الآيات 15 - 20
﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَـتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـهُمْ يُنفِقُونَ (16) فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُن جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُنَ (18) أَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ فَلَهُمْ جَنَّـتُ الْمَأْوَى نُزُلاًَ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِى كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)﴾
التّفسير
جوائز عظيمة لم يطّلع عليها أحد!
إنّ طريقة القرآن هي أنّه يبيّن كثيراً من الحقائق من خلال مقارنتها مع بعضها، لتكون مفهومة ومستقرّة في القلب تماماً، وهنا أيضاً بعد الشرح والتفصيل الذي مرّ في الآيات السابقة حول المجرمين والكافرين، فإنّه يتطرّق إلى صفات المؤمنين الحقيقيين البارزة، ويبيّن اُصولهم العقائدية، وبرامجهم العملية بصورة مضغوطة ضمن آيتين بذكر ثمان صفات(1)، فيقول أوّلا: (إنّما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خرّوا سجّداً وسبحوا بحمد ربّهم وهم لا يستكبرون).
التعبير بـ (إنّما) الذي يستعمل عادةً لإفادة معنى الحصر، يبيّن أنّ كلّ من يتحدّث عن الإيمان ويتمشدق به، ولا يمتلك الخصائص والصفات التي وردت في هذه الآيات، فإنّه لا يكون في صفّ المؤمنين الواقعيين، بل هو شخص ضعيف الإيمان.
لقد بيّنت في هذه الآية أربع صفات:
1- أنّهم يسجدون بمجرّد سماعهم آيات الله، والتعبير بـ (خرّوا) بدل (سجدوا) إشارة إلى نكتة لطيفة، وهي أنّ هؤلاء المؤمنين ينجذبون إلى كلام الله لدى سماعهم آيات القرآن ويهيمون فيها بحيث يسجدون لا إرادياً(2).
نعم... إنّ أوّل خصائص هؤلاء هو العشق الملتهب، والعلاقة الحميمة بكلام محبوبهم ومعشوقهم.
لقد ذكرت هذه الصفة والخاصية في بعض آيات القرآن الاُخرى كأحد أبرز صفات الأنبياء، كما يقول الله سبحانه في شأن جمع من الأنبياء العظام: (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سجّداً وبكيّاً).(3)
وبالرغم من أنّ الآيات هنا ذكرت بصورة مطلقة، ولكن من المعلوم أنّ المراد منها غالباً الآيات التي تدعو إلى التوحيد ومحاربة الشرك.
2- 3- علامتهم الثّانية والثالثة تسبيح الله وحمده، فهم ينزّهون الله تعالى عن النقائص من جهة، ومن جهة اُخرى فإنّهم يحمدونه ويثنون عليه لصفات كمالهُ وجماله.
4- والصفة الاُخرى لهؤلاء هي التواضع وترك كلّ أنواع التكبّر، لأنّ الكبر والغرور أوّل درجات الكفر والجحود، والتواضع أمام الحقّ والحقيقة أُولى خطوات الإيمان!
إنّ الذين يسيرون في طريق الكبر والعُجب لا يسجدون لله، ولا يسبّحونه ولا يحمدونه، ولا يعترفون بحقوق عباده! إنّ لهؤلاء صنماً عظيماً، وهو أنفسهم!
ثمّ أشارت الآية الثّانية إلى أوصاف هؤلاء الاُخرى، فقالت: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)(4) فيقومون في الليل، ويتّجهون إلى ربّهم ومحبوبهم ويشرعون بمناجاته وعبادته.
نعم... إنّ هؤلاء يستيقظون ويحيون قدراً من الليل في حين أنّ عيون الغافلين تغطّ في نوم عميق، وحينما تتعطّل برامج الحياة العادية، وتقلّ المشاغل الفكرية إلى أدنى مستوى، ويعمّ الهدوء والظلام كلّ الأرجاء، ويقلّ خطر التلوّث بالرياء في العبادة، والخلاصة: عند توفّر أفضل الظروف لحضور القلب، فإنّهم يتّجهون بكلّ وجودهم إلى معبودهم، ويطأطئون رؤوسهم عند أعتاب معشوقهم، ويخبرونه بما في قلوبهم، فهم أحياء بذكره، وكؤوس قلوبهم طافحة بحبّه وعشقه.
ثمّ تضيف: (يدعون ربّهم خوفاً وطمعاً).
