الآيات 12 - 15
﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَـنَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَـنُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَـبُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الإنسَـنَ بِوَلِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْن وَفِصَـلُهُ فِى عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَلِدَيْكَ إلى الْمَصِيرُ (14) وَإِن جَـهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلى ثُمَّ إلى مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15)﴾
التّفسير
إحترام الوالدين:
لتكميل البحوث السابقة حول التوحيد والشرك، وأهميّة وعظمة القرآن، والحكمة التي استعملت واتّبعت في هذا الكتاب السماوي، فقد ورد الكلام في هذه الآيات التي نبحثها والآيات الاُخرى التالية عن لقمان الحكيم، وعن جانب من المواعظ المهمّة لهذا الرجل المتألّه في باب التوحيد ومحاربة الشرك، وقد إنعكست المسائل الأخلاقيّة المهمّة في مواعظ لقمان لإبنه.
إنّ هذه المواعظ العشرة التي ذكرت ضمن ستّ آيات، قد بيّنت باُسلوب رائع المسائل العقائدية، إضافةً إلى اُصول الواجبات الدينيّة والمباحث الأخلاقية.
وسنبحث فيما بعد - في بحث الملاحظات - إن شاء الله تعالى، من هو لقمان؟ وأيّة خصائص كان يمتلكها؟ ولكنّ ما نذكره هنا هو أنّ القرائن تبيّن أنّه لم يكن نبيّاً، بل كان رجلا ورعاً مهذّباً إنتصر في ميدان جهاد هوى النفس، فكان أن فجّر الله تعالى في قلبه ينابيع العلم والحكمة.
ويكفي في عظمة مقامه أنّ الله قد قرن مواعظه بكلامه، وذكرها في طيّات آيات القرآن.
أجل... عندما يتنوّر قلب الإنسان بنور الحكمة نتيجة للطهارة والتقوى، فإنّ الكلام الإلهي يجري على لسانه، ويقول ما يقوله الله، ويفكّر بالشكل الذي يرضاه الله!
بعد هذا التوضيح الموجز نعود إلى تفسير الآيات:
تقول الآية الاُولى: (ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنّما يشكر لنفسه ومن كفر فإنّ الله غنيّ حميد)(1).
فما هي الحكمة؟
في معرض الحديث عن ماهية الحكمة ينبغي القول: إنّهم قد ذكروا للحكمة معاني كثيرة، مثل: معرفة أسرار عالم الوجود، والإحاطة والعلم بحقائق القرآن، والوصول إلى الحقّ من جهة القول والعمل، ومعرفة الله.
إلاّ أنّ كلّ هذه المعاني يمكن جمعها في تعريف واحد، فالحكمة التي يتحدّث عنها القرآن، والتي كان الله قد آتاها لقمان، كانت مجموعة من المعرفة والعلم، والأخلاق الطاهرة والتقوى ونور الهداية.
وفي حديث عن الإمام موسى بن جعفر (ع)، أنّه قال لهشام بن الحكم في تفسير هذه الآية: "إنّ الحكمة هي الفهم والعقل"(2).
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (ع) في تفسير هذه الآية، أنّه قال: "اُوتي معرفة إمام زمانه"(3).
ومن الواضح أنّ كلاًّ من هذه المفاهيم يعتبر أحد فروع معنى الحكمة الواسع، ولا منافاة بينها.
وعلى كلّ حال، فإنّ لقمان بإمتلاكه هذه الحكمة كان يشكر الله، فقد كان يعلم الهدف من وراء هذه النعم الإلهيّة، وكيفيّة إستغلالها والإستفادة منها، وكان يضعها بدقّة وصواب كامل في مكانها المناسب لتحقيق الهدف الذي خلقت من أجله، وهذه هي الحكمة، هي وضع كلّ شيء في موضعه، وبناءً على هذا فإنّ الشكر والحكمة يعودان إلى نقطة واحدة.
