الآيات 25 - 30

﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِى الاَْرْضِ مِن شَجَرَة أَقْلَـمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر مَّا نَفِدَتْ كَلِمَـتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْس وَحِدَة إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى إلى أَجَل مُّسَمّىً وَأَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَـطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ (30)﴾

التّفسير

عشر صفات لله سبحانه:

بيّنت الآيات الستّة أعلاه مجموعة من صفات الله سبحانه، وهي عشر صفات رئيسيّة، أو عشرة أسماء من الأسماء الحسنى:

الغني، الحميد، العزيز، الحكيم، السميع، البصير، الخبير، الحقّ، العليّ، والكبير.

هذا من جهة، ومن جهة اُخرى فإنّ الآية الاُولى تتحدّث عن "خالقية" الله، والآية الثّانية عن "مالكيته" المطلقة، والثالثة عن "علمه" اللامتناهي، والآية الرّابعة والخامسة عن "قدته" اللامتناهية.

والآية الأخيرة تخلص إلى هذه النتيجة، وهي أنّ الذي يمتلك هذه الصفات ويتمتّع بها هو الله تعالى، وكلّ ما دونه باطل أجوف حقير.

مع ملاحظة هذا البحث الإجمالي نعود إلى شرح الآيات، فتقول الآية الاُولى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنّ الله).

هذا التعبير - والذي يلاحظ في آيات القرآن الاُخرى، كالآية (61- 63) من سورة العنكبوت، والآية ( رقم 38) من الزمر، و من الزخرف - يدلّ من جهة على أنّ المشركين لم يكونوا منكرين لتوحيد الخالق مطلقاً، ولم يكونوا يستطيعون ادّعاء كون الأصنام خالقة، إنّما كانوا معتقدين بالشرك في عبادة الأصنام وشفاعتها فقط.

ومن جهة اُخرى يدلّ على كون التوحيد فطريّاً وأنّ هذا النور كامن في طينة وطبيعة كلّ البشر.

ثمّ تقول: إذا كان هؤلاء معترفين بتوحيد الخالق فـ (قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون).

ثمّ تتطرّق إلى "مالكية" الله، لأنّه بعد ثبوت كونه خالقاً لا حاجة إلى دليل على كونه مالكاً، فتقول: (لله ما في السموات والأرض).

ومن البديهي أنّ الخالق والمالك يكون مدبّراً لأمر العالم أيضاً، وبهذا تثبت أركان التوحيد الثلاثة، وهي: "توحيد الخالقية" و "توحيد المالكية" و "توحيد الربوبية".

والذي يكون على هذا الحال فإنّه غنيّ عن كلّ شيء، وأهل لكلّ حمد وثناء، ولذلك تقول الآية في النهاية: (إنّ الله هو الغني الحميد).

إنّه غنيّ على الإطلاق، وحميد من كلّ جهة، لأنّ كلّ موهبة في هذا العالم تعود إليه، وكلّ ما يملكه الإنسان فانّه صادر منه وخزائن كلّ الخيرات بيده، وهذا دليل حيّ على غناه.

ولمّا كان "الحمد" بمعنى الثناء على العمل الحسن الذي يصدر عن المرء بإختياره، وكلّ حسن نراه في هذا العالم فهو من الله سبحانه، فإنّ كلّ حمد وثناء منه، فحتّى إذا مدحنا جمال الزهور، ووصفنا جاذبية العشق الملكوتي، وقدّرنا إيثار الشخص الكريم، فإنّنا في الحقيقة نحمده، لأنّ هذا الجمال والجاذبية والكرم منه أيضاً... إذن فهو حميد على الإطلاق.

ثمّ تجسّد الآية التالية علم الله اللامحدود من خلال ذكر مثال بليغ جدّاً، وقبل ذلك نرى لزوم ذكر هذه المسألة، وهي - طبقاً لما جاء في تفسير علي بن إبراهيم: إنّ قوماً من اليهود عندما سألوا النّبي (ص) حول مسألة الروح، وأجابهم القرآن بأن (قل الروح من أمر ربّي وما اُوتيتم من العلم إلاّ قليلا) صعب هذا الكلام عليهم، وسألوا النّبي (ص): هل أنّ هذا في حقّنا فقط؟ فأجابهم النّبي (ص): "بل الناس عامّة"، قالوا: فكيف يجتمع هذا يامحمّد؟! أتزعم أنّك لم تؤت من العلم إلاّ قليلا، وقد اُوتيت القرآن واُوتينا التوراة، وقد قرأت: (ومن يؤت الحكمة - وهي التوراة - فقد اُوتي خيراً كثيراً) هنا نزلت الآية (ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام...) - الآية مورد البحث - وأوضحت أنّ علم الإنسان مهما كان واسعاً فإنّه في مقابل علم الله عزّوجلّ ليس إلاّ ذرّة تافهة، والذي يعدّ كثيراً في نظركم، هو قليل جدّاً عند الله(1).

