الآيات 4 - 6

﴿مَّا جَعَلَ اللهُ لِرَجُل مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَجَكُمُ الَّئى تُظَهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَـتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لاِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا ءَابَاءَهُمْ فَإِخْوَنُكُمْ فِى الدِّينِ وَمَوَلِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيَما أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَـكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً (5) النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَجُهُ أُمَّهَّتُهُمْ وَأُوْلُوا الاَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِى كِتَبِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَـجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوا إلى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِى الْكِتَـبِ مَسْطُوراً (6)﴾

التّفسير

إدّعاءات جوفاء:

تعقيباً للآيات السابقة التي كانت تأمر النّبي (ص) أن يتّبع الوحي الإلهي فقط، ولا يتّبع الكافرين والمنافقين، تعكس هذه الآيات التي نحن بصددها عاقبة اتّباع هؤلاء وأنّه يدعو الإنسان إلى مجموعة من الخرافات والأباطيل، وقد ذكرت الآية الاُولى من الآيات مورد البحث ثلاث منها، فتقول أوّلا: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه).

وقد ذكر جمع من المفسّرين في سبب نزول هذا القسم من الآية: أنّ رجلا في الجاهلية يدعى "جميل بن معمّر" كان عجيب الحفظ، وكان يدّعي أنّ في جوفه قلبين كلّ منهما أفهم من محمّد (ص)، ولذلك كان مشركو قريش يسمّونه: ذا القلبين!

فلمّا كان يوم بدر وهزم المشركون، وفيهم جميل بن معمّر، تلقّاه أبو سفيان وهو آخذ بيده إحدى نعليه، والاُخرى في رجله، فقال له: ياأبا معمّر، ما حال الناس؟ قال: إنهزموا، قال: فما بالك إحدى نعليك في يدك، والاُخرى في رجلك؟ فقال أبو معمّر: ما شعرت بذلك، وكنت أظنّهما في رجلي، فعرفوا يومئذ أنّه لم يكن له إلاّ قلب واحد لما نسي نعله في يده(1).

بل لم يكن يعقل ويفهم حتّى بمقدار ذي القلب الواحد.

والمراد من "القلب" في مثل هذه الموارد "العقل".

وعلى كلّ حال فإنّ اتّباع الكفّار والمنافقين، وعدم اتّباع الوحي الإلهي يدعو الإنسان إلى مثل هذه الإعتقادات الخرافية.

وبغضّ النظر عن ذلك، فإنّ للجملة معنى أعمق، وهو: أنّه ليس للإنسان إلاّ قلب واحد، ولا يحتوي هذا القلب ولا يختزن إلاّ عشق معبود واحد، وعلى هذا فإنّ اُولئك الذين يدعون إلى الشرك والآلهة المتعدّدة ينبغي أن تكون لهم قلوب متعدّدة، ليجعلوا كلّ واحد منها بيتاً لعشق معبود واحد!

من المسلّم أنّ شخصيّة الإنسان السليم شخصية واحدة، وخطّه الفكري واحد، ويجب أن يكون واحداً في وحدته وإختلاطه بالمجتمع، في الظاهر والباطن، في الداخل والخارج، وفي الفكر والعمل، فإنّ كلّ نوع من أنواع النفاق أز إزدواج الشخصية أمر مفروض على الإنسان وعلى خلاف طبيعته.

إنّ الإنسان بحكم إمتلاكه قلباً واحداً يجب أن يكون له كيان عاطفي واحد، وأن يخضع لقانون واحد...

ولا يدخل قلبه إلاّ حبّ معشوق واحد...

ويسلك طريقاً معيّناً في حياته، بأن يتآلف مع فريق واحد، ومجتمع واحد، وإلاّ فإنّ التعدّد والتشتّت والطرق المختلفة والأهداف المتفرّقة ستقوده إلى اللاهدفية والإنحراف عن المسير التوحيدي الفطري.

ولهذا نرى في حديث عن أمير المؤمنين علي (ع) في تفسير هذه الآية: "لا يجتمع حبّنا وحبّ عدوّنا في جوف إنسان، إنّ الله لم يجعل لرجل قلبين في جوفه، فيحبّ بهذا ويبغض بهذا، فأمّا محبّنا فيخلص الحبّ لنا كما يخلص الذهب بالنار لا كدر فيه، فمن أراد أن يعلم فليمتحن قلبه، فإن شارك في حبّنا حبّ عدوّنا فليس منّا ولسنا منه"(2).

