريق رماتهم السيطرة على حركة المرور من الخندق.
على كلّ حال، فإنّ جيش الكفّار قد حاصر المسلمين من جميع الجهات، وطالت هذه المحاصرة عشرين يوماً، وقيل خمسة وعشرين يوماً، وعلى بعض الرّوايات شهراً(11).
ومع أنّ العدوّ كان متفوقاً على المسلمين من جهات مختلفة، إلاّ أنّه خاب في النهاية كما قلنا، ورجع إلى دياره خالي الوفاض.
ج - إنّ مسألة حفر الخندق قد تمّت - كما نعلم - بمشورة "سلمان الفارسي"، وكانت هذه المسألة اُسلوباً دفاعياً معتاداً في بلاد فارس آنذاك، ولم يكن معروفاً في جزيرة العرب إلى ذلك اليوم، وكان يعتبر ظاهرة جديدة، وكانت لإقامته في أطراف المدينة أهميّة عظيمة، سواء من الناحية العسكرية، أم من جهة إضعاف معنويات العدوّ ورفع معنويات المسلمين.
ولا توجد لدينا معلومات دقيقة عن صفات الخندق ودقائقه، فقد ذكر المؤرخّون أنّه كان من العرض بحيث لا يستطيع فرسان العدو عبوره بالقفز، ومن المحتّم أنّ عمقه أيضاً كان بالقدر الذي إذا سقط فيه أحد لم يكن يستطيع أن يخرج من الطرف المقابل بسهولة.
إضافةً إلى أنّ سيطرة رماة المسلمين على منطقة الخندق كان يمكّنهم من جعل كلّ من يحاول العبور هدفاً وغرضاً لسهامهم في وسط الخندق وقبل عبوره.
وأمّا من ناحية الطول فإنّ البعض قد قدّره بإثني عشر ألف ذراع (ستّة آلاف متر) إستناداً إلى الرواية المعروفة التي تقول بأنّ النّبي (ص) كان قد أمر أن يحفر كلّ عشرة رجال أربعين ذراعاً من الخندق، وبملاحظة أنّ عدد جنود المسلمين - طبقاً للمشهور - بلغ ثلاثة آلاف رجل.
ولابدّ من الإعتراف بأنّ حفر مثل هذا الخندق، وبالآلات البدائية المستعملة في ذلك اليوم كان أمراً مضنياً وجهداً، خاصّة وأنّ المسلمين كانوا في ضيق شديد وحاجة ملحّة من ناحية الزاد والوسائل الاُخرى.
ومن المسلّم أنّ حفر الخندق قد إستغرق مدّة لا يستهان بها، وهذا يوحي بأنّ جيش المسلمين كان قد قدّر وخمّن وتوقّع التوقّعات اللازمة بدقّة كاملة قبل أن يهجم العدوّ بحيث أنّ حفر الخندق كان قد تمّ قبل ثلاثة أيّام من وصول جيش الكفّار.
د - ساحة إمتحان عظيمة
إنّ غزوة "الأحزاب" كانت محكّاً وإمتحاناً عجيباً لكلّ المسلمين، ولمن كانوا يدّعون الإسلام، وكذلك لاُولئك الذين كانوا يدّعون الحياد أحياناً، وكان لهم في الباطن إرتباط وتعامل مع أعداء الإسلام ويتعاونون معهم ضدّ دين الله.
لقد تبيّن بوضوح تامّ موقع الفئات الثلاث - المؤمنون الصادقون، وضعفاء الإيمان، والمنافقون - من خلال عملهم، وإتّضحت تماماً القيم والمفاهيم الإسلامية، فقد عكست كلّ من الفئات الثلاث في أتون الحرب الملتهبة حسن إيمانها أو قبحه، وإخلاص نيّاتها أو عدمه.