وقد بيّنا نظير هذه الرواية عن طريق آخر في ذيل الآية (109) من سورة الكهف.

وعلى كلّ حال، فإنّ القرآن الكريم ولأجل تجسيد علم الله اللامتناهي يقول: (ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إنّ الله عزيز حكيم).

"يمدّه" من مادّة (المداد) وهي بمعنى الحبر أو المادّة الملوّنة التي يكتبون بها، وهي في الأصل من (مدّ) بمعنى الخطّ، لأنّ الخطوط تظهر على صفحة الورق بواسطة جرّ القلم.

ونقل بعض المفسّرين معنى آخر لها، وهو الزيت الذي يوضع في السراج ويسبّب إنارة السراج.

وكلا المعنيين في الواقع يرجعان إلى أصل واحد.

"الكلمات" جمع "كلمة"، وهي في الأصل الألفاظ التي يتحدّث ويتكلّم بها الإنسان، ثمّ اُطلقت على معنى أوسع، وهو كلّ شيء يمكنه أن يبيّن المراد والمطلب، ولمّا كانت مخلوقات هذا العالم المختلفة يبيّن كلّ منها ذات الله المقدّسة وعظمته، فقد أطلق على كلّ موجود (كلمة الله)، واستعمل هذا التعبير خاصّة في الموجودات الأشرف والأعظم، كما نقرأ في شأن المسيح في الآية (171) من سورة النساء (إنّما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته) ثمّ إستعملت كلمات الله بمعنى علم الله لهذه المناسبة.

والآن يجب أن نفكّر بدقّة وبشكل صحيح بأنّه قد يكفي أحياناً قلم واحد مع مقدار من الحبر لكتابة كلّ المعلومات التي تتعلّق بإنسان ما، بل قد يكون من الممكن أن يسجّل أفراد آخرون مجموعة معلوماتهم على الأوراق بنفس ذلك القلم، إلاّ أنّ القرآن يقول: لو أنّ كلّ الأشجار الموجودة على سطح الأرض تصبح أقلاماً - ونحن نعلم أنّه قد تصنع من شجرة ضخمة، من ساقها وأغصانها، آلاف، بل ملايين الأقلام، ومع الأخذ بنظر الإعتبار المقدار العظيم للأشجار الموجودة في الأرض، والغابات التي تغطّي الكثير من الجبال والسهول، وعدد الأقلام الذي سينتج منها... وكذلك لو كانت كلّ البحار والمحيطات الموجودة، والتي تشكّل ثلاثة أرباع الكرة الأرضيّة تقريباً، بذلك العمق الساحق، تصبح حبراً، عند ذلك يتّضح عظمة ما سيكتب، وكم من العلوم يمكن كتابتها بهذا المقدار من الأقلام والحبر! سيّما مع ملاحظة مضاعفة ذلك بإضافة سبعة أبحر اُخرى، وكلّ واحد منها يعادل كلّ محيطات الأرض، وبالأخصّ إذا علمنا أنّ عدد السبعة هنا لا يعني العدد، بل للكثرة والإشارة إلى البحار التي لا عدّ لها، فعند ذلك ستّتضح سعة علم الله عزّوجلّ وترامي أطرافه، ومع ذلك فإنّ كلّ هذه الأقلام والمحابر تنتهي ولكنّ علومه سبحانه لا تعرف النهاية.

هل يوجد تجسيد وتصوير للاّنهاية أروع وأبلغ وأجمل من هذا التجسيد؟ إنّ هذا العدد حيّ وناطق إلى الحدّ الذي يصطحب معه أمواج فكر الإنسان إلى الآفاق اللامحدودة، ويغرقها في الحيرة والهيبة والجلال.

