الآيات 1 - 5
﴿الم (1) تَنزِيلُ الْكِتَـبِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَـلَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا آتَـهُم مِّن نَّذِير مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ شَفِيع أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الاَْمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلى الاَْرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِى يَوْم كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَة مِّمَّا تَعُدُّونَ (5)﴾
التّفسير
عظمة القرآن، والمبدأ والمعاد:
مرّة اُخرى نواجه الحروف المقطّعة (الف - لام - ميم) في هذه السورة، وهذه هي المرّة الخامسة عشرة التي نرى فيها مثل هذه الحروف في بداية السور القرآنية.
ولقد بحثنا بصورة مفصّلة في بداية سورة البقرة، وآل عمران والأعراف التفاسير المختلفة لهذه الحروف.
والبحث الذي جاء بعد هذه الحروف مباشرة حول أهميّة القرآن يبيّن مرّة اُخرى هذه الحقيقة، وهي أنّ (الم) إشارة إلى عظمة القرآن، والقدرة على إظهار عظمة الله سبحانه، وهذا الكتاب العظيم الغنيّ المحتوى، والذي هو معجزة محمّد (ص) الخالدة يتكوّن من حروف المعجم البسيطة التي يعرفها الجميع.
تقول الآية: (تنزيل الكتاب لا ريب فيه من ربّ العالمين)(1).
هذه الآية - في الواقع - جواب عن سؤالين: الأوّل عن محتوى هذا الكتاب السماوي، فتقول في الجواب: إنّ محتواه حقّ ولا مجال لأدنى شكّ فيه.
والسؤال الثّاني يدور حول مبدع هذا الكتاب، وفي الجواب تقول: إنّ هذا الكتاب من قبل ربّ العالمين.
ويحتمل في التّفسير أيضاً أنّ جملة (من ربّ العالمين) جاءت دليلا وبرهاناً لجملة (لا ريب فيه)، فكأنّ سائلا يسأل: ما هو الدليل على أنّ هذا الكتاب حقّ، ولا مجال للشكّ فيه؟ فتقول: الدليل هو أنّه من ربّ العالمين الذي يصدر منه كلّ حقّ وحقيقة.
ثمّ إنّ التأكيد على صفة (ربّ العالمين) من بين صفات الله سبحانه قد يكون إشارة إلى أنّ هذا الكتاب مجموعة من عجائب عالم الخلقة، وعصارة حقائق عالم الوجود، لأنّه من ربّ العالمين.
وينبغي الإلتفات أيضاً إلى أنّ القرآن لا يريد هنا الإكتفاء بالإدّعاء الصرف، بل يريد أن يقول: إنّ الشيء الظاهر للعيان لا يحتاج إلى البيان، فإنّ محتوى هذا الكتاب شاهد بنفسه على صحّته وأحقّيته.
ثمّ يشير إلى التهمة التي طالما وجهها المشركون والمنافقون إلى هذا الكتاب السماوي العظيم حيث قالوا: إنّ هذا الكتاب من تأليف محمّد.
وقد ادّعى كذباً بأنّه من الله: (أم يقولون افتراه)(2) فيقول جواباً على ادّعاء هؤلاء الزائف: (بل هو الحقّ من ربّك) وأدلّة أحقّيته واضحة وبيّنة فيه من خلال آياته.
ثمّ يتطرّق إلى الهدف من نزوله، فيقول: (لتنذر قوماً ما آتاهم من نذير من قبلك).
فبالرغم من أنّ دعوة النّبي الأكرم (ص) مبشّرة ومنذرة، وأنّه بشير قبل أن يكون نذيراً، إلاّ أنّه يجب التأكيد على الإنذار أكثر مع القوم الضالّين المعاندين.
وجملة (لعلّهم يهتدون) إشارة إلى أنّ القرآن يهيّء أرضية الهداية، إلاّ أنّ التصميم وإتّخاذ القرار النهائي موكول ومرتبط بنفس الإنسان.