وهنا تذكر الآية صفتين اُخريين لهؤلاء هما: "الخوف" و "الرجاء"، فلا يأمنون غضب الله عزّوجلّ، ولا ييأسون من رحمته، والتوازن بين الخوف والرجاء هو ضمان تكاملهم وتوغّلهم في الطريق إلى الله سبحانه، والحاكم على وجودهم دائماً، لأنّ غلبة الخوف تجرّ الإنسان إلى اليأس والقنوط، وغلبة الرجاء تغري الإنسان وتجعله في غفلة، وكلاهما عدوّ للإنسان في سيره التكاملي إلى الله سبحانه.
وثامن صفاتهم، وآخرها في الآية أنّهم (وممّا رزقناهم ينفقون).
فهم لا يهبون من أموالهم للمحتاجين وحسب، بل ومن علمهم وقوّتهم وقدرتهم ورأيهم الصائب وتجاربهم ورصيدهم الفكري، فيهبون منها ما يحتاج إليه الغير.
إنّهم ينبوع من الخير والبركة، وعين فوّارة من ماء الصالحات العذب الصافي الذي يروي العطاشى، ويغني المحتاجين بحسب إستطاعتهم.
نعم... إنّ أوصاف هؤلاء مجموعة من العقيدة الرصينة الثابتة، والإيمان القويّ والعشق الملتهب لله، والعبادة والطاعة، والسعي والحركة الدؤوبة، ومعونة عباد الله في كلّ المجالات.
ثمّ تطرّقت الآية التالية إلى الثواب العظيم للمؤمنين الحقيقيين الذين يتمتّعون بالصفات المذكورة في الآيتين السابقتين، فتقول بتعبير جميل يحكي الأهميّة الفائقة لثوابهم: (فلا تعلم نفس ما اُخفي لهم من قرّة أعين جزاءً بما كانوا يعملون).
التعبير بـ (فلا تعلم نفس) وكذلك التعبير بـ (قرّة أعين) مبيّن لعظمة هذه المواهب والعطايا التي لا عدّ لها ولا حصر، خاصّة وأنّ كلمة (نفس) قد وردت بصيغة النكرة في سياق النفي، وهي تعني العموم وتشمل كلّ النفوس حتّى ملائكة الله المقرّبين وأولياء الله.
والتعبير بـ (قرّة أعين) من دون الإضافة إلى النفس، إشارة إلى أنّ هذه النعم الإلهيّة التي خصّصت كثواب وجزاء للمؤمنين المخلصين في الآخرة، في هيئة تكون معها قرّة لعيون الجميع.
(قرّة) مادّة القَرّ، أي البرودة، ومن المعروف أنّ دموع الشوق باردة دائماً، وأنّ دمع الغمّ والحسرة حارّ محرق، فالتعبير بـ (قرّة أعين) يعني في لغة العرب الشيء الذي يسبّب برودة عين الإنسان، أي أنّ دموع الشوق والفرح تجري من أعينهم، وهذه كناية لطيفة عن منتهى الفرح والسرور والسعادة.
وفي حديث عن النّبي الأكرم (ص): "إنّ الله يقول: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا اُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"(5).
وثمّة سؤال طرحه المفسّر الكبير العلاّمة "الطبرسي" في (مجمع البيان) وهو: لماذا اُخفي هذا الثواب والجزاء؟
ثمّ يذكر ثلاثة أجوبة لهذا السؤال:
1- أنّ الاُمور المهمّة والقيّمة لا يمكن إدراك حقيقتها بسهولة من خلال الألفاظ والكلام، ولذلك فإنّ إخفاءها وإبهامها يكون أحياناً أكثر تحفيزاً، وأبعث على النشاط، وهو أبلغ من ناحية الفصاحة.
2- أنّ الشيء الذي يكون قرّة للأعين، يكون عادةً مترامي الأطراف إلى الحدّ الذي لا يصل علم ابن آدم إلى جميع خصوصياته.
3- لمّا كان هذا الجزاء قد جعل لصلاة الليل المستورة، فإنّ المناسب أن يكون ثواب هذا العمل عظيماً ومخفيّاً أيضاً.
وينبغي الإلتفات إلى أنّ جملة (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) في الآية السابقة إشارة إلى صلاة الليل.
وفي حديث عن الإمام الصادق (ع): "ما من حسنة إلاّ ولها ثواب مبين في القرآن، إلاّ صلاة الليل، فإنّ الله عزّ إسمه لم يبيّن ثوابها لعظم خطرها، قال: فلا تعلم نفس ما اُخفي لهم من قرّة أعين"(6).