إنّ الإنسان يشعر مع هذا البيان البليغ الواضح أنّ معلوماته مقابل علم الله كالصفر مقابل اللانهاية، ويليق به أن يقول فقط: إنّ علمي قد أوصلني إلى أن أطّلع على جهلي، فحتّى التشبيه بالقطرة من البحر لتبيان هذه الحقيقة لا يبدو صحيحاً.

ومن جملة المسائل اللطيفة التي تلاحظ في الآية: أنّ الشجرة قد وردت بصيغة المفرد، والأقلام قد وردت بصيغة الجمع، وهذا تبيان لعدد الأقلام الكثيرة التي تنتج من شجرة واحدة بساقها وأغصانها.

وكذلك التعبير بـ (البحر) بصيغة المفرد مع (الف ولام) الجنس ليشمل كلّ البحار والمحيطات على وجه الأرض، خاصّة وأنّ كلّ بحار العالم ومحيطاته متّصلة ببعضها، وهي في الواقع بحكم بحر واسع.

والطريف في الأمر أنّه لا يتحدّث في مورد الأقلام عن أقلام إضافية ومساعدة، أمّا فيما يتعلّق بالبحار فإنّه يتحدّث عن سبعة أبحر اُخرى، لأنّ القلم يستهلك قليلا أثناء الكتابة، والذي يستهلك أكثر هو الحبر.

إنتخاب كلمة (سبع) للكثرة في لغة العرب، ربّما كان بسبب أنّ السابقين كانوا يعتقدون أنّ عدد كواكب المنظومة الشمسية سبعة كواكب - وفي أنّ ما يرى اليوم بالعين المجرّدة من المنظومة الشمسية سبعة كواكب لا أكثر - ومع ملاحظة أنّ الأسبوع دورة زمانية كاملة تتكوّن من سبعة أيّام لا أكثر، وأنّهم كانوا يقسّمون كلّ الكرة الأرضية إلى سبع مناطق، وكانوا قد وضعوا لها اسم الأقاليم السبعة، سيتّضح لماذا إنتخب عدد السبعة كعدد كامل من بين الأعداد، واستعمل لبيان الكثرة(2).

بعد ذكر علم الله اللامحدود، تتحدّث الآية الاُخرى عن قدرته اللامتناهية، فتقول: (ما خلقكم ولا بعثكم إلاّ كنفس واحدة إنّ الله سميع بصير).

قال بعض المفسّرين: إنّ جمعاً من كفّار قريش كانوا يقولون من باب التعجّب والإستبعاد لمسألة المعاد: إنّ الله قد خلقنا بأشكال مختلفة، وعلى مدى مراحل مختلفة، فكنّا يوماً نطفة، وبعدها صرنا علقة، وبعدها صرنا مضغة، ثمّ أصبحنا تدريجيّاً على هيئات وصور مختلفة، فكيف يخلقنا الله جميعاً خلقاً جديداً في ساعة واحدة؟! فنزلت الآية مورد البحث فأجابتهم.

إنّ هؤلاء كانوا غافلين في الحقيقة عن مسألة مهمّة، وهي أنّ هذه المفاهيم كالصعوبة والسهولة، والصغير والكبير يمكن تصوّرها من قبل موجودات لها قدرة محدودة كقدرتنا، إلاّ أنّها أمام قدرة الله اللامتناهية تكون متساوية، فلا يختلف خلق إنسان واحد عن خلق جميع البشر مطلقاً، وخلق موجود ما في لحظة واحدة أو على مدى سنين طوال بالنسبة إلى قدرته المطلقة.

وإذا كان تعجّب كفّار قريش من أنّه كيف يمكن فصل الأجساد عن بعضها وإرجاع كلّ منها إلى محلّه بعد أن كانت الطبائع مختلفة، والأشكال متغايرة، والشخصيات متنوّعة، وذلك بعد أن تحوّل بدن الإنسان إلى تراب وتطايرت ذرّات ذلك التراب؟! فإنّ علم الله اللامتناهي، وقدرته اللامحدودة تجيبهم عن سؤالهم، فإنّه قد جعل بين الموجودات روابط وعلاقات بحيث أنّ الواحد منها كالمجموعة، والمجموعة كالواحد.

وأساساً فانّ إنسجام وترابط هذا العالم بشكل ترجع كلّ كثرة فيه إلى الوحدة، وخلقة مجموع البشر تتّبع خلقة إنسان واحد.