وبناءً على هذا فإنّ القلب مركز الإعتقاد الواحد، وينفّذ برنامجاً عملياً واحداً، لأنّ الإنسان لا يستطيع أن يعتقد بشيء حقيقة وينفصل عنه في العمل، وما يدّعي بعض المعاصرين من أنّهم يمتلكون شخصيات متعدّدة، ويقولون: إنّنا قد قمنا بالعمل الفلاني سياسياً، وبذلك العمل دينياً، والآخر إجتماعياً، ويوجّهون بذلك أفعالهم المتناقضة، فهو ناشيء من نفاقهم وسوء سريرتهم حيث يريدون أن يسحقوا بهذا الكلام قانون الخلقة.

صحيح أنّ أبعاد حياة الإنسان مختلفة، ولكن يجب أن يحكمها خطّ واحد، وتسير ضمن منهاج واحد.

ثمّ يتطرّق القرآن إلى خرافة اُخرى من خرافات الجاهلية، وهي خرافة "الظهار"، حيث أنّ المشركين كانوا إذا غضبوا على نسائهم، وأرادوا أن يبدوا تنفّرهم وعدم إرتياحهم، قالوا للزوجة: أنت عليّ كظهر اُمّي فيعتبرها بمثابة اُمّه، وكان يعدّ هذا الكلام بمنزلة الطلاق!

يقول القرآن الكريم في تتمّة هذه الآية: (وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهنّ اُمّهاتكم) فلم يمض الإسلام هذا القانون الجاهلي، ولم يصادق عليه، بل جعل عقوبة لمن يتعاطاه، وهي: أنّ من نطق بهذا الكلام فلا يحقّ له أن يقرب زوجته حتّى يدفع الكفّارة، وإذا لم يدفعها ولم يأت زوجته فإنّ لها الحقّ في أن تستعين بحاكم الشرع ليجبره على أحد أمرين: إمّا أن يطلّقها وفقاً لأحكام الإسلام ويفارقها، أو أن يكفّر ويستمرّ في حياته الزوجية كالسابق(3).

أي منطق هذا الذي تصبح فيه زوجة الإنسان بمنزلة اُمّه بمجرّد أن يقول لها: أنت عليّ كظهر اُمّي؟! إنّ إرتباط وعلاقة الاُمّ والولد علاقة طبيعية لا تتحقّق بمجرّد الكلام مطلقاً، ولذلك تقول الآية 2- سورة المجادلة بصراحة: (إنّ اُمّهاتهم إلاّ اللائي ولدنهم وإنّهم ليقولون منكراً من القول وزوراً).

وإذا كان هدف هؤلاء من إطلاق هذه الكلمات هو الإفتراق والإنفصال عن المرأة - (وهكذا كان في عصر الجاهلية، حيث كانوا يقولون هذه الكلمات بدل لفظ الطلاق) - فإنّ الإنفصال عن المرأة لا يحتاج إلى مثل هذا الكلام القبيح السيّء. ألا يمكن أن يصرّح بالطلاق بتعبير صحيح بعيد عن كلّ ذلك القبح؟

وقال بعض المفسّرين: إنّ "الظهار" في الجاهلية لم يكن يؤدّي إلى إنفصال الرجل عن المرأة، بل إنّه كان يجعل المرأة كالمعلّقة لا يعرف حالها ومصيرها، وإذا كانت المسألة كذلك، فإنّ جناية هذا العمل وقبحه ستكون أوضح، لأنّ كلمة لا معنى لها كانت تحرّم على الرجل علاقته الزوجية مع زوجته من دون أن تكون المرأة مطلّقة(4).

ثمّ تطرّقت الآية إلى ثالث خرافة جاهلية، فقالت: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم).

وتوضيح ذلك: أنّه كان من المتعارف في زمن الجاهلية أنّهم كانوا ينتخبون بعض الأطفال كأولاد لهم، ويسمّونهم أولادهم، وبعد هذه التسمية يعطونه كلّ الحقوق التي يستحقّها الولد من الأب، فيرث الولد من تبنّاه، كما يرث المتبنّي الولد، ويجري عليهما تحريم امرأة الأب أو زوجة الإبن.