وهنا يطرح سؤالان:
1- من هم هؤلاء القوم الذين لم يأتهم أي نذير قبل النّبي (ص)؟
2- ألم يقل القرآن الكريم: (وإنّ من اُمّة إلاّ خلا فيها نذير).(3)
قال جمع من المفسّرين في جواب السؤال الأوّل: المراد قبيلة قريش التي لم يكن لها نذير قبل نبيّ الإسلام.
وقال البعض الآخر: المراد مرحلة الفترة والفاصلة الزمنية بين نبوّة عيسى (ع)وظهور نبي الإسلام (ص).
إلاّ أنّ أيّاً من هذين الجوابين لا يبدو صحيحاً، لأنّ الأرض لا تبقى خالية من حجّة الله مطلقاً، وفي كلّ عصر وزمان لابدّ من وجود نبي أو وصي نبيّ لإتمام الحجّة.
بناءً على هذا، يبدو أنّ المراد من "النذير" هنا النّبي الكبير الذي يوضّح ويبيّن دعوته مقرونة بالمعجزات وفي محيط واسع، ومعلوم أنّ مثل هذا النذير لم يقم في الجزيرة العربية وبين قبائل مكّة.
وفي الإجابة عن السؤال الثّاني ينبغي أن يقال: إنّ معنى جملة: (وإنّ من اُمّة إلاّ خلا فيها نذير) هو أنّ كلّ اُمّة كان لها نذير، إلاّ أنّه لا يلزم حضوره بنفسه في كلّ مكان، بل يكفي أن يصل صوت دعوة أنبياء الله العظام بواسطة أوصيائهم إلى أسماع كلّ البشر في العالم.
وهذا يشبه قولنا: إنّ كلّ اُمّة كان لها نبي من اُولي العزم، ولها كتاب سماوي، فمعنى هذا الكلام أنّ صوت هذا النّبي وكتابه السماوي قد وصل عن طريق وكلائه وأوصيائه لكلّ تلك الاُمّة على طول التاريخ.
بعد بيان عظمة القرآن ورسالة النّبي (ص) تطرّقت الآية التالية إلى أساس آخر من أهم اُسس ودعائم العقائد الإسلامية، فتقول: (الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستّة أيّام)(4).
وقلنا مراراً: إنّ المراد من (ستّة أيّام) في هذه الآيات: ستّ مراحل، لأنّ أحد معاني اليوم في المحادثات اليومية: المرحلة، كما نقول: كان النظام المستبدّ يحكمنا بالأمس، واليوم يحكمنا نظام الشورى، في حين أنّ الحكومات المستبدّة كانت تحكم آلاف السنين، إلاّ أنّهم يعبّرون عن تلك المرحلة باليوم.
ومن جهة اُخرى، فقد مرّت فترات ومراحل مختلفة على السماء والأرض:
- فيوماً كانت كلّ كواكب المنظومة الشمسية كتلة واحدة مذابة.
- وفي يوم آخر إنفصلت السيارات عن الشمس وبدأت تدور حولها.
- وفي يوم كانت الأرض كتلة نار ملتهبة.
- وفي يوم آخر أصحبت باردة وجاهزة لحياة النباتات والحيوانات، ثمّ وجدت الكائنات الحيّة عبر مراحل مختلفة.
وقد أوردنا شرحاً مفصّلا لهذا المعنى والمراحل الستّ بصورة مفصّلة في ذيل الآية ( رقم 54) من سورة الأعراف.
ومن البديهي أنّ قدرة الله اللامتناهية كافية لإيجاد كلّ هذا العالم في لحظة، بل وفي أقلّ منها، إلاّ أنّ هذا النظام التدريجي يبيّن عظمة الله وعلمه وتدبيره في جميع المراحل بصورة أفضل.
فمثلا: إذا طوى الجنين في لحظة واحدة كلّ مراحل تكامله وولد، فإنّ عجائبه ستبقى بعيدة عن نظر الإنسان، أمّا عندما نراه يطوي في كلّ يوم واسبوع - طوال هذه التسعة أشهر - أشكالا عجيبة جديدة، فسنتعرّف أكثر على عظمة الله سبحانه.
وبعد مسألة الخلق تتطرّق الآية إلى مسألة حاكمية الله سبحانه على عالم الوجود، فتقول: إنّ الله تعالى بعد ذلك استوى على عرش قدرته وسيطر على جميع الكائنات: (ثمّ استوى على العرش).