لقد كانت العاصفة هوجاء شديدة لم تدع المجال لأيّ شخص أن يخفي ما في قلبه، وظهرت اُمور في أقلّ من شهر، وكان يحتاج كشفها إلى سنين ربّما تكون طويلة في الظروف الطبيعيّة.
وهنا مسألة تستحقّ الإنتباه، وهي أنّ النّبي (ص) أثبت عمليّاً إيمانه الكامل بما جاء به من التعليمات الإلهيّة ووفاءه التامّ لها من خلال مقاومته وصلابته، ورباطة جأشه، وتوكّله على الله، وإعتماده على نفسه، وكذلك أثبت للناس أنّه يطبّق قبل الآخرين ما يأمرهم به من خلال مواساته للمسلمين ومساعدتهم في حفر الخندق، وتحمّله لمصاعب الحرب ومشاكلها.
هـ - نزال علي (ع) التاريخي لعمرو بن عبد ودّ
من المواقف الحسّاسة والتاريخية لهذه الحرب مبارزة علي (ع) لبطل معسكر العدوّ العظيم "عمرو بن عبد ودّ"، فقد جاء في التواريخ أنّ جيش الأحزاب كان قد دعا أشدّاء شجعان العرب للإشتراك والمساهمة في هذه الحرب، وكان الأشهر من بين هؤلاء خمسة: عمرو بن عبد ودّ، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة، ونوفل، وضرار.
لقد إستعدّ هؤلاء في أحد أيّام الحرب للمبارزة الفردية، ولبسوا عدّة الحرب، وإستطاعوا إختراق الخندق والعبور بخيولهم إلى الجانب الآخر من خلال نقطة ضيّقة فيه، كانت بعيدة نسبياً عن مرمى الرماة المسلمين، وأن يقفوا أمام جيش المسلمين، وكان أشهرهم "عمرو بن عبد ودّ".
فتقدّم وقد ركبه الغرور والإعتداد بالنفس، وكانت له خبرة طويلة في الحرب، ورفع صوته طالباً من يبارزه.
لقد دوّى نداؤه (هل من مبارز) في ميدان الأحزاب، ولمّا لم يجرؤا أحد من المسلمين على قتاله إشتدّت جرأته وبدأ يسخر من معتقدات المسلمين، فقال: أين جنّتكم التي تزعمون أنّ من قتل منكم دخلها؟ هل فيكم من أرسله إلى الجنّة، أو يدفعني إلى النار؟
وهنا أنشد أبياته المعروفة:
ولقد بححت من النداء بجمعكم هل من مبارز
ووقفت إذ جبن المشجّع موقف البطل المناجز
إنّ السماحة والشجاعة في الفتى خير الغرائز
فأمر النّبي (ص) عند ذاك أن يخرج إليه رجل ويبعد شرّه عن المسلمين، إلاّ أنّ أحداً لم يجب رسول الله (ص) إلاّ علي بن أبي طالب (ع)، فقال النّبي (ص): "إنّه عمرو" فقال علي (ع): "وإن كان عمرواً" فدعاه النّبي (ص) وعمّمه، وقلّده سيفه الخاصّ ذا الفقار، ثمّ دعا له فقال: "اللهمّ احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته".
فمشى علي (ع) إلى الحرب وهو يرتجز:
لا تعجلنّ فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز
ذو نيّة وبصيرة والصدق منجي كلّ فائز
إنّي لأرجو أن اُقيم عليك نائحة الجنائز
من ضربة نجلاء يبقى صوتها بعد الهزاهز
وهنا قال النّبي (ص) كلمته المعروفة: "برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه"(12).
فلمّا التقيا دعاه أمير المؤمنين علي (ع) إلى الإسلام أوّلا، فأبى، ثمّ دعاه إلى إعتزال الحرب، فرفض ذلك، وإعتبره عاراً عليه، وفي الثالثة دعاه إلى أن ينزل عن ظهر جواده ويقاتله راجلا، فغضب عمرو وقال: ما كنت أحسب أحداً من العرب يدعوني إلى مثل ذلك، فنزل من على ظهر فرسه وضرب علياً (ع) على رأسه، فتلقّاها علي (ع) بمهارة خاصّة بدرعه، إلاّ أنّ السيف قدّه وشجّ رأس علي(ع).