وقد نفى الإسلام هذه العادات غير المنطقية والخرافية أشدّ النفي، بل - وكما سنرى - أنّ النّبي (ص) أقدم - لمحو هذه السنّة المغلوطة - على الزواج من زوجة ولده المتبنّى "زيد بن حارثة" بعد أن طلّقها زيد، ليتّضح من خلال هذه السنّة النبوية أنّ هذه الألفاظ الجوفاء لا يمكن أن تغيّر الحقائق والواقع، لأنّ علاقة البنوّة والاُبوّة علاقة طبيعية لا تحصل أبداً من خلال الألفاظ والإتّفاقيات والشعارات.

ومع أنّنا سنقول فيما بعد: أنّ زواج النّبي بزوجة زيد المطلّقة قد أثار ضجّة عظيمة بين أعداء الإسلام، وأصبح حربة بيدهم للإعلام المضادّ السيء، إلاّ أنّ هذا العمل كان يستحقّ تحمّل كلّ ذلك الصخب الإعلامي لتحطيم هذه السنّة الجاهلية، ولذلك يقول القرآن الكريم بعد هذه الجملة: (ذلكم قولكم بأفواهكم).

إنّكم تقولون: إنّ فلاناً ولدي، وأنتم تعلمون علم اليقين أنّ الأمر ليس كذلك، فإنّ الأمواج الصوتية فقط هي التي تخرج من أفواهكم ولا تنبع مطلقاً من إعتقاد قلبي، وهذا كلام باطل ليس إلاّ (والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل).

إنّ "قول الحقّ" يطلق على القول الذي ينطبق على الواقع الموضوعي تماماً، أو أن يكون من الاُمور الإعتبارية التي تنسجم مع مصالح كلّ أطراف القضيّة، ونعلم أنّ مسألة "الظهار" في الجاهلية، أو "التبنّي" الذي كان يسحق حقوق الأبناء الآخرين إلى حدّ كبير - لم يكونا من الموضوعات العينية، ولا من الإعتباريات الحافظة لمصلحة عامّة الناس.

ثمّ يضيف القرآن مؤكّداً وموضّحاً الخطّ الصحيح والمنطقي للإسلام: (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله).

إنّ التعبير بـ (أقسط) لا يعني أنّهم إن دعوهم بأسماء المتبنّين لهم فإنّه عدل، وإن دعوهم بأسماء آبائهم الواقعيين فإنّه أعدل، بل - وكما قلنا سابقاً مراراً - إنّ صيغة (أفعل التفضيل) تستعمل في بعض الموارد ولا تدلّ على الوصف المقابل لصفة ما، فمثلا نقول: من الأفضل أن يحتاط الإنسان ولا يلقي بنفسه في الخطر، فلا يعني هذا أنّ إلقاء النفس في الخطر والتهلكة حسن، إلاّ أنّ الإحتياط أفضل منه، بل إنّ المراد المقارنة بين الحسن والقبح.

وتقول الآية لرفع الأعذار والحجج: (فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم) أي إنّ عدم معرفة آبائهم لا يكون دليلا على أن تضعوا اسم شخص آخر كأب لهذا الإبن، بل يمكنكم أن تخاطبوهم كإخوانكم في الدين أو أصدقائكم ومواليكم.

(الموالي) جمع "مولى"، وقد ذكر المفسّرون له معاني عديدة، فالبعض فسّره هنا بمعنى الصديق والصاحب، والبعض الآخر بمعنى الغلام المعتق والمحرّر، لأنّ بعض الأدعياء كانوا عبيداً يُشترون ثمّ يتحرّرون، ولمّا كان أصحابهم قد اهتّموا بهم وأحبّوهم فإنّهم كانوا يدعونهم كأبناء لهم.

وممّا يجدر الإشارة إليه أنّ تعبير (مولى) في مثل هذه الموارد كان يرتبط بالعبيد المحرّرين من جهة أنّهم كانوا يحتفظون بعلاقاتهم مع مالكيهم بعد تحرّرهم، تلك العلاقات التي كانت تنوب عن اُولي الأرحام في بعض الجهات من الناحية الحقوقية، وكانوا يعبّرون عن ذلك بـ (ولاء العتق) ولذلك نقرأ في الروايات الإسلامية أنّ "زيد بن حارثة" بعد أن أعتقه النّبي كان يدّعي زيد بن محمّد، حتّى نزل القرآن بالأمر أعلاه، فمن ذلك الحين قال له النّبي (ص): "أنت زيد بن حارثة"، وكان الناس يدعونه بعد ذلك: مولى رسول الله(5).