كلمة (العرش) كما قلنا سابقاً، تعني في الأصل الكراسي الطويلة القوائم، وتأتي عادة كناية عن القدرة، كما نقول في تعبيراتنا اليومية: تكسّرت قوائم عرش فلان، أي إنّ قدرته وحكومته قد زالت.
بناءً على هذا، فإنّ إستواء الله على العرش لا يراد منه المعنى الجسمي بأن يكون لله عرش كالملوك يجلس عليه، بل بمعنى أنّه خالق عالم الوجود، وكذلك الحاكم على كلّ العالم(5).
وتكمّل الآية مراحل التوحيد بالإشارة إلى توحيد "الولاية" و "الشفاعة"، فتقول: (ما لكم من دونه من وليّ ولا شفيع).
فمع هذا الدليل الواضح، بأنّ كونه سبحانه خالقاً دليل على كونه حاكماً، والحاكميّة دليل على توحيد الولي والشفيع والمعبود، فلماذا تنحرفون وتضلّون وتتمسّكون بالأصنام؟ (أفلا تتذكّرون)!
في الحقيقة، إنّ المراحل الثلاث للتوحيد التي إنعكست في الآية أعلاه يعتبر كلّ منها دليلا على الاُخرى، فتوحيد الخالقية دليل على توحيد الحاكمية، وتوحيد الحاكمية دليل على توحيد الوليّ والشفيع والمعبود.
وهنا طرح بعض المفسّرين سؤال، وهو أنّ الجملة الأخيرة تقول: ما لكم من دون الله من وليّ ولا شفيع، ومعناها أنّ وليّكم وشفيعكم الوحيد هو الله سبحانه وحده، فهل من الممكن أن يشفع أحد عنده؟
ويمكن الإجابة على هذا السؤال من ثلاثة جوانب:
1- بملاحظة أنّ جميع الشفعاء لا يشفعون إلاّ بإذنه تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه)(6)، يمكن القول بأنّ الشفاعة بالرغم من كونها من قبل الأنبياء وأولياء الله، إلاّ أنّها تعود إلى الله سبحانه، سواء كانت الشفاعة لغفران الذنوب والعفو عن العاصين، أم للوصول إلى النعم الإلهيّة، والشاهد على هذا الكلام الآية التي وردت في بداية سورة "يونس" بمضمون هذه الآية تماماً، حيث تقول: (يدبّر الأمر ما من شفيع إلاّ من بعد إذنه).(7)
2- إنّنا عند التوسّل بالله نتوسّل بصفاته، فنستمدّ من رحمته ورحمانيّته، من كونه غفّاراً غفوراً، ومن فضله وكرمه، فكأنّنا قد جعلناه شفيعاً إلى نفسه، ونعتبر هذه الصفات واسطة بينها وبين ذاته المقدّسة، وإن كانت صفاته عين ذاته في
الحقيقة، وهذا هو نفس الشيء الذي جاء في دعاء كميل في عبارة علي (ع) العميقة المعنى: "واستشفع بك إلى نفسك".
3- المراد من "الشفيع" هنا: الناصر والمعين، ونحن نعلم أنّ الناصر والوليّ والمعين هو الله وحده، وما قيل من أنّ الشفاعة هنا بمعنى الخلق وتكميل النفوس يعود في الحقيقة إلى نفس هذا المعنى.
وتشير الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث إلى توحيد الله سبحانه في البداية، ثمّ إلى مسألة "المعاد"، وبهذا تكمل هنا فروع وأركان التوحيد الثلاثة التي اتّضحت في الآيات السابقة - (توحيد الخالقية والحاكمية والعبودية) - بذكر توحيد الربوبية، أي تدبير عالم الوجود من قبل الله سبحانه فقط، فتقول: إنّ الله يدبّر اُمور العالم من مقام القرب منه إلى الأرض: (يدبّر الأمر من السماء إلى الأرض).