وقد اتّضحت نتيجة الشكر والكفران للنعم بصورة ضمنية في الآية، وهي أنّ شكر النعمة سيكون من صالح الإنسان وفي منفعته، وأنّ كفران النعمة سيكون سبباً لضرره أيضاً، لأنّ الله سبحانه غنيّ عن العالمين، فلو أنّ كلّ الممكنات قد شكرته فلا يزيد في عظمته شيء، ولو أنّ كلّ الكائنات كفرت فلا ينقص من كبريائه شيء!
إنّ "اللام" في جملة (أن اشكر لله) لام الإختصاص، و "اللام" في (لنفسه)لام النفع، وبناءً على هذا، فإنّ نفع الشكر، والذي هو دوام النعمة وكثرتها، إضافة إلى ثواب الآخرة يعود على الإنسان نفسه، كما أنّ مضرّة الكفر تحيق به فقط.
والتعبير بـ (غنيّ حميد) إشارة إلى شكر الناس للأفراد العاديين أمّا أن يؤدّي إلى النفع المادّي للمشكور، أو زيادة مكانة صاحبه في أنظار الناس، إلاّ أنّ أيّاً من هذين الأمرين لا معنى له ولا مصداق في حقّ الله تعالى، فإنّه غنيّ عن الجميع، وهو أهل لحمد كلّ الحامدين وثنائهم، فالملائكة تحمده، وكلّ ذرّات الوجود والموجودات مشغولة بتسبيحه، وإذا ما نطق إنسان بالكفر فليس له أدنى تأثير، فحتّى ذرّات وجوده مشغولة بحمده وثنائه بلسان الحال!
وممّا يجدر ذكره أنّ الشكر قد ذكر بصيغة المضارع، والذي يدلّ على الإستمرار، أمّا الكفر فقد جاء بصيغة الماضي الذي يصدق حتّى على المرّة الواحدة، وهذا إشارة إلى أنّ الكفران ولو لمرّة واحدة يمكن أن يؤدّي إلى عواقب وخيمة مؤلمة، أمّا الشكر فإنّه لازم، ويجب أن يكون مستمرّاً ليطوي الإنسان مسيره التكاملي.
وبعد تعريف لقمان ومقامه العلمي والحِكَمي، أشارت الآية التالية إلى اُولى مواعظه، وهي في الوقت نفسه أهمّ وصاياه لولده، فقالت: (وإذ قال لقمان لإبنه وهو يعظه يابني لا تشرك بالله إنّ الشرك لظلم عظيم).
إنّ حكمة لقمان توجب عليه أن يتوجّه قبل كلّ شيء إلى أهمّ المسائل الأساسية، وهي مسألة التوحيد... التوحيد في كلّ المجالات والأبعاد، لأنّ كلّ حركة هدّامة ضدّ التوجّه الإلهي تنبع من الشرك، من عبادة الدنيا والمنصب والهوى وأمثال ذلك، والذي يعتبر كلّ منها فرعاً من الشرك.
كما أنّ أساس كلّ الحركات الصحيحة البنّاءة هو التوحيد والتوجّه إلى الله، وإطاعة أوامره، والإبتعاد عن غيره، وكسر كلّ الأصنام في ساحة كبريائه!
وممّا يستحقّ الإشارة أنّ لقمان الحكيم قد جعل علّة نفي الشرك هو أنّ الشرك ظلم عظيم، وقد اُحيط بالتأكيد من عدّة جهات(4).
وأيّ ظلم أعظم منه، حيث جعلوا موجودات لا قيمة لها في مصافّ الله ودرجته، هذا من جانب، ومن جانب آخر يجرّون الناس إلى الضلال والإنحراف، ويظلمونهم بجناياتهم وجرائمهم، وهم يظلمون أنفسهم أيضاً حيث ينزلونها من قمّة عزّة العبودية لله ويهوون بها إلى منحدر ذلّة العبودية لغيره.