هنا إستعمل علي (ع) اُسلوباً خاصّاً، فقال لعمرو: أنت بطل العرب، وأنا اُقاتلك، فعلام حضر من خلفك؟ فلمّا التفت عمرو، ضربه علي (ع) على ساقه بالسيف، فسقط عمرو إلى الأرض، فثارت غبرة ظنّ معها المنافقون أنّ علياً (ع) قد قتل بسيف عمرو، غير أنّهم لمّا سمعوا التكبير قد علا علموا بإنتصار علي، ورأوا فجأةً علياً (ع) يرجع إلى معسكره رويداً رويداً والدم ينزم من رأسه، وعلى شفتيه إبتسامة النصر، وكانت جثّة عمرو قد سقطت في جانب من الميدان.
لقد أنزل مقتل بطل العرب المعروف ضربة قاصمة بجيش الأحزاب بدّدت آمالهم وحطّمت معنوياتهم، وهزمتهم نفسياً هزيمة منكرة، وخابت آمالهم في النصر والظفر، ولذلك قال رسول الله (ص) في حقّها: "لو وزن اليوم عملك بعمل جميع اُمّة محمّد لرجح عملك على عملهم، وذاك أنّه لم يبق بيت من المشركين إلاّ وقد دخله ذلّ بقتل عمرو، ولم يبق بيت من المسلمين، إلاّ وقد دخله عزّ يقتل عمرو"(13).
وقد أورد العالم السنّيى المعروف "الحاكم النيسابوري" هذا القول، لكن بتعبير آخر: "لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ودّ يوم الخندق أفضل من أعمال اُمّتي إلى يوم القيامة"(14).
والغاية من هذا الكلام واضحة، لأنّ كلاًّ من الإسلام والقرآن كان على حافّة الهاوية ظاهراً، وكان يمرّ بأحرج لحظاته وأصعبها، ولذلك كانت التضحية في هذه الحرب أعظم التضحيات بعد تضحيات النّبي (ص)، حيث حفظت الإسلام من السقوط ودرأت عنه الخطر، وضمنت بقاءه إلى يوم القيامة، وببركة تضحية الإمام(ع) تجذّر الإسلام وتأصّل وشملت غصونه وأوراقه العالمين، وبناءً على هذا فإنّ عبادة الجميع مرهونة بعمله.
وذكر البعض: أنّ المشركين أرسلوا رسولا منهم ليشتري جثّة عمرو بعشرة آلاف درهم - وربّما كانوا يتصوّرون أنّ المسلمين سيفعلون بجثّة عمرو ما فعله قساة القلوب بجسد حمزة يوم اُحد - فقال النّبي (ص): "هو لكم، لا نأكل ثمن الموتى"!
وهناك موقف يستحقّ الذكر والإنتباه، وهو: أنّ اُخت عمرو لمّا وصلت إلى جسد أخيها، ورأت أنّ علياً (ع) لم يسلبه درعه الثمينة قالت: ما قتله إلاّ كفؤ كريم(15).
و - إجراءات النّبي العسكرية والسياسية في هذه الحرب
كانت هناك مجموعة من العوامل المختلفة، والأساليب العسكرية والسياسية، وكذلك عامل العقيدة والإيمان، ساهمت في إنتصار النّبي (ص) والمسلمين في معركة الأحزاب، إضافةً إلى التأييد الإلهي.
