الآيات 26 - 30
﴿أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِى مَسَـكِنِهِمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَـت أَفَلاَ يَسْمَعُونَ (26) أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إلى الاَْرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَـمُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَـنُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ (30)﴾
التّفسير
يوم إنتصارنا:
كانت الآيات السابقة ممزوجة بتهديد المجرمين من الكفّار، وتقول الآية الاُولى من الآيات مورد البحث إكمالا لهذا التهديد: (أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون(1)) فهؤلاء يسيرون بين الخرائب ويرون آثار اُولئك الأقوام الذين هلكوا من قبلهم (يمشون في مساكنهم)(2).
تقع مساكن "عاد" و "ثمود" المدمّرة، ومدن "قوم لوط" الخربة في طريق هؤلاء إلى الشام، وكانت هذه المساكن مقرّاً ومركزاً للأقوام الأقوياء المنحرفين، وطالما حذّرهم الأنبياء فلم يؤثّر فيهم ذلك، وأخيراً طوى العذاب الإلهي ملفّ حياتهم، وكان المشركون يمرّون على تلك الخرائب فكأنّ لكلّ بيوت هؤلاء وقصورهم المتهدّمة مئة لسان، تصيح بهؤلاء أن يتنبّهوا، وتبيّن لهم وتحدّثهم بنتيجة الكفر والإنحطاط، لكنّهم لم يعبؤوا بها ويلتفتوا إليها، وكأنّهم فقدوا أسماعهم تماماً، ولذلك تضيف الآية في النهاية: (إنّ في ذلك لآيات أفلا يسمعون).
وتشير الآية التالية إلى أحد أهمّ النعم الإلهية التي هي أساس عمران كلّ البلدان، ووسيلة حياة كلّ الكائنات الحيّة، ليتّضح من خلالها أنّ الله سبحانه كما يمتلك القدرة على تدمير بلاد الضالّين المجرمين، فإنّه قادر على إحياء الأراضي المدمّرة والميّتة، ومنح عباده كلّ نوع من المواهب، فتقول: (أو لم يروا أنّا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون).
"الجُرُز" تعني الأرض القاحلة التي لا ينبت فيها شيء قطّ، وهي في الأصل من مادّة (جَرَزْ) على وزن (مرض) بمعنى "القطع"، فكأنّ النباتات قد اجتثّت من مثل هذه الأرض، أو أنّ الأرض نفسها قد قطعت تلك النباتات.
والطريف هنا أنّه قد عُبّر بـ: (نسوق الماء) وهو إشارة إلى طبيعة الماء توجب - بحكم ثقله - أن يكون على الأرض وفي المنخفضات، وبحكم كونه مائعاً يجب أن ينزل إلى أعماق الأرض، إلاّ أنّه عندما يصله أمرنا يفقد طبيعته، ويتحوّل إلى بخار خفيف يتحرّك إلى كلّ الجهات بهبوب النسيم.
نعم، إنّ هذه السحب السابحة في السماء بحار كبيرة من المياه العذبة تُرسل إلى الأراضي اليابسة بأمر الله ومعونة الرياح.
والواقع أنّه لولا المطر فإنّ كثيراً من الأراضي لا ترى حتّى القطرة الواحدة من الماء، وإذا إفترضنا أنّ هناك أنهاراً غزيرة المياة فانّ تلك المياه لا تصل إلى أغلب الأراضي، إلاّ أنّنا نرى أنّه ببركة هذه الرحمة الإلهيّة قد نبتت ونمت الأعشاب والغابات والأشجار الكثيرة جدّاً على قمم كثير من الجبال والوديان الوعرة والتلال المرتفعة، وهذه القدرة العجيبة للمطر على الري لا يستطيع القيام بها شيء آخر.
"زرعاً" له هنا معنى واسعاً يشمل كلّ أنواع العشب والشجر، وإن كان يستعمل أحياناً في مقابل الشجر.
ويمكن أن يكون تقديم الدوابّ والأنعام على البشر في هذه الآية لأنّ تغذية الحيوانات تعتمد على النبات، في حين أنّ البشر يتغذّى على النبات وعلى لحوم الحيوانات.
أو من جهة أنّ النبات بمجرّد نموّه يصبح غذاء للحيوانات، وتستطيع الإستفادة منه وهضمه، في حين أنّ إستفادة الإنسان من النباتات، تتأخّر حتّى تحمل الشجرة وتنضج الثمرة.
والطريف هنا أنّ جملة: (أفلا يبصرون) قد وردت في نهاية الآية مورد البحث، في حين أنّ الآية السابقة التي كانت تتحدّث عن أطلال قصور الأقوام الغابرة قد ختمت بجملة: (أفلا يسمعون).
وعلّة هذا الإختلاف هو أنّ الجميع يرون باُمّ أعينهم منظر الأراضي الميّتة وهي تحيا على أثر نزول الأمطار ونموّ نباتها وينع ثمرها، في حين أنّهم يسمعون المسائل المرتبطة بالأقوام السابقين كإخبار غالباً.
ويستفاد من مجموع الآيتين أعلاه أنّ الله تعالى يقول لهؤلاء العصاة المتمردّين: انتبهوا جيّداً، وافتحوا عيونكم وأسماعكم، فاسمعوا الحقائق، وانظروا إليها، وتفكّروا كيف أمرنا الرياح يوماً أن تحطّم قصور قوم عاد ومساكنهم وتجعلها أطلالا وآثاراً، وفي يوم آخر نأمر ذات الرياح أن تحمل السحاب الممطر إلى الأراضي الميّتة البور لتحيي تلك الأراضي وتجعلها خضراء نضرة، ألا تستسلمون وتذعنون لهذه القدرة؟!
