الآيتان 31 - 32

﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ ءَايَـتِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَـت لِّكُلِّ صَبَّار شَكُور (31) وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعُوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّـهُمْ إلى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَـتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّار كَفُور (32)﴾

التّفسير

في دوّامة البلاء!

يدور البحث والحديث في هاتين الآيتين أيضاً عن نعم الله سبحانه، وأدلّة التوحيد في الآفاق والأنفس، فالحديث في الآية الاُولى عن دليل النظام، وفي الآية الثّانية عن التوحيد الفطري، وهما في المجموع تكمّلان البحوث التي وردت في الآيات السابقة.

تقول الآية الاُولى: (ألم تر أنّ الفلك تجري في البحر بنعمة الله(1) ليريكم من آياته إنّ في ذلك لآيات لكلّ صبّار شكور).

لا شكّ أنّ حركة السفن على سطح المحيطات تتمّ بمجموعة من قوانين الخلقة:

- فحركة الرياح المنتظمة من جهة.

- والوزن الخاص للخشب أو المواد التي تصنع منها تلك السفينة من جانب آخر.

- ومستوى كثافة الماء من جانب ثالث.

- ومقدار ضغط الماء على الأجسام التي تسبح فيه من جهة رابعة.

وحينما يحدث إختلال في واحد من هذه الاُمور فإنّ السفينة إمّا أن تغرق وتنزل إلى قعر البحر، أو تنقلب، أو تبقى حائرة لا تهتدي إلى سبيل نجاتها في وسط البحر.

غير أنّ الله جلّ وعلا الذي أراد أن يجعل البحار الواسعة أفضل السبل وأهمّها لسفر البشر، ونقل المواد التي يحتاجونها من نقطة إلى اُخرى، قد هيّأ ويسّر هذه الشروط والظروف، وكلّ منها نعمة من نعمه تعالى.

إنّ عظمة قدرة الله سبحانه في ميدان المحيطات، وصغر الإنسان مقابلها، تبلغ حدّاً بحيث إنّ كلّ البشر في العالم القديم - الذي كانت السفن تعتمد على الرياح في حركتها - لو إجتمعوا ليحرّكوا سفينة وسط البحر عكس إتّجاه ريح عاصف قويّة لما استطاعوا.

واليوم أيضاً، حيث حلّت المولِّدات والمكائن العظيمة محلّ الهواء، فإنّ هبوب العواصف قد يبلغ من الشدّة أحياناً بحيث يحرّك ويهزّ أعظم السفن، وقد يحطّمها أحياناً.

والتأكيد الذي ورد في نهاية الآية على أوصاف (صبّار) و (شكور) إمّا أن يكون من باب أنّ الحياة الدنيا مجموعة من البلاء والنعمة، وكلاهما طريق ومحلّ للإختبار، حيث إنّ الصمود والتحمّل أمام الحوادث الصعبة، والشكر على النعم يشكّلان مجمل ما يجب على الإنسان، ولذا نقل كثير من المفسّرين عن الرّسول الأكرم (ص): "الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر"(2).

أو أن يكون إشارة إلى لزوم وجود هدف لأجل إدراك آيات الله العظيمة في ميدان الخلقة، وهذا الهدف هو شكر المنعم المقترن بالصبر والتحمّل من أجل دقّة وتفحّص أكبر.

وبعد بيان نعمة حركة السفن في البحار، والتي كانت ولا تزال أكبر وأنفع وسائل حمل ونقل البضائع والبشر، أشارت هذه الآية إلى صورة اُخرى لهذه المسألة، فقالت: (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين).

"الظللّ" جمع ظُلّة، وقد ذكر المفسّرون لها عدّة معان:

- فيقول الراغب في مفرداته: الظلّة سحابة تظلّ، وأكثر ما تقال لما يستوخم ويكره.

- والبعض إعتبرها بمعنى المظلّة الكبيرة، من مادّة الظلّ.

- والبعض إعتبرها بمعنى الجبل.

وبالرغم من أنّ هذه المعاني - من حيث تعلّقها بالآية مورد البحث - لا تختلف كثيراً عن بعضها، إلاّ أنّه بملاحظة أنّ هذه الكلمة قد وردت مراراً في القرآن بمعنى السحاب الذي يظلّ، وبملاحظة أنّ تعبير (غشيهم) يناسب معنى السحاب أكثر، فيبدو أنّ هذا التّفسير هو الأقرب.

أي إنّ أمواج البحر العظيمة تهيج فتحيط بهم كأنّ سحاباً قد أظلّهم بظلّ مرعب مهول.