عن طريق الرياح والعواصف الهوجاء التي مزّقت جيوش الأحزاب شرّ ممزّق، وكذلك جنود الله الغيبيين، ومن جملة هذه العوامل والإجراءات:
1- أنّ النّبي (ص) أدخل بقبوله إقتراح حفر الخندق اُسلوباً جديداً لم يكن موجوداً ومعروفاً بين العرب إلى ذلك اليوم، وكان عاملا مهمّاً في رفع معنويات المسلمين وكسر شوكة الكفّار.
2- المواقف والحسابات الدقيقة للمسلمين، والأساليب والمناورات العسكرية كانت عاملا مؤثّراً في عدم نفوذ العدوّ إلى داخل المدينة.
3- قتل عمرو بن عبد ودّ على يد بطل الإسلام العظيم علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام، وتبديد آمال الأحزاب بقتله يعدّ عاملا مؤثّراً آخر.
4- الإيمان بالله، والتوكّل عليه، والذي غرسه النّبي (ص) في قلوب المسلمين، وسقاه المسلمون على إمتداد الحرب بتلاوة القرآن وكلمات النّبي (ص) المؤثّرة.
5- اُسلوب النّبي (ص) وروحه الكبيرة، وإعتماده على نفسه الذي يمنح المسلمين قوّة وإطمئناناً.
6- إضافةً إلى ذلك، فإنّ عمل "نعيم بن مسعود" كان أحد العوامل المهمّة في إيجاد الفرقة بين جيوش الأحزاب.
ز - نعيم بن مسعود وبثّ الفُرقة في جيش العدوّ!
جاء "نعيم" إلى النّبي (ص) وكان قد أسلم لتوّه، ولم تعلم قبيلته (غطفان) بإسلامه، فقال: أسلمت ولم يعلم بي أحد من قومي فمرني بأمرك، فقال له النّبي (ص): "إنّما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنّا ما إستطعت، فإنّما الحرب خدعة".
فإنطلق نعيم بخطّة رائعة، وأتى يهود بني قريظة، وكانت له معهم صداقة في الجاهلية، فقال لهم: إنّي لكم صديق، وأنتم تعلمون ذلك، فقالوا: صدقت، ونحن لا نتّهمك أبداً، فقال: إنّ البلد بلدكم وبه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، وإنّما قريش
وغطفان بلادهم غيرها، وإنّما جاءوا حتّى نزلوا معكم فإن رأوا فرصة إنتهزوها، وإن رأوا غير ذلك رجعوا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل، ولا طاقة لكم به، فلا تقاتلوا حتّى تأخذوا رهناً من أشرافهم تستوثقون به أن لا يبرحوا حتّى يناجزوا محمّداً، فقالوا: قد أشرت برأي، فقبل بنو قريظة قوله.
ثمّ أتى أبا سفيان وأشراف قريش متخفّياً، فقال: يامعشر قريش، إنّكم قد عرفتم ودّي إيّاكم وفراقي محمّداً ودينه، وإنّي قد جئتكم بنصيحة فاكتموا عليّ، فقالوا: نفعل، قال: تعلمون أنّ بني قريظة قد ندموا على ما صنعوا بينهم وبين محمّد فبعثوا إليه: أنّه لا يرضيك عنّا إلاّ أن نأخذ من القوم رهناً من أشرافهم وندفعهم إليك فتضرب أعناقهم، ثمّ نكون معك عليهم حتّى نخرجهم من بلادك، فقالوا: بلى، فإن بعثوا إليكم يسألونكم نفراً من رجالكم فلا تعطوهم رجلا واحداً واحذروا.
ثمّ جاء إلى غطفان قبيلته، فقال: تعلمون حسبي ونسبي، وأنا أودّكم، ولا أظنّكم تشكّون في صدقي، فقالوا: نعلم ذلك، فقال: لكم عندي خبر فاكتموه عليّ، فقالوا: نفعل، فقال لهم ما قال لقريش.
وكان ذلك ليلة السبت من شوّال سنة خمس من الهجرة.