والآيتان التاليتان جمل معترضة ذكرها الله تعالى في طيّات مواعظ لقمان، لكنّ هذا الإعتراض لا يعني عدم الإتّصال والإرتباط، بل يعني الصلة الواضحة لكلام الله عزّوجلّ بكلام لقمان، لأنّ في هايتن الآيتين بحثاً عن نعمة وجود الوالدين ومشاقّهما وخدماتهما وحقوقهما، وجعل شكر الوالدين في درجة شكر الله.
إضافةً إلى أنّهما تعتبران تأكيداً على كون مواعظ لقمان لإبنه خالصة، لأنّ الوالدين مع هذه العلاقة القويّة وخلوص النيّة لا يمكن أن يذكرا في مواعظهما إلاّ ما فيه خير وصلاح الولد، فتقول أوّلا: (ووصّينا الإنسان بوالديه) وعندئذ تشير إلى جهود ومتاعب الاُمّ العظيمة، فتقول: (حملته اُمّه وهناً على وهن)(5).
وهذه المسألة قد ثبتت من الناحية العلمية، إذ أوضحت التجارب أنّ الاُمّهات في فترة الحمل يصبن بالضعف والوهن، لأنّهنّ يصرفن خلاصة وجودهنّ في تغذية وتنمية الجنين، ويقدّمن له من موادهنّ الحياتية أفضلها، ولذلك فإنّ الاُمّهات أثناء فترة الحمل يبتلين بنقص أنواع الفيتامينات وفي حالة عدم تعويض هذا النقص فسيؤدّي إلى آلام ومتاعب كثيرة.
وهذا الأمر يستمر حتّى في فترة الرضاعة، لأنّ اللبن عصارة وجود الاُمّ، ولهذا تضيف بعد ذلك فترة رضاعه سنتان (وفصاله في عامين) كما اُشير إلى ذلك في موضع آخر من القرآن: (والوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين)(6)، والمراد فترة الرضاعة الكاملة، وإن كانت تتمّ أحياناً بفترة أقلّ.
وعلى كلّ حال، فإنّ الاُمّ في هذه الـ (33) شهراً - فترة الحمل، وفترة الرضاع - تبدي وتقدّم أعظم تضحية لولدها، سواء كان من الجانب الروحي والعاطفي، أو الجسمي، أو من جهة الخدمات والرعاية.
والملفت للنظر هنا أنّها توصي في البداية بالوالدين معاً، إلاّ أنّها عند بيان المشاقّ والمتاعب تؤكّد على متاعب الاُمّ، لتنبّه الإنسان إلى إيثارها وتضحياتها وحقّها العظيم.
ثمّ تقول: (أن اشكر لي ولوالديك) فاشكرني لأنّي خالقك والمنعم الأصليّ عليك، ومنحتك مثل هذين الأبوين العطوفين الرحيمين، واشكر والديك لأنّهما واسطة هذا الفيض وقد تحمّلا مسؤولية إيصال نعمي إليك.
فما أجمل أن يجعل شكر الوالدين قرين شكر الله! وما أعمق مغزاه!
ويقول الله تعالى في نهاية الآية بنبرة لا تخلو من التهديد والعتاب: (إليّ المصير).
نعم، فإنّك إذا قصّرت هنا فستحاسب على كلّ هذه الحقوق والمصاعب والخدمات بدقّة فيجب على الإنسان أن يؤدّي ما عليه من شكر مواهب الله.
وكذلك شكر نعمة وجود الأبوين وعواطفهما الصادقة الطاهرة لينجح في ذلك الحساب وتلك المحكمة.
وفي هذا المجال التفت بعض المفسّرين إلى مسألة لطيفة، وهي أنّه قد ورد التأكيد على رعاية حقوق الأبوين مراراً في القرآن المجيد، إلاّ أنّ التوصية بالأولاد تلاحظ قليلا - ما عدا مورد النهي عن قتل الأولاد، والتي كانت عادةً مشؤومة قبيحة وإستثنائية في عصر الجاهلية - وذلك لأنّ الوالدين، وبحكم عواطفهما القويّة، قلّ ما يهملوا أولادهما بيد النسيان، في حين يلاحظ بكثرة أنّ الأولاد ينسون الأبوين، وخاصّة عند الكبر والعجز، وتعتبر هذه آلم وأشدّ حالة لهما، وأسوأ صور كفران النعمة بالنسبة للأولاد(7).