وبغضّ النظر عن كلّ ذلك، فإنّ عالم القيامة - وكما أشرنا إلى ذلك سابقاً - عالم أوسع من هذا العالم سعةً لا تحتمل المقارنة، فهو أوسع حتّى من الحياة الدنيا بالقياس إلى حياة الجنين في رحم الاُمّ، وأبعاد ذلك العالم لا يمكن إدراكها عادةً بالنسبة لنا نحن السجناء داخل الجدران الأربعة للدنيا، ولا يمكن تصوّره من قبل أحد.
إنّنا نسمع كلاماً عنه فقط، ونرى شبحه من بعيد، لكنّنا ما لم ندرك ولم نر ذلك العالم، فإنّ من المحال إدراك أهميّته وعظمته، كما أنّ إدراك الطفل في بطن الاُمّ لنعم هذه الدنيا - على فرض إمتلاكه العقل والإحساس الكامل - غير ممكن.
وقد ورد نفس هذا التعبير في شأن الشهداء في سبيل الله، ذلك أنّ الشهيد عندما يقع على الأرض تقول له الأرض: مرحباً بالروح الطيّبة التي خرجت من البدن الطيّب، أبشر فإنّ لك ما لا عين رأت، ولا اُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر(7).
وتبيّن الآية التالية المقارنة التي مرّت في الآيات السابقة بصيغة أكثر صراحة، فتقول: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً).
لقد وردت الجملة بصيغة الإستفهام الإنكاري، ذلك الإستفهام الذي ينبعث جوابه من عقل وفطرة كلّ إنسان بأنّ هذين الصنفين لا يستويان أبداً، وفي الوقت نفسه، وللتأكيد، فقد أوضحت الآية عدم التساوي بصورة أوضح بذكر جملة: (لا يستوون).
لقد جعل "الفاسق" في مقابل "المؤمن" في هذه الآية، وهذا دليل على أنّ للفسق مفهوماً واسعاً يشمل الكفر والذنوب الاُخرى، لأنّ هذه الكلمة أخذت في الأصل من جملة (فسقت الثمرة) إذا خرجت من قشرها، ثمّ أطلقت على الخروج على أوامر الله والعقل وعصيانها، ونعلم أنّ كلّ من كفر، أو إرتكب معصية فقد خرج على أوامر الله والعقل.
وممّا يجدر ذكره أنّ الثمرة ما دامت في قشرها فهي سالمة، وبمجرّد أن تخرج من القشر تفسد، وبناءً على هذا فإنّ فسق الفاسق كفسق الثمرة، وفساده كفسادها.
ونقل جمع من المفسّرين الكبار ففي ذيل هذه الآية أنّ "الوليد بن عقبة" قال يوماً لعلي (ع): أنا أبسط منك لساناً، وأحدّ منك سناناً! إشارة إلى أنّه - بظنّه - يفوق علياً في الفصاحة والحرب، فأجابه علي (ع): "ليس كما تقول يافاسق"، إشارة إلى أنّك أنت الذي اتّهمت بني المصطلق بوقوفهم ضدّ الإسلام في قصّة جمع الزكاة منهم، فكذّبك الله وعدّك فاسقاً في من سورة الحجرات: (ياأيّها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا...)(8).
وأضاف البعض هنا بأنّ آية: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً) نزلت بعد هذه المحاورة، لكن يبدو من ملاحظة أنّ السورة مورد البحث (سورة السجدة) نزلت في مكّة، وقصّة الوليد وبني المصطلق وقعت في المدينة، فهذا من قبيل تطبيق الآية على مصداق واضح لها.
وبناءً على ما ذهب بعض المفسّرين من أنّ الآية أعلاه والآيتين بعدها مدنية، لا يبقى إشكال من هذه الجهة، ولا مانع من أن تكون هذه الآيات الثلاث قد نزلت بعد المحاورة أعلاه.
وعلى كلّ حال، فلا بحث ولا جدال في إيمان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) العميق المتأصّل، ولا في فسق الوليد، حيث اُشير في آيات القرآن لكلا الإثنين.
وتبيّن الآية التالية عدم المساواة هذه بصورة أوسع وأكثر تفصيلا، فتقول: (أمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنّات المأوى(9)) ثمّ تضيف الآية بأنّ هذه الجنّات قد أعدّها الله تعالى لإستقبالهم في مقابل أعمالهم الصالحة: (نزلا بما كانوا يعملون).
إنّ التعبير بـ "نزلا"، والذي يقال عادةً للشيء الذي يهيّئونه لإستقبال وإكرام الضيف، إشارة لطيفة إلى أنّ المؤمنين يُستقبلون ويُخدمون دائماً كما هو حال الضيف، في حين أنّ الجهنّميين - كما سيأتي في الآية الآتية - كالسجناء الذين يأملون الخروج منها في كلّ حين، ثمّ يعادون فيها!