ولمّا كانت الآيات السابقة تهدّد المجرمين بالإنتقام، وتبشّر المؤمنين بالإمامة والنصر، فإنّ الكفّار يطرحون هذا السؤال غروراً وإستكباراً وتعلّلا بأنّ هذه التهديدات متى ستتحقّق؟ كما يذكر القرآن ذلك: (ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين).
فيجيبهم القرآن مباشرةً، ويأمر النّبي (ص) أن (قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون) أي: إذا كان مرادكم أن تروا صدق الوعيد الإلهي الذي سمعتموه من النّبي لتؤمنوا، فإنّ الوقت قد فاتكم، فإذا حلّ ذلك اليوم لا ينفعكم إيمانكم فيه شيئاً.
وممّا قلنا يتّضح أنّ المراد من "يوم الفتح" يوم نزول "عذاب الإستئصال"، أي العذاب الذي يقطع دابر الكافرين، ولا يدع لهم فرصة الإيمان.
وبتعبير آخر فإنّ عذاب الإستئصال نوع من العذاب الدنيوي، لا من عذاب الآخرة، ولا من العقوبات الدنيوية المعتادة، بل هو العذاب الذي يُنهي حياة المجرمين بعد إتمام الحجّة.
والشاهد على هذا القول اُمور:
أ: إذا كان المراد العقوبات الدنيوية المعتادة، أو الإنتصارات الشبيهة بإنتصار المسلمين في معركة بدر ويوم فتح مكّة - كما قال ذلك بعض المفسّرين - فإنّ جملة: (لا ينفع الذين كفروا إيمانهم) لا تصحّ حينئذ، لأنّ الإيمان كان مفيداً حينذاك، وأبواب التوبة كانت مفتّحة يوم الإنتصار في بدر، وفي يوم فتح مكّة.
ب: إذا كان المراد من يوم الفتح يوم القيامة - كما إرتضى ذلك بعض المفسّرين - فإنّ ذلك لا يناسب جملة: (ولا هم ينظرون) لأنّ إعطاء الفرصة وعدمه يرتبط بالحياة الدنيا، إضافةً إلى أنّ "يوم الفتح" لم يستعمل بمعنى يوم القيامة في أيّ موضع من القرآن الكريم.
ج: إنّ التعبير بالفتح في مورد عذاب الإستئصال يلاحظ مراراً في القرآن، مثل الآية (118) من سورة الشعراء، حيث يقول نوح: (فافتح بيني وبينهم فتحاً ونجّني ومن معي من المؤمنين) وهو إشارة إلى عقوبة الطوفان.
وورد نظير هذا المعنى في الآية ( رقم 77) من سورة المؤمنون أيضاً.
إلاّ أنّ المراد إذا كان عذاب الإستئصال في الدنيا فإنّه يتّفق مع ما قلناه أعلاه، وينسجم مع كلّ القرائن، وهو في الواقع تهديد للكافرين والظالمين بأن لا تطلبوا تحقّق الوعد بالفتح للمؤمنين ووقوع عذاب الإستئصال على الكافرين، فإنّ طلبكم إذا تحقّق فسوف لا تجدون الفرصة للإيمان، وإذا وجدتم الفرصة وآمنتم فإنّ إيمانكم سوف لا يقبل.
وهذا المعنى خاصّة يتلاءم كثيراً مع الآيات السابقة التي تحدّثت عن هلاك الأقوام المتمردّين الطاغين الذين كانوا يعيشون في القرون الماضية، وابتلوا بالعذاب الإلهي والفناء، لأنّ كفّار مكّة إذا سمعوا الكلام الذي ورد في الآيتين السابقتين فإنّهم سيطلبون تحقّق مثل هذا الموضوع في حقّهم، إلاّ أنّ القرآن الكريم يحذّرهم بأن لا يطلبوا مثل هذا الطلب، فإنّ العذاب إذا نزل لا يبقى لهم شيء.
وأخيراً تنهي الآية الأخيرة هذه السورة - سورة السجدة - بتهديد بليغ عميق المعنى، فتقول: (فأعرض عنهم وانتظر إنّهم منتظرون).
الآن، حيث لم تؤثّر في هؤلاء البشارة ولا الإنذار، ولا هم أهل منطق وإستدلال ليعرفوا الله سبحانه بمشاهدة الآثار الإلهيّة في خفايا الخلقة فيعبدوه، وليس لهم وجدان حيّ يترنّم في أعماقهم بنغمة التوحيد فيسمعونها، فأعرض عنهم، وانتظر رحمة الله سبحانه، ولينتظروا عذابه فإنّهم لا يستحقّون سواه.
اللهمّ اجعلنا ممّن يسلّم ويؤمن عند رؤية أوّل علامات الحقّ وآياته.
اللهمّ أبعد عنّا روح الكبر والغرور والعناد ونجّنا منها.
اللهمّ عجلّ بنصر جند الإسلام على جنود الكفر والإستكبار والإستعمار.
آمين ربّ العالمين
نهاية سورة السجدة
1- فاعل (لم يهد) يفهم من جملة (كم أهلكنا من قبلهم) والتقدير: أو لم يهد لهم كثرة من أهلكنا.
2- ذكر أغلب المفسّرين في تفسير الآية ما ذكرناه أعلاه، إلاّ أنّ البعض إحتمل أن تكون جملة (يمشون) بياناً لحال المهلكين، أي أنّ اُولئك الأقوام كانوا في غفلة تامّة عن العذاب الإلهي، وكانوا يسيرون في مساكنهم ويتنّعمون بها، إذ أتاهم عذاب الله بغتةً وأهلكهم. إلاّ أنّ هذا الإحتمال يبدو بعيداً.