هنا يجد الإنسان نفسه ضعيفاً وعاجزاً رغم كلّ تلك القوى والإمكانيات الظاهرية التي أعدّها لنفسه، ويجد يده قاصرة عن كلّ شيء ومكان، وتقف كلّ الوسائل العادية والماديّة عن العمل، ولا يبقى له أي بصيص أمل إلاّ النور الذي يشعّ من أعماق روحه وفطرته، فيزيح عن قلبه حجب الغفلة، ويقول له: هل يوجد أحد يستطيع إنقاذك؟

نعم، إنّه الذي تطيع أوامره أمواج البحر... انّه خالق الماء والهواء والتراب.

هنا يحيط التوحيد الخالص بكلّ قلبه ويغمره، ويعتقد بأنّ الدين والعبادة مختّصة به سبحانه.

ثمّ تضيف الآية إنّ الله سبحانه لمّا نجّاهم من الهلكة إنقسم الناس قسمين: (فلمّا نجّاهم إلى البرّ فمنهم مقتصد)(3).

وهؤلاء وفوا بعهدهم ولم ينقضوه، ولم ينسوا منّة الله عليهم في تلك اللحظات الحسّاسة.

أمّا القسم الثّاني فإنّهم نسوا كلّ ذلك، واستولى جيش الشرك والكفر على معسكر قلوبهم.

وإعتبر بعض المفسّرين الآية أعلاه إشارة إلى إسلام "عكرمة بن أبي جهل"، إذ أنّ النّبي (ص) عفا عن جميع الناس عند فتح مكّة غير أربعة نفر أحدهم عكرمة بن أبي جهل، إذ أهدر دمهم، وأمر بقتلهم حيثما وجدوا، لأنّهم لم يتركوا أيّ سيّئة أو جريمة ضدّ الإسلام والمسلمين إلاّ عملوها، ولذلك إضطرّ عكرمة إلى الفرار من مكّة، فتوجّه إلى البحر الأحمر وركب السفينة، فأخذت بأطرافه ريح عاصف، فقال بعض أهل السفينة لبعضهم الآخر: تعالوا نترك الأصنام ونتضرّع إلى الله وحده ونسأله لطفه، فإنّ آلهتنا هذه لا تنفع شيئاً!

فقال عكرمة: إذا لم ينقذنا غير توحيدنا في البحر، فلن ينقذنا في البرّ سواه أيضاً، اللهمّ إنّ اُعطيك عهداً - إذا نجّيتني من هذه المحنة - لآتينّ محمّداً (ص)واُبايعه، فإنّي أعلم أنّه كريم عفوّ.

وأخيراً نجا، وأتى إلى النّبي (ص)(4).

وقد ورد في التواريخ الإسلامية أنّ عكرمة قد أصبح في صفّ المسلمين الحقيقيين، وإستشهد في معركة اليوموك أو أجنادين.

وتضيف الآية في النهاية (وما يجحد بآياتنا إلاّ كلّ ختّار كفور).

(ختّار) من الختر، بمعنى نقض العهد، وهذه الكلمة صيغة مبالغة، لأنّ المشركين والعاصين يتوجّهون إلى الله مراراً، ويقطعون على أنفسهم العهود، وينذرون النذور، إلاّ أنّهم بمجرّد أن يهدأ طوفان الحوادث ينقضون عهودهم بصورة متلاحقة، ويكفرون بنعم الله عليهم.

إنّ تعبير "ختّار" و "كفور" الذي ورد في نهاية هذه الآية، هو في الحقيقة مقابل تعبير "صبّار" و "شكور" الذي ورد في نهاية الآية السابقة - فالكفران في مقابل الشكر، ونقض العهد في مقابل الصبر والثبات على العهد - لأنّ الوفاء بالعهد لا يتمّ إلاّ من قبل الثابتين الصامدين... اُولئك الذين إذا توهّج الإيمان الفطري في أعماق أرواحهم فلا يدعون هذا النور الإلهي ينطفيء مرّة اُخرى وتتكاثف عليه الحجب.


1- "الباء" في (بنعمة الله) يمكن أن تكون باء السببية، أو باء المصاحبة، إلاّ أنّ الإحتمال الأوّل هو الأنسب.

2- تفسير مجمع البيان، والقرطبي، والفخر الرازي، والصافي.

3- "مقتصد" من مادّة قصد، بمعنى الإعتدال في العمل، والوفاء بالعهد.

4- مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث، ووردت هذه الحادثة في (اُسد الغابة في معرفة الصحابة) ج4، صفحة 5 بتفاوت يسير.