فأرسل أبو سفيان ورؤساء غطفان جماعة إلى بني قريظة فقالوا: إنّ الكراع والخفّ قد هلكا، وإنّا لسنا بدار مقام، فاخرجوا إلى محمّد حتّى نناجزه.
فأجابهم اليهود: إنّ غداً السبت، وهو يوم لا نعمل فيه، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتّى تعطونا رهناً من رجالكم نستوثق بهم لا تذهبوا وتدعونا حتّى نناجز محمّداً.
فلمّا بلغ ذلك قريشاً وغطفان قالوا: والله لقد حذّرنا هذا نعيم، فبعث إليهم أبو سفيان: إنّا لا نعطيكم رجلا واحداً فإن شئتم أن تخرجوا وتقاتلوا، وإن شئتم فاقعدوا.
ولمّا علمت اليهود بذلك قالوا: هذا والله الذي قال لنا نعيم، فإنّ في الأمر حيلة، وهؤلاء لا يريدون القتال، ويريدون أن يغيروا ويرجعوا إلى ديارهم ويذروكم ومحمّداً.
فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنّا والله لا نقاتل حتّى تعطونا رهناً، فأصرّت قريش وغطفان على قولهما فوقع الإختلاف بينهم، وبعث الله سبحانه عليهم الريح في ليال شاتية قارصة البرد، قلعت خيامهم، وكفأت قدورهم.
لقد اتّحدت هذه العوامل، فحزم الجميع أمتعتهم ورجّحوا الفرار على القرار، ولم يبق منهم رجل في ساحة الحرب(16).
ح - قصّة حذيفة
جاء في كثير من التواريخ أنّ "حذيفة اليماني" قال: والله، لقد رأيتنا يوم الخندق وبنا من الجهد والجوع والخوف ما لا يعلمه إلاّ الله، وفي ليلة من الليالي - بعد أن وقع الإختلاف بين جيش الأحزاب - قال رسول الله (ص): "ألا رجل يأتينا بخبر القوم يجعله الله رفيقي في الجنّة".
قال حذيفة: فوالله ما قام منّا أحد ممّا بنا من الخوف والجوع، فلمّا رأى النّبي(ص) ذلك دعاني، فقلت: لبّيك، قال: "إذهب فجىء بخبر القوم ولا تحدثنّ شيئاً حتّى ترجع"، فأتيت القوم فإذا ريح الله وجنوده تفعل بهم ما تفعل، ما يستمسك لهم بناء، ولا تثبت لهم نار، ولا يطمئن لهم قدر، فإنّي لكذلك إذ خرج أبو سفيان من رحله، ثمّ قال: يامعشر قريش، لينظر أحدكم من جليسه لئلاّ يكون هنا غريب، فبدأت بالذي عن يميني، فقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان، فقلت: حسناً.
ثمّ عاد أبو سفيان براحلته، فقال: يامعشر قريش - والله - ما أنتم بدار مقام، هلك الخفّ والحافر، وأخلفتنا بنو قريظة، وهذه الريح لا يستمسك لنا معها شيء، ثمّ عجّل فركب راحلته وإنّها لمعقولة ما حلّ عقالها إلاّ بعد ما ركبها.
فقلت في نفسي: لو رميت عدوّ الله وقتلته كنت قد صنعت شيئاً، فوترت قوسي ثمّ وضعت السهم في كبد القوس، فلمّا أردت أن أطلقه ذكرت قول رسول الله (ص): "لا تحدثنّ شيئاً حتّى ترجع" وإنّه طلب منّي أن آتيه بالخبر وحسب، حططت القوس ثمّ رجعت إلى رسول الله فأخبرته الخبر، فقال النّبي (ص): "اللهمّ أنت منزل الكتاب، سريع الحساب، أهزم الأحزاب، اللهمّ أهزمهم وزلزلهم"(17).