وإذا كان تعجّب هؤلاء من قصر الزمان، بأنّه كيف يمكن أن تطوى المراحل التي يطويها الإنسان خلال سنين طوال من كونه نطفة إلى مرحلة الشباب، في لحظات قصيرة؟! فإنّ قدرة الله تجيب على هذا التساؤل أيضاً، فإنّنا نرى في عالم الأحياء أنّ أطفال الإنسان يحتاجون لمدّة طويلة ليتعلّموا المشي بصورة جيّدة، أو يصبحوا قادرين على الإستفادة من كلّ أنواع الأغذية، في حين أنّنا نرى الفراخ بمجرّد أن تخرج من البيضة تنهض وتسير، وتأكل دونما حاجة حتّى للاُمّ، وهذه الظاهرة تبيّن أنّ هذه الاُمور لا تعني شيئاً أمام قدرة الله عزّوجلّ.

إنّ ذكر كون الله "سميعاً وبصيراً" في نهاية الآية قد يكون جواباً عن إشكال آخر من جانب المشركين، وهو على فرض أنّ جميع البشر على إختلاف خلقتهم، وبكلّ خصوصياتهم يبعثون ويحيون في ساعة واحدة، لكن كيف ستخضع أعمالهم وكلامهم للحساب، فإنّ الأعمال والأقوال اُمور تفنى بعد الوجود؟!

فيجيب القرآن بأنّ الله سميع وبصير، قد سمع كلّ كلامهم، ورأى كلّ أعمالهم، علاوة على أنّ الفناء المطلق لا معنى ولا وجود له في هذا العالم، بل إنّ أعمالهم وأقوالهم موجودة دائماً.

وإذا تجاوزنا ذلك فإنّ الجملة أعلاه تهديد لهؤلاء المعاندين، بأنّ الله سبحانه مطّلع على أقوالكم ومؤامراتكم، بل وحتّى على ما في قلوبكم وضمائركم.

الآية التالية تأكيد وبيان آخر لقدرة الله الواسعة، وقد وجّهت الخطاب إلى النّبي(ص) فقالت: (ألم تر أنّ الله يولج الليل في النهار و يولج النهار في الليلو سخّرالشمس والقمر) لخدمة الناس وتأمين إحتياجاتهم (كلّ يجري لأجل مسمّى وإنّ الله بما تعملون خبير).

"الولوج" في الأصل بمعنى "الدخول"، ودخول الليل في النهار والنهار في الليل قد يكون إشارة إلى طول وقصر الليل والنهار التدريجي على مدار السنة، حيث ينقص شيء من أحدهما تدريجيّاً، ويضاف على الآخر بصورة غير محسوسة، لتتكوّن الفصول الأربعة للسنة بخصائصها وآثارها المباركة.

(وليست هناك إلاّ نقطتان على سطح الأرض لا يوجد فيهما هذا التغيير التدريجي والفصول الأربعة: إحداهما: النقطة الحقيقيّة للقطب الشمالي والجنوبي حيث يكون الليل هناك ستّة أشهر، والنهار ستّة أشهر طوال السنة، والاُخرى خطّ الإستواء الدقيق حيث يتساوى ليله ونهاره كلّ السنة).

أو إشارة إلى أنّ تبديل الليل بالنهار والنهار بالليل لوجود الغلاف الجوّي لا يحدث بصورة مفاجئة فيتعرّض الإنسان وكلّ الموجودات الحيّة للأخطار المختلفة حينئذ، بل إنّ أشعّة الشمس تتوغّل من حيث طلوع الفجر في أعماق الظلام أوّلا، ثمّ يتّسع ويزداد ضوء النهار حتّى يعمّ كلّ أرجاء السماء، وعلى العكس تماماً ممّا يحدث عند إنتهاء النهار ودخول الليل.

وهذا الإنتقال التدريجي والمنظّم بدقّة متناهية من مظاهر قدرة الله تعالى.

ومن الطبيعي أنّ هذين التّفسيرين لا يتنافيان، ويمكن أن يجتمعا في معنى الآية وتفسيرها.