وقالوا أيضاً: كان لأبي حذيفة غلام يدعى "سالماً" فأعتقه وادّعاه، فلمّا نزلت هذه الآية كانوا يسمّونه: سالماً مولى أبي حذيفة(6).

ولكن ربّما يدعو الشخص إنساناً لغير أبيه لإعتياده ذلك سابقاً، أو لسبق لسانه، أو لإشتباهه في تشخيص نسب الأفراد، وهذا خارج عن حدود إختيار الإنسان، فإنّ الله العادل الحكيم لا يعاقب مثل هذا الإنسان، ولذا أردفت الآية: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمّدت قلوبكم(7) وكان الله غفوراً رحيماً).

إنّه تعالى يغفر لكم ما سبق، ويعفو عن السهو والنسيان والإشتباه، أمّا بعد نزول هذا الحكم فإنّ الله عزّوجلّ سوف لا يغفر لكم مخالفتكم إن صدرت عن عمد وقصد، فتدعون أفراداً بغير أسماء آبائهم، وتستمرّون على اتّباع هذا العرف السيء بالدعوة لغير الأب.

وقال بعض المفسّرين: إنّ موضوع الخطأ يشمل الموارد التي يقول فيها الإنسان لآخر تحبّباً: ولدي، أو يابنيّ، أو يقول فيها لآخر إحتراماً: ياأبت!

وهذا الكلام صحيح - طبعاً - وهذه التعبيرات لا تعدّ ذنباً، لكن لا لأجل عنوان الخطأ، بل لأنّ لهذه التعبيرات صفة الكناية والمجاز، وقرينتها معها عادة، والقرآن ينفي التعبيرات الحقيقية في هذا الباب، لا المجازية.

ثمّ تتطرّق الآية التالية إلى مسألة مهمّة اُخرى، أي إبطال نظام "المؤاخاة" بينهم.

وتوضيح ذلك: أنّ المسلمين لمّا هاجروا من مكّة إلى المدينة وقطع الإسلام كلّ روابطهم وعلاقاتهم بأقاربهم وأقوامهم المشركين الذين كانوا في مكّة تماماً، فقد أجرى النّبي (ص) بأمر الله عقد المؤاخاة بينهم وعقد عهد المؤاخاة بين "المهاجرين" و "الأنصار"، وكان يرث أحدهم الآخر كالأخوين الحقيقيين، إلاّ أنّ هذا الحكم كان مؤقّتاً وخاصّاً بحالة إستثنائية جدّاً، فلمّا اتّسع الإسلام وعادت العلاقات السابقة تدريجيّاً لم تكن هناك ضرورة لإستمرار هذا الحكم، فنزلت الآية أعلاه وألغت نظام المؤاخاة الذي كان يحلّ محلّ النسب، وجعل حكم الإرث وأمثاله مختّصاً بأُولي الأرحام الحقيقيين.

وبالرغم من أنّ نظام المؤاخاة كان نظاماً إسلامياً - على خلاف نظام التبنّي الذي كان نظاماً جاهلياً - ولكن كان من الواجب أن يُلغى بعد إرتفاع الحالة الموجبة له، وهكذا حصل، غاية ما في الأمر أنّ الآية قبل أن تذكر هذا الحكم ذكرت حكمين آخرين - أي كون النّبي (ص) أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وكون نساء النّبي (ص) كاُمّهاتهم - كمقدّمة، فقالت: (النّبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه اُمّهاتهم).

ومع أنّ النّبي (ص) بمنزلة الأب، وأزواجه بمنزلة اُمّهات المؤمنين إلاّ أنّهم لا يرثون منهم مطلقاً، فكيف يُنتظر أن يرث الابن المتبنّي؟!

ثمّ تضيف الآية: (واُولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين) ولكن مع ذلك، ومن أجل أن لا تغلق الأبواب بوجه المسلمين تماماً وليكون بإمكان المؤمنين تعيين شيئاً من الإرث لإخوانهم - وإن كان بأن يوصوا بثلث المال - فإنّ الآية تضيف في النهاية: (إلاّ أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً).

وتقول في آخر جملة تأكيداً لكلّ الأحكام السابقة، أو الحكم الأخير: (كان ذلك في الكتاب مسطوراً) - في اللوح المحفوظ أو في القرآن الكريم -.