وبتعبير آخر، فإنّ الله سبحانه قد جعل عالم الوجود من السماء إلى الأرض تحت أمره وتدبيره، ولا يوجد مدبّر سواه في هذا العالم(8).
ثمّ تضيف: (ثمّ يعرج إليه في يوم كان مقداره الف سنة ممّا تعدّون) والمراد من هذا اليوم يوم القيامة.
وتوضيح ذلك: أنّ المفسّرين قد تحدّثوا كثيراً في تفسير هذه الآية، واحتملوا إحتمالات عديدة مختلفة:
1- فاعتبرها بعضهم إشارة إلى قوس الصعود والنّزول لتدبير العالم في هذه الدنيا.
2- وذهب آخرون إلى أنّها إشارة إلى ملائكة الله الذين يطوون المسافة بين السماء والأرض في خمسمائة سنة، ويرجعون بهذه المدّة أيضاً، وهو مشغولون بتدبير هذا العالم بأمر الله سبحانه.
3- ويعتبرها البعض الآخر إشارة إلى مراحل التدبير الإلهي في هذا العالم، ويعتقدون أنّ مراحل التدبير الإلهي في هذا العالم كلّ ألف سنة، ويأمر الله سبحانه ملائكته بتدبير أمر السماء والأرض في كلّ الف سنة، وبعد إنتهاء مرحلة الألف سنة هذه تبدأ مرحلة اُخرى.
إنّ هذه التفاسير علاوة على أنّها تطرح مطالب غامضة ومبهمة، فإنّها لا تمتلك قرينة وشاهداً من نفس الآية أو من آيات القرآن الاُخرى.
وفي إعتقادنا أنّ المراد من الآية - بقرينة آيات اُخرى من القرآن، وكذلك الروايات الواردة في تفسير الآية - شيء آخر، وهو أنّ الله سبحانه خلق هذا العالم، ونظّم ودبّر السماء والأرض بتدبير خاصّ، وألبس البشر والموجودات الحيّة الاُخرى لباس الحياة، إلاّ أنّه يطوى هذا التدبير في نهاية العالم، فتظلم الشمس، وتفقد النجوم أشعّتها، وبتعبير القرآن ستطوى السماوات حتّى ترجع إلى حالتها قبل توسّع هذا العالم (يوم نطوي السماء كطيّ السجّل للكتب كما بدأنا أوّل خلق نعيده)(9)، وبعد طيّ هذا العالم سيبدأ إبداع برنامج ومشروع عالمي جديد أوسع، أي سيبدأ عالم آخر بعد إنتهاء هذه الدنيا.
وهذا المعنى قد ورد في آيات القرآن الاُخرى، ومن جملتها الآية (156) من سورة البقرة: (إنّا لله وإنّا إليه راجعون).
وجاء في الآية ( رقم 27) من سورة الروم: (وهو الذي يبدأ الخلق ثمّ يعيده وهو أهون عليه).
ونقرأ في الآية ( رقم 34) من سورة يونس: (قل الله يبدأ الخلق ثمّ يعيده فأنّى تؤفكون).
بملاحظة هذه التعبيرات، والتعبيرات الاُخرى التي تقول: (وإليه يرجع الأمر كلّه)(10)، يتّضح أنّ الآية مورد البحث تتحدّث أيضاً عن بداية ونهاية العالم وقيام يوم القيامة، والذي يعبّرون عنه أحياناً بـ "قوس النّزول" و "قوس الصعود".
بناءً على هذا فإنّ معنى الآية يصبح: إنّ الله سبحانه يدبّر أمر هذا العالم من السماء إلى الأرض - يبدأ من السماء وينتهي بالأرض - ثمّ يعود كلّ ذلك إليه في يوم القيامة.
ونطالع في تفسير علي بن إبراهيم في ذيل هذه الآية: يعني الاُمور التي يدبّرها، والأمر والنهي الذي أمر به، وأعمال العباد، كلّ هذا يظهر يوم القيامة فيكون مقدار ذلك اليوم ألف سنة من سنيّ الدنيا.
وهنا سؤال، وهو: إنّنا نرى في من سورة المعارج في شأن طول يوم القيامة: (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين الف سنة) فكيف يمكن الجمع بين الآية مورد البحث، والتي عيّنت مقداره بألف سنة فقط، وآية سورة المعارج؟!