ط - نتائج حرب الأحزاب
لقد كانت حرب الأحزاب نقطة إنعطاف في تاريخ الإسلام، قلبت كفّة التوازن العسكري والسياسي لصالح المسلمين إلى الأبد.
ويمكن تلخيص النتائج المثمرة لهذه المعركة في عدّة نقاط:
أ - فشل مساعي العدو، وتحطّم قواه.
ب - كشف المنافقين، وفضح الأعداء الداخليين الخطرين.
ج - جبران الذكرى الأليمة لهزيمة أُحد.
د - قوّة المسلمين، وإزدياد هيبتهم في قلوب الأعداء.
هـ - إرتفاع معنويات المسلمين نتيجة للمعجزات العظيمة التي رأوها في هذه المعركة.
و - تثبيت مركز النّبي (ص) في داخل المدينة وخارجها.
ر - تهيؤ الأرضية لتصفية المدينة وإنقاذها من شرّ بني قريظة.
2- النّبي اُسوة وقدوة
نعلم أنّ إختيار رسول الله من بين البشر إنّما هو من أجل أن يكونوا قدوة عملية
للاُمم، لأنّ أهمّ جانب من جوانب دعوة الأنبياء وأكثرها تأثيراً هي الدعوة العملية، ولذلك فإنّ علماء الإسلام اعتبروا العصمة شرطاً لمقام النبوّة، وإحدى أدلّتها وبراهينها هي أنّهم يجب أن يكونوا "قدوة" للناس، و "اُسوة" للبشر.
وممّا يسترعي الإنتباه أنّ التأسّي بالنّبي (ص) الوارد في هذه الآية قد جاء بصورة مطلقة، وهذا يشمل التأسّي في كافّة المجالات بالرغم من أنّ سبب نزول هذه الآيات هي معركة الأحزاب، ونعلم أنّ أسباب النّزول لا تحدّد مفاهيم الآيات بها مطلقاً، ولذلك نرى في الأحاديث الشريفة أنّ أهمّ المسائل وأبسطها قد طرحت في مسألة التأسّي.
ففي حديث عن أمير المؤمنين علي (ع): "إنّ الصبر على ولاة الأمر مفروض لقول الله عزّوجلّ لنبيّه: (فاصبر كما صبر اُولو العزم من الرسل) وإيجابه مثل ذلك على أوليائه وأهل طاعته لقوله: (لقد كان لكم في رسول الله اُسوة حسنة)(18).
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: "إنّ رسول الله كان إذا صلّى العشاء الآخرة أمر بوضوئه وسواكه فوضع عند رأسه مخمراً" ثمّ يبيّن كيفية صلاة الليل التي كان يصلّيها النّبي (ص)، ويقول في آخر الحديث: (لقد كان لكم في رسول الله اُسوة حسنة)(19).
وإذا ما اتّخذنا النّبي (ص) اُسوة لنا في حياتنا حقّاً، في إيمانه وتوكّله، في إخلاصه وشجاعته، في تنظيم أمره ونظافته، وفي زهده وتقواه، فإن اُسلوب حياتنا سيختلف تماماً، وسيعمّ الضياء والسعادة كلّ زوايا حياتنا ونواحيها.
يجب اليوم على كلّ المسلمين، وخاصّة الشباب المؤمن، أن يقرؤوا سيرة نبيّنا الأكرم (ص) بدقّة متناهية ويحفظوها، ويجعلوه قدوة واُسوة لهم في كلّ شيء، فإنّ هذا التأسّي والإقتداء به سبيل السعادة، ومفتاح النصر والعزّة.
3- اذكروا الله كثيراً
لقد وردت الوصيّة بذكر الله - وخاصّة الذكر الكثير - مراراً في الآيات القرآنية، وقد أولته الروايات الإسلامية إهتماماً كبيراً أيضاً، حتّى أنّنا نقرأ في حديث عن أبي ذرّ أنّه قال: دخلت المسجد فأتيت النّبي (ص)... فقال لي: "عليك بتلاوة كتاب الله وذكر الله كثيراً فإنّه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض"(20).
وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق (ع): "إذا ذكر العبد ربّه في اليوم مائة مرّة كان ذلك كثيراً"(21).
وفي حديث آخر عن النّبي الأكرم (ص) أنّه قال لأصحابه: "ألا اُخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من الدينار والدرهم، وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتقتلونهم ويقتلونكم؟ قالوا: بلى يارسول الله، قال: ذكر الله كثيراً"(22).
لكن لا ينبغي أن يتصوّر أنّ المراد من ذكر الله بكلّ هذه الفضيلة هو الذكر اللساني فقط، بل قد صرّحت الروايات الإسلامية أنّ المراد منه إضافة لما مرّ هو الذكر القلبي والعملي، أي أنّ الإنسان يذكر الله عندما يواجه حراماً فيتركه.
إنّ الهدف أن يجعل الإنسان الله نصب عينيه دائماً، ويشعر بحضوره وشهادته الدائمة، وأن يغمر نور الله كلّ حياته، فيفكّر فيه ويذكره دائماً، ولا يغفل عن أوامره بل يطيعها.
إنّ مجالس الذكر ليست تلك المجالس التي يجتمع فيها جماعة من المغفّلين ويشرعون في الطعام والشراب، وتتخلّل مجالسهم تلك مجموعة من الأذكار المخترعة، والبدع التي يروجونها، فقد ورد في حديث أنّ النّبي (ص) قال: "بادروا إلى رياض الجنّة، قالوا: وما رياض الجنّة؟ قال: حلق الذكر"(23)، والمراد منها الحلقات التي تُحيا فيها العلوم الإسلامية، وتطرح البحوث التربوية التي تؤدّي إلى تهذيب الناس وتطهير المذنبين وتدفعهم إلى سبيل الله(24).
1- نهج البلاغة، الكلمات القصار، فصل الغرائب جملة 9.
2- مفردات الراغب، ومجمع البيان، ولسان العرب مادّة نَحب.
3- مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.
4- أورد هذه الرّوايات بتفاوت يسير أصحاب تفاسير القرطبي وفي ظلال القرآن، ومجمع البيان في كتبهم.
5- مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.
6- تفسير الصافي ذيل الآية مورد البحث.
7- نور الثقلين، المجلّد 4، صفحة 259.
8- تفسير الميزان، ذيل الآية مورد البحث.
9- بحار الأنوار، المجلّد 20، صفحة 215، ونقل هذا الحديث عن الكراجكي.
10- التاريخ الكامل لابن الأثير الجزء 2 صفحة 184.
11- بحار الأنوار، الجزء 20، صفحة 228.
12- بحار الأنوار، المجلّد 20، صفحة 215، ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، المجلّد 4، صفحة 344 طبقاً لنقل إحقاق الحقّ، الجزء 6، صفحة 9.
13- بحار الأنوار الجزء 20 صفحة 216.
14- مستدرك الحاكم، الجزء 3، صفحة 32.
15- إعتمدنا في هذا الجانب على كتب: إحقاق الحقّ، المجلّد 6، بحار الأنوار، المجلّد 20، تفسير الميزان، المجلّد 16.
16- سيرة ابن هشام، المجلّد 3، صفحة 240 بإختصار.
17- بحار الأنوار، ج20، صفحة208.
18- إحتجاج الطبرسي طبقاً لنقل نور الثقلين، ج4، ص255.
19- وسائل الشيعة، المجلّد 1، صفحة 356.
20- الخصال، طبقاً لنقل نور الثقلين، المجلّد 4، ص257.
21- سفينة البحار، المجلّد 1، صفحة 484.
22- المصدر السابق.
23- سفينة البحار، المجلّد 1، ص486.
24- كان لنا بحث آخر حول أهميّة ذكر الله ومفهومه ذيل الآية (120) من سورة الرعد.