كان هذا خلاصة تفسير الآية أعلاه، والآن يجب أن نتطرّق إلى تفصيل كلّ واحد من الأحكام الأربعة التي وردت في هذه الآية:

1- ما هو المراد من كون النّبي أولى بالمؤمنين؟

لقد ذكر القرآن في هذه الآية أولوية النّبي (ص) بالمسلمين بصورة مطلقة، ومعنى ذلك أنّ النّبي (ص) أولى بالإنسان المسلم من نفسه في جميع الصلاحيات التي يمتلكها الإنسان في حقّ نفسه.

ومع أنّ بعض المفسّرين فسّروها بمسألة "تدبير الاُمور الإجتماعية"، أو "الأولوية في مسألة القضاء"، أو "طاعة الأمر"، إلاّ أنّنا في الواقع لا نمتلك أي دليل على إنحصار الآية في أحد هذه الاُمور الثلاث.

وإذا لاحظنا في بعض الروايات الإسلامية تفسير الأولوية بـ "الحكومة"، فهو في الحقيقة بيان لأحد فروع هذه الأولوية(8).

لذلك يجب أن يقال: إنّ النّبي (ص) أولى من كلّ إنسان مسلم في المسائل الإجتماعية والفردية، وكذلك في المسائل المتعلّقة بالحكومة والقضاء والدعوة، وإنّ إرادته ورأيه مقدّم على إرادة أي مسلم ورأيه.

ولا ينبغي العجب من هذه المسألة، لأنّ النّبي (ص) معصوم ووكيل لله سبحانه، ولا يفكّر ويقرّر إلاّ في صالح المجتمع والفرد، ولا يتّبع الهوى أبداً، ولا يعتبر مصالحه مقدّمة على مصالح الآخرين وأهمّ منها، بل على العكس من ذلك، فهو يؤثّر ويقدّم مصالح الاُمّة على مصالحه دائماً عند تعارض المصلحتين.

إنّ هذه الأولوية فرع من أولوية المشيئة الإلهيّة، لأنّ كلّ ما لدينا من الله سبحانه.

إضافة إلى أنّ الإنسان لا يصل إلى أوج الإيمان إلاّ عند ما يضحّي بأقوى العلائق والدوافع فيه، وهو عشقه لذاته في طريق عشقه لذات الله وخلفائه، ولذلك نقرأ في حديث: "لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعاً لما جئت به"(9).

وجاء في حديث آخر: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين"(10).

وكذلك روي عنه (ص): "ما من مؤمن إلاّ وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة"(11).

ويقول القرآن الكريم في الآية ( رقم 36) من سورة الأحزاب هذه: (ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أن يكون لهم الخيرة من أمرهم).

ونؤكّد مرّة اُخرى على أنّ هذا الكلام لا يعني أنّ الله قد جعل أمر الناس تبعاً لأهواء ورغبات شخص ما، بل من جهة أنّ للنبي (ص) مقام العصمة، وبمصداق: (لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى) فإنّ كلّ ما يقوله هو كلام الله ومن الله، وهو أحرص وأرحم حتّى من الأب بهذه الاُمّة.

إنّ هذه الأولوية في الحقيقة تقع في مسير منافع الناس في جوانب الحكومة وتدبير المجتمع الإسلامي، وكذلك في المسائل الشخصية والفردية.

ويتبيّن من هذه الأدلّة أنّ هذه الأولوية تضع على عاتق النّبي (ص) مسؤوليات ثقيلة ضخمة، ولذلك نقرأ في الرواية المشهورة الواردة في مصادر الشيعة والسنّة،

أنّ النّبي (ص) قال: "أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه، ومن ترك مالا فللوارث، ومن ترك دَيناً أو ضياعاً فإليّ وعليّ"(12).

ينبغي الإلتفات إلى أنّ "الضياع" هنا بمعنى الأولاد أو العيال الذين بقوا بدون معيل، والتعبير بـ "الدَّين" قبلها قرينة واضحة على هذا المعنى، لأنّ المراد بقاء الدَّين بدون مال يسدّد به.

2- الحكم الثّاني: في هذا الباب يتعلّق بأزواج النّبي حيث يُعتبرن كاُمّهات لكلّ المؤمنين، وهي طبعاً اُمومة معنوية وروحية، كما أنّ النّبي (ص) أب روحي ومعنوي للاُمّة.