وقد ورد الجواب عن هذا السؤال في حديث عن الإمام الصادق (ع) روي في (أمالي الشيخ الطوسي) أنّه قال: "إنّ في القيامة خمسين موقفاً، كلّ موقف مثل الف سنة ممّا تعدّون، ثمّ تلا هذه الآية: في يوم كان مقداره خمسين الف سنة"(11).
ومن الطبيعي أنّ هذه التعبيرات لا تنافي عدم كون المراد من عدد الألف والخمسين ألفاً، العدد والحساب هنا، بل كلّ منهما لبيان الكثرة والزيادة، أي إنّ في القيامة خمسين موقفاً يجب أن يتوقّف الإنسان في كلّ موقف مدّة طويلة جدّاً.
بحث
إساءة الإستفادة من آية (يدبّر الأمر)
لقد اتّخذ بعض أتباع المذاهب المصطنعة المبتدعة(12) الآية أعلاه وسيلة ودليلا لتوجيه مسلكهم ومذهبهم، وأرادوا أن يطبّقوا هذه الآية على مرادهم بإرتكاب المغالطات والإشتباهات وادّعوا أنّ المراد من "الأمر" في الآية: الدين والمذهب، و "التدبير": يعني إرسال الدين، و "العروج": يعني رفع ونسخ الدين! وإستناداً إلى هذا فإنّ كلّ مذهب أو دين لا يمكنه أن يعمّر أكثر من الف سنة، ويجب أن يترك مكانه لدين آخر، وبهذا فإنّهم يقولون: إنّنا نقبل القرآن، لكن، وإستناداً إلى نفس هذا القرآن فإنّ ديناً آخر سيأتي بعد مرور الف سنة!
والآن نريد أن نبحث ونحلّل الآية المذكورة بحثاً محايداً، لنرى هل يوجد فيها إرتباط بما يدّعيه هؤلاء، أم لا؟ ونغضّ النظر عن أنّ هذا المعنى بعيد عن مفهوم الآية إلى الحدّ الذي لا يخطر على ذهن أيّ قاريء خالي الذهن.
إنّنا نرى - بعد الدقّة - أنّ ما يقولونه لا ينسجم مع مفهوم الآية، بل إنّه مشكل بصورة واضحة من جهات كثيرة:
1- إنّ تفسير كلمة "الأمر" بالدين لا دليل عليه، بل تنفي آيات القرآن الاُخرى ذلك، لأنّ كلمة الأمر قد إستعملت في آيات اُخرى بمعنى أمر الخلق، مثل (إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون).(13)
وقد إستعملت كلمة الأمر في هذه الآية، وآيات اُخرى مثل: الآية 50(سورة القمر، الآية ( رقم 27) من سورة المؤمنون، الآية ( رقم 54) من سورة الأعراف، (-32) من سورة إبراهيم، (-12) من سورة النحل، (-25) من سورة الروم، (-12) من سورة الجاثية، بمعنى الأمر التكويني، لا بمعنى تشريع الدين والمذهب.
وأساساً فإنّ كلّ مورد يأتي الكلام فيه عن السماء والأرض، والخلق والخلقة وأمثال ذلك، فإنّ "الأمر" يأتي بهذا المعنى (فتأمّل).
2- كلمة "التدبير" تستعمل أيضاً في مورد الخلقة والخلق وتنظيم وضع عالم الوجود، لا بمعنى إنزال الدين والشريعة، ولذلك نرى في آيات القرآن الاُخرى - والآيات يفسّر بعضها بعضاً - أنّ هذه الكلمة لم تستعمل مطلقاً في مورد الدين والمذهب، بل إستعملت كلمة "التشريع" أو "التنزيل" أو "الإنزال":
- (شرّع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً).(14)
- (ومن لم يحكم بما أنزل الله فاُولئك هم الكافرون).(15)
- (نزّل عليك الكتاب بالحقّ مصدّقاً لما بين يديه).(16)
3- إنّ الآيات التي قبل وبعد هذه الآية مرتبطة بالخلقة وخلق العالم، ولا ترتبط بتشريع الأديان، لأنّ الكلام في الآية السابقة كان عن خلق السماء والأرض في ستّة أيّام - وبعبارة اُخرى ستّ مراحل - والكلام في الآية التالية عن خلق الإنسان.