وما ورد في الآية (102) من سورة الكهف: (إنّا أعتدنا جهنّم للكافرين نزلا)فانّه من قبيل (فبشّرهم بعذاب أليم) وهو كناية عن أنّه يُعاقب ويعذّب هؤلاء بدل إكرامهم، ويهدّدون مكان بشارتهم.
ويعتقد البعض أنّ "النزل" أوّل شيء يستقبل به الضيف الوارد لتوّه - كالشاي والعصير في زماننا - وبناءً على هذا فإنّه إشارة لطيفة إلى أنّ جنّات المأوى بتمام نعمها وبركاتها هي أوّل ما يستقبل به ضيوف الرحمن، ثمّ تتبعها المواهب في بركات اُخرى لا يعلمها إلاّ الله سبحانه.
والتعبير بـ (لهم جنّات) لعلّه إشارة إلى أنّ الله سبحانه لا يعطيهم بساتين الجنّة عارية، بل يملّكهم إيّاها إلى الأبد، بحيث لا يعكّر هدوء فكرهم إحتمال زوال هذه النعم مطلقاً.
وتطرّقت الآية التالية إلى النقطة التي تقابل هؤلاء، فتقول: (وأمّا الذين فسقوا فمأواهم النار) فهؤلاء مخلّدون في هذا المكان المرعب بحيث أنّهم (كلّما أرادوا أن يخرجوا منها اُعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذّبون).
مرّة اُخرى نرى هنا العذاب الإلهي قد جعل في مقابل "الكفر والتكذيب"، والثواب والجزاء في مقابل "العمل"، وهذا إشارة إلى أنّ الإيمان لا يكفي لوحده، بل يجب أن يكون حافزاً وباعثاً على العمل، إلاّ أنّ الكفر كاف لوحده للعذاب، وإن لم يرافقه ويقترن به عمل.
بحث
أصحاب الليل!
ورد لجملة: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) تفسيران في الروايات الإسلامية:
أحدهما: تفسيرها بصلاة "العشاء"، وهو يشير إلى أنّ المؤمنين الحقيقيين لا ينامون بعد صلاة المغرب وقبل صلاة العشاء مخافة أن يغلب عليهم النوم فتفوتهم صلاة العشاء (لأنّ المعتاد في ذلك الزمان أنّهم كانوا يستريحون في أوّل الليل - وكانوا يفرّقون بين صلاتي المغرب والعشاء، طبقاً لإستحباب التفريق بين الصلوات الخمس، وكانوا يؤدّون كلا منهما في وقت فضيلتها) فربّما لم يستيقظوا لصلاة العشاء إذا ما ناموا بعد صلاة المغرب مباشرةً.
وقد روى هذا التّفسير ابن عبّاس عن النّبي (ص) طبقاً لنقل الدرّ المنثور، وكذلك روي في أمالي الصدوق عن الإمام الصادق (ع)(10).
وثانيهما: أنّها فسّرت بالقيام والنهوض من النوم والمضجع لأداء صلاة الليل في أغلب الرّوايات وكلمات المفسّرين:
ففي رواية عن الإمام الباقر (ع) أنّه قال لأحد أصحابه: "ألا اُخبرك بالإسلام أصله وفرعه وذروة سنامه"؟ قال: بلى، جعلت فداك، قال: "أمّا أصله فالصلاة، وفرعه الزكاة، وذروة نسامه الجهاد"!
ثمّ قال: "إن شئت أخبرتك بأبواب الخير"؟ قال: نعم جعلت فداك، قال: "الصوم جنّة، والصدقة تذهب بالخطيئة، وقيام الرجل في جوف الليل بذكر الله، ثمّ قرأ: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)(11).
وروي في (تفسير مجمع البيان) عن معاذ بن جبل، قال: بينما نحن مع رسول الله (ص) في غزوة تبوك، وقد أصابنا الحرّ فتفرّق القوم، فإذا رسول الله (ص) أقربهم منّي، فدنوت منه، فقلت: يارسول الله، أنبئني بعمل يدخلني الجنّة، ويباعدني من النار، قال: "لقد سألت عن عظيم وإنّه ليسير على من يسّره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدّي الزكاة المفروضة، وتصوم شهر رمضان".
قال: "وإن شئت أنبأتك بأبواب الخير" قال: قلت: أجل يارسول الله، قال: "الصوم جنّة، والصدقة تكفّر الخطيئة، وقيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه الله" ثمّ قرأ هذه الآية (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)(12).