إنّ تأثير هذا الإرتباط المعنوي كان منحصراً في مسألة حفظ إحترام أزواج النّبي وحرمة الزواج منهنّ، كما جاء الحكم الصريح بتحريم الزواج منهنّ بعد وفاة النّبي (ص) في آيات هذه السورة، وإلاّ فليس لهذه العلاقة أدنى أثر من ناحية الإرث وسائر المحرّمات النسبية والسببية، أي إنّ المسلمين كان من حقّهم أن يتزوّجوا بنات النّبي، في حين أنّ أيّ أحد لا يستطيع الزواج من إبنة اُمّه.

وكذلك مسألة كونهنّ أجنبيات، وعدم جواز النظر إليهن إلاّ للمحارم.

في حديث عن الإمام الصادق (ع): "إنّ امرأة قالت لعائشة: يااُمّه! فقالت: لست لك باُمّ إنّما أنا اُمّ رجالكم"(13) وهو إشارة إلى أنّ الهدف من هذا التعبير هو حرمة التزويج، وهذا صادق في رجال الاُمّة فقط.

وثمّة مسألة مطروحة، وهي إحترامهنّ وتعظيمهنّ - كما قلنا - إضافةً إلى قضيّة عدم الزواج، ولذلك فإنّ نساء المسلمين كنّ قادرات على مخاطبة نساء النّبي بالاُمّ بعنوان إحترامهنّ.

والشاهد لهذا القول، أنّ القرآن الكريم يقول: (النّبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) وهذا يعني أولوية النّبي بكلّ النساء والرجال، وضمير الجملة التالية يعود إلى هذا العنوان الواسع المعنى، ولذلك نقرأ في العبارة التي نقلت عن "اُمّ سلمة" - وهي من أزواج النّبي (ص) - أنّها قالت: أنا اُمّ الرجال منكم والنساء(14).

وهنا يطرح سؤال، وهو: هل أنّ تعبير (وأزواجه اُمّهاتهم) يتناقض مع ما ورد في من سورة المجادلة: (والذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هنّ اُمّهاتهم إنّ اُمّهاتهم إلاّ اللائي ولدنهم وإنّهم ليقولون منكراً من القول وزوراً)فكيف تعتبر نساء النّبي - والحال هذه - اُمّهات المسلمين ولم يولدوا منهنّ؟

وينبغي في الإجابة على هذا السؤال الإلتفات إلى أنّ مخاطبة امرأة ما بالاُمّ إمّا أن تكون من الناحية الجسمية أو الروحية... فأمّا من الناحية الجسمية: فإنّ هذه المخاطبة تكون واقعية في حالة كون الإنسان مولوداً منها فقط، وهذا هو الذي جاء في الآيات السابقة بأنّ الاُمّ الجسمية للإنسان هي التي تلده فقط.

وأمّا الأب أو الاُمّ الروحيين، فهو الذي له حقّ معنويّ على الإنسان كالنّبي (ص)الذي يعتبر الأب الروحي للاُمّة، ولأجله إكتسبت أزواجه منزلة وإحترام الاُمّ.

والإشكال الذي كان يوجّه إلى عرب الجاهلية في مورد "الظهار" أنّهم عندما كانوا يخاطبون أزواجهم بخطاب الاُمّ فمن المسلّم أنّ مرادهم ليس الاُمّ المعنوية، بل المقصود أنّهنّ كالاُمّ الجسمية، ولذلك كانوا يعدّونه نوعاً من الطلاق، ونعلم أنّ الاُمّ الجسمية لا تتحقّق بمجرّد الألفاظ، بل إنّ شرط ذلك الولادة الجسمية، وبناءً على هذا فإنّ كلامهم كان منكراً وزوراً.

أمّا في مورد أزواج النّبي (ص)، فبالرغم من أنّهنّ لسن اُمّهات جسمياً، إلاّ أنّهنّ اُمّهات روحيات إكتساباً من مقام وإحترام النّبي (ص) ولهنّ وجوب الإحترام كاُمّهات.

وإذا رأينا القرآن قد حرّم الزواج من أزواج النّبي (ص) في الآيات القادمة، فإنّ ذلك شأن آخر من شؤون إحترامهنّ وإحترام النّبي (ص) كما سيأتي توضيح ذلك بصورة مفصّلة إن شاء الله تعالى.

وهناك نوع ثالث من الاُمّهات في الإسلام وهي الاُمّ المرضعة، والتي اُشير إليها في الآية ( رقم 23) من سورة النساء: (واُمّهاتكم اللاتي أرضعنكم) إلاّ أنّها في الحقيقة فرع من فروع الاُمّ الجسمية.