ولا يخفى أنّ تناسب وإنسجام الآيات يوجب أن تكون هذه الآية المتوسّطة لآيات الخلقة مرتبطة بمسألة الخلقة وتدبير أمر الخلق، ولهذا فإنّنا إذا طالعنا كتب التّفسير التي كتبت قبل مئات السنين فإنّنا لا نجد أحداً قد إحتمل أن تكون الآية متعلّقة بتشريع الأديان، بالرغم من أنّهم احتملوا إحتمالات مختلفة، فمثلا: مؤلّف تفسير "مجمع البيان" - وهو من أشهر التفاسير الإسلامية، ومؤلّفه عاش في القرن السادس الهجري - لم ينقل عن أحد علماء الإسلام قولا يدّعي فيه أنّ الآية ترتبط بتشريع الأديان، مع أنّه ذكر أقوالا مختلفة في تفسير الآية أعلاه.
4- إنّ كلمة "العروج"، تعني الصعود والإرتفاع، لا نسخ الأديان وزوالها، ولا يلاحظ العروج في أي موضع من القرآن بمعنى النسخ - وهذه الكلمة قد ذكرت في خمس آيات من القرآن، ولا تؤدّي هذا المعنى في أيّ منها - بل تستعمل كلمة النسخ أو التبديل وأمثالهما في مورد الأديان.
إنّ الأديان والكتب السماوية في الأساس ليست كأرواح البشر تعرج إلى السماء مع الملائكة بعد إنتهاء العمر، بل إنّ الأديان المنسوخة، موجودة في الأرض، إلاّ أنّها تسقط عن الإعتبار في بعض مسائلها، في حين أنّ اُصولها تبقى على قوّتها.
والخلاصة: فإنّ كلمة العروج علاوة على أنّها لم تستعمل في أيّ موضع من القرآن بمعنى نسخ الأديان، فهي لا تتناسب مع مفهوم نسخ الأديان، لأنّ الأديان المنسوخة لا تعرج إلى السماء.
5- إضافةً إلى كلّ ما مرّ فإنّ هذا المعنى لا ينطبق على الواقع الحقيقي العيني، لأنّ الفاصلة بين الأديان السابقة لم تكن ألف سنة في أيّ مورد!
فمثلا: الفاصلة بين ظهور موسى والمسيح (ع) أكثر من (1500) سنة، والفاصلة بين المسيح (ع) وظهور نبي الإسلام العظيم (ص) أقلّ من (600) سنة، وكما تلاحظون فإنّ أيّاً من هذين الموردين لا ينطبق على الألف سنة التي يقول بها هؤلاء، بل إنّ الفاصلة بين الواقع وما يدّعون كبيرة.
وذكروا أنّ الفترة الزمنية بين ظهور نوح (ع) الذي كان من أنبياء اُولي العزم، وواضع دعائم الدين والشريعة الخاصّة، وبين محطّم الأصنام الصنديد إبراهيم (ع)الذي كان نبيّاً آخر من ذوي الشرائع أكثر من (1600) سنة، والفترة بين إبراهيم وموسى (ع) أقلّ من (500) سنة.
من هذا الموضوع نخلص إلى هذه النتيجة، وهي أنّه لم تكن هناك فترة ولا فاصلة، ولو من باب المثال، بين أحد الأديان والمذاهب وبين الدين الذي يليه بمقدار ألف سنة.