وبالرغم من عدم وجود المانع من أن يكون للآية معنى واسعاً يشمل البقاء على اليقظة في أوّل الليل لصلاة العشاء، إضافةً إلى النهوض في السحر لصلاة الليل، إلاّ أنّ الدقّة في مفهوم (تتجافى) تعكس المعنى الثّاني في الذهن أكثر، لأنّ ظاهر الجملة أنّ الجنوب قد إضطجعت وهدأت في المضاجع، ثمّ تجافت وإبتعدت عنها، وهذا يناسب القيام آخر الليل لأداء الصلاة، وبناءً على هذا فإنّ المجموعة الاُولى من الروايات من قبيل شمولية المفهوم وإلغاء الخصوصية.
وبالرغم من أنّ هذه الروايات القليلة تبدو كافية حول أهميّة هذه الصلاة المباركة، إلاّ أنّ الروايات الإسلامية قد أولت هذه العبادة إهتماماً عظيماً قلّ أن تحدّثت بهذا المقدار عن عبادة اُخرى.
لقد اهتمّ أنصار الحقّ ومحبّوه وسالكو طريق الفضيلة كثيراً بهذه العبادة الخالية من الرياء، والتي تنير القلب وتصفّيه من كلّ الشوائب.
ومن الممكن أن لا يوفّق البعض إلى هذه العبادة المباركة دائماً، ولكن ما المانع من أن يسعى الفرد إلى نيل هذا التوفيق في بعض الليالي، وفي الوقت الذي يرخي الليل سدوله، وتهدأ الأصوات وتنام العيون يكون الجوّ مهيئاً لحضور القلب، يهبّ إلى مناجاة الله وينوّر قلبه بنور عشق الحبيب ومحبّته(13).
1- ينبغي الإلتفات إلى أنّ الآية الاُولى هي اُولى السجدات الواجبة في القرآن الكريم، وإذا ما تلاها أحد بتمامها، أو سمعها من آخر فيجب أن يسجد. طبعاً لا يجب فيها الوضوء، لكن يجب الإحتياط في وضع الجبهة على ما يصحّ السجود عليه.
2- يقول الراغب في المفردات: (خرّوا) في الأصل من مادّة الخرير، أي صوت الماء وأمثاله حين إنحداره من مرتفع إلى منخفض، وإستعماله هذا التعبير في شأن الساجدين إشارة إلى أنّ هؤلاء ترتفع أصواتهم بالتسبيح في لحظة هويّهم إلى الأرض للسجود.
3- سورة مريم، الآية 58.
4- "تتجافى" من مادّة "جفا"، وهي في الأصل بمعنى القطع والحمل والإبعاد، و (الجنوب) جمع جنب، وهو الجانب، و (المضاجع) جمع مضجع، وهو محل النوم، وإبعاد الجانب عن محلّ النوم كناية عن النهوض من النوم والتوجّه إلى عبادة الله في جوف الليل.
5- نقل هذا الحديث كثير من المفسّرين، ومن جملتهم الطبرسي في مجمع البيان، والآلوسي في روح المعاني، والقرطبي في تفسيره. وقد أورده المحدّثان المشهوران البخاري ومسلم في كتبهما أيضاً.
6- مجمع البيان. ذيل الآيات مورد البحث.
7- مجمع البيان، ج2 ذيل الآية (171) من آل عمران، والتّفسير الأمثل، ذيل نفس الآية.
8- أورد هذه الرواية العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان، والقرطبي في تفسيره، والفاضل البرسوئي في روح البيان. وممّا يستحقّ الإنتباه أنّنا نقرأ في كتاب (اُسد الغابة في معرفة الصحابة) أنّه لا خلاف بين المطلعين على تفسير القرآن والعالمين به في أنّ آية (إن جاءكم فاسق بنبأ) قد نزلت في حقّ الوليد بن عقبة في قصّة بني المصطلق.
9- "المأوى" من مادّة (أوى) بمعنى إنضمام شيء إلى شيء آخر، ثمّ قيلت للمكان والمسكن والمستقرّ.
10- الدرّ المنثور وأمالي الشيخ طبقاً لنقل تفسير الميزان الجزء 16 صفحة 268.
11- اُصول الكافي، الجزء 2، باب دعائم الإسلام صفحة 20 حديث 15، والمصدر السابق.
12- مجمع البيان ذيل الآيات مورد البحث، وتفسير نور الثقلين، الجزء 4، صفحة 229.
13- كان لنا بحث آخر حول أهميّة صلاة الليل وطريقتها في ذيل الآية (79) من سورة الإسراء.