3- الحكم الثالث: مسألة أولوية اُولي الأرحام في الإرث بالنسبة إلى الآخرين، لأنّ قانون الإرث في بداية الإسلام - حيث قطع المسلمون علاقتهم بأقوامهم وأقاربهم على أثر الهجرة - نظّم على أساس الهجرة والمؤاخاة، أي أنّ المهاجرين كانوا يرثون بعضهم من بعض أو مع الأنصار الذين تآخوا معهم ولكن لم تكن هناك ضرورة للإستمرار عليه بعد توسّع الإسلام وإعادة كثير من العلاقات القومية والرحمية السابقة نتيجة إسلام أقوامهم - (وينبغي الإلتفات إلى أنّ سورة الأحزاب قد نزلت في السنة الخامسة للهجرة، وهي سنة "حرب الأحزاب") لذلك ثبّتت أولوية اُولي الأرحام بالنسبة إلى الآخرين.

وهناك قرائن على أنّ المراد من الأولوية هنا هي الأولوية الإلزامية لا الإستحبابية، لأنّ إجماع علماء الإسلام على هذا المعنى، إضافة إلى الروايات الكثيرة الواردة في المصادر الإسلامية، والتي تثبت هذا الموضوع.

ويجب هنا الإلتفات إلى هذه المسألة بدقّة، وهي: أنّ هذه الآية بصدد بيان أولوية اُولي الأرحام في مقابل الأجانب، لا بيان أولوية طبقات الإرث الثلاث بالنسبة إلى بعضها البعض، وبتعبير آخر، فإنّ المفضّل عليهم هنا هم المؤمنون والمهاجرون الذين ورد ذكرهم في متن القرآن: (من المؤمنين والمهاجرين).

بناءً على هذا فإنّ مفهوم الآية يصبح: إنّ اُولي الأرحام أولى من الأجانب من ناحية الإرث، أمّا كيف يرث هؤلاء الأرحام؟ وعلى أي أساس ومعيار؟ فإنّ القرآن سكت عن ذلك في هذا الموضع، مع أنّه بحث الموضوع مفصّلا في آيات سورة النساء(15).

4- الحكم الرّابع الذي ورد في الآية أعلاه كإستثناء، هو إستفادة وإنتفاع الأصدقاء والأفراد المعينين الذين يخصّهم الأمر من الأموال التي يتركها الإنسان كذكرى، والذي بُيّن بجملة: (إلاّ أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً) ومصداقه الواضح هو حكم الوصيّة، حيث يستطيع الإنسان أن يتصرّف في ثلث أمواله ويضعه حيث يشاء، أو يوصي به لمن يشاء.

وبهذا فإنّ الإسلام عندما وضع أساس الإرث على دعامة القرابة والرحم بدل الروابط والعلاقات السابقة، لم يقطع وشائج الصلة بين الإنسان ورفقائه الذين يعزّهم وباقي إخوته المسلمين تماماً، فالإنسان حرّ في التصرّف في ماله من ناحية الكميّة والكيفية، إلاّ أنّ هذه الحرية مشروطة بأن لا تزيد على الثلث، ومن الطبيعي أنّ الإنسان إذا لم يوص بشيء فإنّ كلّ أمواله تقسّم بين أقاربه وذوي رحمه طبقاً لقانون الإرث، ولا يترك له ثلث في هذه الحالة(16).

ملاحظة

وردت روايات كثيرة عن أئمّة أهل البيت (ع) في تفسير الآية أعلاه فيما يتعلّق باُولي الأرحام، حيث فسّرت هذه الآية في بعض منها بمسألة "إرث الأموال"، كما هو المعروف بين المفسّرين، في حين فسّرت في البعض الآخر بمسألة "إرث الخلافة والحكومة" في آل النّبي (ص) وأئمّة أهل البيت (ع).

ومن جملتها ما نقرؤه في حديث عن الإمام الصادق (ع) حينما سئل عن تفسير هذه الآية، أنّه قال: "نزلت في ولد الحسين (ع)"... قيل: في المواريث؟ قال: "لا، نزلت في الإمرة"(17).

من البديهي أنّه ليس المراد من هذه الأحاديث نفي مسألة إرث الأموال، بل المراد لفت الإنتباه إلى أنّ للإرث معنىً واسعاً يشمل إرث الأموال وإرث الولاية والخلافة.