أمّا في مورد تسخير الشمس والقمر وسائر الكواكب السماوية للبشر، فإنّ المراد - وكما قلنا سابقاً أيضاً - تسخيرها في سبيل خدمة الإنسان، وبتعبير آخر فإنّ اللام في (سخّر لكم) لام النفع لا الإختصاص، وقد ورد هذا التعبير في القرآن المجيد في شأن الشمس والقمر، والليل والنهار، والأنهار والبحار والسفن، وكلّ هذه مبيّنة لعظمة شخصيّة الإنسان، وسعة نعم الله عليه حيث أنّ كلّ الموجودات الأرضية والسماوية مسخّرة ومطيعة له بأمر الله تعالى، ومع كلّ هذا التسخير فليس من الإنصاف أن يعصي الله سبحانه ولا يطيع أوامره(3).

وجملة (كلّ يجري لأجل مسمّى) إشارة إلى أنّ هذا النظام الدقيق لا يستمرّ إلى الأبد، بل إنّ له نهاية بإنتهاء الدنيا، وهو ما ذكر في سورة التكوير: (إذا الشمس كوّرت وإذا النجوم إنكدرت...).

إنّ إرتباط جملة (إنّ الله بما تعملون خبير) بهذا البحث سيتّضح بملاحظة ما قلناه آنفاً، لأنّ الله الذي جعل الشمس والقمر العظيمين خاضعين لنظام دقيق، وعاقب بين الليل والنهار بذلك النظام الخاصّ آلاف وملايين السنين، كيف يمكن أن تخفى عليه أعمال البشر؟ نعم... إنّه يعلم الأعمال، وكذلك يعلم النيّات والأفكار.

وتقول الآية الأخيرة، كإستخلاص نتيجة جامعة كليّة (ذلك بأنّ الله هو الحقّ وأنّ ما يدعون من دونه الباطل وأنّ الله هو العليّ الكبير)(4).

إنّ مجموع البحوث التي وردت في الآيات السابقة حول كون الله خالقاً ومالكاً، وعن علمه وقدرته اللامتناهيين، أثبتت هذه الاُمور، وأنّ الحقّ هو الله وحده، وكلّ شيء غيره زائل وباطل ومحدود ومحتاج، والعلي والكبير الذي يسمو على كلّ شيء، ويجلّ عن كلّ وصف، هو ذاته المقدّسة، وعلى قول الشاعر:

ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل وكلّ نعيم لا محالة زائل

ويمكن إيضاح هذا الكلام بالتعبير الفلسفي كما يلي:

إنّ الحقّ إشارة إلى الوجود الحقيقي الثابت، وفي هذا العالم فإنّ الوجود الحقيقي القائم بذاته والثابت المستقرّ الخالد هو الله فقط، وكلّ ما عداه لا وجود له بذاته وهو عين البطلان، حيث إنّه يستمدّ وجوده عن طريق الإرتباط بذلك الوجود الحقّ الدائم، فإذا إنقطع الفيض عنه لحظة فإنّه سيفنى ويُمحى في ظلمات الفناء والعدم، وبهذا فإنّه كلّما قوي إرتباط الموجودات الاُخرى بوجود الله تعالى فإنّها تكتسب بتلك النسبة حقّاً أكبر.

وعلى كلّ حال، وكما قلنا سابقاً، فإنّ هذه الآيات مجموعة من عشر صفات من صفات الله تعالى، وعشرة أسماء من أسمائه، وتشتمل على أدلّة قويّة - لا يمكن إنكارها - وعلى بطلان كلّ أنواع الشرك، ولزوم التوحيد في كلّ مراحل العبودية.


1- تفسير البرهان، الجزء 3، صفحة 279.

2- تحدّثنا حول (علم الله المطلق) في ذيل الآية (109) من سورة الكهف.

3- كان لنا بحث مفصّل حول تسخير الشمس والقمر والموجودات الاُخرى للإنسان في ذيل الآية (2) من سورة الرعد، والآية (32) من سورة إبراهيم.

4- "الباء" في (بأنّ الله هو الحقّ) بالرغم من أنّها تبدو في بادىء الأمر سببية، وربّما اعتبر بعض المفسّرين كالآلوسي في روح المعاني مضمون هذه الآية سبباً للمطالب السابقة، إلاّ أنّ سياق الآيات وذكر الصفات السابقة - أي الخالقية والمالكية والعلم والقدرة وعلاماتها في عالم الخلقة - ظاهر في أنّها جميعاً كانت شاهدة على هذه النتيجة، وبناءً على هذا، فإنّ محتوى هذه الآية نتيجة للآيات السابقة لا سبباً لها.