6- وإذا غضضنا النظر عن كلّ ما مرّ، فإنّ بدعة "السيّد علي محمّد باب" والتي تحمل أتباعه لأجل الدفاع عنها كلّ هذه التوجيهات الباطلة لا تتناسب مع هذا الحساب، لأنّه بإعترافهم ولد سنة 1325هجري، وكان بدء دعوته سنة 1260 هجري قمري، وبملاحظة أنّ بداية دعوة الرّسول الأكرم (ص) التي كانت بثلاثة عشر عاماً قبل الهجرة، فإنّ الفاصلة بين الإثنين تكون (1273) أي بإضافة (273) فماذا نصنع بهذا الفارق الكبير؟ وبأيّة خطّة سنتجاهله؟
7- ولو تركنا جانباً كلّ هذه الإيرادات الستّة، وصرفنا النظر عن هذه الردود الواضحة، وجعلنا أنفسنا مكان القرآن، وأردنا أن نقول للبشرية: كونوا بإنتظار نبيّ جديد بعد مرور ألف سنة، فهل هذا يصحّ طرح هذا المفهوم بالشكل الذي ذكرته الآية، حتّى لا ينتبه ويطّلع أحد من العلماء وغير العلماء أدنى إطّلاع على معنى الآية على مدى الإثني أو الثلاثة عشر قرناً، ثمّ يأتي جماعة بعد مرور (1273) عام ليدّعوا أنّهم اكتشفوا إكتشافاً جديداً، وأزاحوا الغطاء عنه، وهو مع ذلك لا يتجاوز إطار قبولهم أنفسهم لا قبول الآخرين؟!
ألم يكن الأحسن والأكثر حكمة وعقلا أن يقال مكان هذه الجملة: اُبشّركم بأنّ نبيّاً بهذا الإسم سيظهر بعد ألف سنة، كما قال عيسى (ع) في شأن نبي الإسلام (ص): (ومبشّراً برسول يأتي من بعدي إسمه أحمد).(17)
وعلى كلّ حال، فهذه المسألة قد لا تستحقّ بحثاً بهذا المقدار إلاّ أنّه لتنبيه وإيقاظ جيل الشباب المسلم، وإطلاعهم على المكائد التي هيّأها الإستعمار العالمي، والمسالك والمذاهب التي إبتدعها لتضعيف جبهة الإسلام، لم يكن لنا سبيل إلاّ أن يعلموا ويطّلعوا على جانب من منطق هؤلاء، وعليهم الباقى.
1- "تنزيل الكتاب" خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هذا) وجملة (لا ريب فيه) صفته، و (من ربّ العالمين) صفة اُخرى. وإحتمل البعض أن تكون الجمل الثلاث أخباراً متعاقبة. إلاّ أنّ المعنى الأوّل أنسب. وعلى كلّ حال فإنّ (تنزيل) مصدر جاء بمعنى اسم المعفول، وإضافته إلى الكتاب من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف. ويحتمل أيضاً أن يكون المصدر بمعناه الأصلي ويؤدّي معنى المبالغة.
2- "أم" هنا بمعنى "بل"، وإحتمل البعض أنّ في الجملة تقديراً، وكانت في الأصل: أيعترفون به أم يقولون إفتراه - تفسير "الفخر الرازي وأبي الفتوح -" إلاّ أنّ هذا الإحتمال يبدو بعيداً.
3- فاطر، 24.
4- لفظ الجلالة في هذه الجملة مبتدأ، و (الذي) خبره. وإحتملت في تركيب هذه الجملة إحتمالات اُخرى، من جملتها، أنّ لفظ الجلالة خبر لمبتدأ محذوف، أو أنّ لفظ الجلالة مبتدأ وخبره (ما لكم من دونه من ولي) إلاّ أنّ هذين الإحتمالين لا يبدوان مناسبين بتلك الدرجة.
5- لمزيد التوضيح حول هذا الكلام راجع ذيل الآية (54) من سورة الأعراف.
6- البقرة، 255.
7- يونس، 3.
8- طبقاً للتعبير الأوّل فإنّ "السماء" بمعنى مقام القرب من الله، وطبقاً للتعبير الثّاني فإنّ "السماء" تعني نفس هذه السماء - تأمّلوا ذلك - .
9- الأنبياء، 104.
10- سورة هود، 123.
11- تفسير نور الثقلين، ج4، ص221، وتفسير الصافي ذيل الآية مورد البحث.
12- "البهائية والبابية".
13- سورة يس، 82.
14- الشورى، 13.
15- المائدة، 44.
16- آل عمران، 3.
17- سورة الصف، 6.