وليس لهذا التوارث أي وجه شبه مع مسألة توارث السلطنة في سلسلة الملوك والسلاطين، فإنّ التوارث هنا نتيجة للأهلية واللياقة، ولذلك فإنّه يشمل من بين أولاد الأئمّة من كانت له هذه الأهلية، ويشبه تماماً ما يريده إبراهيم (ع) من الله سبحانه لذريّته، فيقول الله له: إنّ الإمامة والولاية لا تنال الظالمين، بل هي خاصّة بالطاهرين (لا ينال عهدي الظالمين).

ويشبه أيضاً ما نقوله في الزيارات أمام قبور الشهداء في سبيل الله، ومن جملتها ما نقوله أمام قبر الإمام الحسين (ع): السلام عليك ياوارث آدم، ووارث نوح، ووارث إبراهيم، ووارث موسى وعيسى ومحمّد... فإنّ هذا الإرث في الجوانب العقائدية والأخلاقية والمعنوية والروحية.


1- مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث، وتفسير القرطبي.

2- تفسير علي بن إبراهيم، طبقاً لنقل نور الثقلين، المجلّد 4، صفحة 234.

3- سيأتي - إن شاء الله تعالى - توضيح أكثر حول المسائل المرتبطة بالظهار في ذيل الآيات المناسبة في سورة المجادلة.

4- تفسير في ظلال القرآن، المجلّد 6، صفحة 534، ذيل الآية مورد البحث.

5- روح المعاني، المجلّد 21، صفحة 131 ذيل الآية مورد البحث.

6- روح البيان، ذيل الآية مورد البحث.

7- قال المفسّرون: إنّ كلمة (ما) هنا موصولة، وهي من ناحية الإعراب مبتدأ، وخبرها محذوف، وتقدير الجملة: لكن ما تعمّدت قلوبكم فإنّكم تؤاخذون عليه.

8- وردت هذه الروايات في اُصول الكافي، وكتاب علل الشرائع. راجع تفسير نور الثقلين، المجلّد 4، صفحة 238 - 239.

9- تفسير في ظلال القرآن، ذيل الآيات مورد البحث.

10- المصدر السابق.

11- صحيح البخاري، المجلّد 6، صفحة 145 تفسير سورة الأحزاب، ومسند أحمد، الجزء 2، صفحة 334.

12- نقل هذا الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في وسائل الشيعة، الجزء 7، صفحة 551، وورد هذا المضمون بتفاوت يسير في تفسير القرطبي، وروح المعاني في ذيل الآيات مورد البحث، وورد أيضاً في صحيح البخاري، المجلّد 6، صفحة 145 تفسير سورة الأحزاب.

13- مجمع البيان، وروح المعاني، ذيل الآيات مورد البحث.

14- روح المعاني، ذيل الآيات مورد البحث.

15- بناءً على هذا، فإنّ إستدلال بعض الفقهاء بهذا التعبير على أولوية طبقات الإرث بالنسبة إلى بعضها البعض لا يبدو صحيحاً، وربّما سبّب حرف الباء في (أولى ببعض) مثل هذا الإشتباه، فظنّوا أنّ المفضّل عليهم هنا هم البعض، في حين أنّ القرآن الكريم ذكر صريحاً أنّ المفضّل عليهم هم من المؤمنين والمهاجرين.

نعم .. إنّ تعبير (اُولو الأرحام) لا يستطيع أن يشعر بمفرده أنّ المعيار هو الرحم والقرابة، وأنّ درجة القرابة كلّما قويت وإرتفعت فستكون أحقّ بالتقدّم - لاحظوا ذلك - .

16- يعتقد جمع من المفسّرين أنّ الإستثناء في جملة (إلاّ أن تفعلوا ..) إستثناء منقطع، لأنّ حكم الوصيّة غير حكم الإرث، ولكنّا نعتقد أن لا مانع من أن يكون الإستثناء هنا متّصلا، لأنّ جملة (واُولو الأرحام ...) دليل على أن الأقارب أولى من الأجانب بالنسبة إلى الأموال التي يتركها الميّت، إلاّ أن يكون قد أوصى، فإنّ الموصى له يكون حينئذ أولى من الأرحام في إطار الثلث، وهذا في الحقيقة شبيه بالإستثناءات التي وردت في آيات الإرث بصيغة (من بعد وصيّة ...).

17- أخرج هذه الأحاديث العلاّمة السيّد هاشم البحراني في تفسير البرهان، المجلّد 3، صفحة 292 - 293، ومن جملتها الحديث أعلاه، والحديث (16) من سلسلة الأحاديث هذه.