إنّ الوصيّة بالإحسان إلى الأبوين قد توجد الإشتباه والوهم عند البعض وذلك حينما يظنّ أنّه يجب مداراتهما واتّباعهما حتّى في مسألة العقيدة والكفر والإيمان، لكنّ الآية التالية تقول: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما) فيجب أن لا تكون علاقة الإنسان باُمّه وأبيه مقدّمة على علاقته بالله مطلقاً، وأن لا تكون عواطف القرابة حاكمة على عقيدته الدينيّة أبداً.
جملة (جاهداك) إشارة إلى أنّ الأبوين قد يظنّان أحياناً أنّهما يريدان سعادة الولد، ويسعيان إلى جرّه إلى عقيدتهما المنحرفة والإيمان بها، وهذا يلاحظ لدى كلّ الآباء والاُمّهات.
إنّ واجب الأولاد أن لا يستسلموا أبداً أمام هذه الضغوط، ويجب أن يحافظوا على إستقلالهم الفكري، ولا يساوموا على عقيدة التوحيد، أو يبدّلوها بأيّ شيء.
ثمّ إنّ جملة (ما ليس لك به علم) تشير ضمناً إلى أنّنا لو نتجاهل أدلّة بطلان الشرك، ولم نقم لها وزناً، فإنّه لا يوجد دليل على إثباته، ولا يستطيع أيّ متعنّت إثبات الشرك بالدليل.
وإذا تجاوزنا ذلك، فإنّ الشرك إن كانت له حقيقة، فينبغي أن يكون هناك دليل على إثباته، ولمّا لم يكن هناك دليل على إثباته، فإنّ هذا بنفسه دليل على بطلانه.
ولمّا كان من الممكن أيضاً أن يوجد هذا الأمر توهّم وجوب إستخدام الخشونة مع الوالدين المشركين وعدم إحترامهما، ولذلك أضافت الآية أنّ عدم طاعتهما في مسألة الشرك ليس دليلا على وجوب قطع العلاقة معهما، بل تأمره الآية أن (وصاحبهما في الدنيا معروفاً).
فلاطفهما وأظهر المحبّة لهما في الحياة الدنيويّة والمعاشرة، ولا تستسلم لأفكارهما وإقتراحاتهما من الناحية العقائدية والبرامج الدينيّة، وهذه بالضبط نقطة الإعتدال الأصليّة التي تجمع فيها حقوق الله والوالدين، ولذا يضيف بعد ذلك (واتّبع سبيل من أناب إليّ) لأنّ المصير إليه سبحانه (ثمّ إليّ مرجعكم فاُنبّئكم بما كنتم تعملون).
إنّ سبب النفي والإثبات المتلاحق، والأوامر والنواهي المتتابعة في الآيات أعلاه هو أن يجد المسلمون الخطّ الأصلي ويشخّصوه في مثل هذه المسائل، حيث يبدو في أوّل الأمر أنّ هناك تناقضاً في أداء هذين الواجبين، فإن تفكّروا قليلا فإنّ المسير الصحيح سيكون نصب أعينهم، وسيسيرون فيه دون أدنى إفراط ولا تفريط، وهذه الدقّة واللطافة القرآنية في أمثال هذه الدقائق من صور فصاحة القرآن وبلاغته العميقة.
وعلى كلّ حال، فإنّ الآية أعلاه تشبه ما جاء في من سورة العنكبوت، حيث تقول: (ووصّينا الإنسان بوالديه حسناً وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إليّ مرجعكم فاُنبّئكم بما كنتم تعملون) وقد أوردنا في ذيل من سورة العنكبوت سبب نزول لها ذُكر في بعض التفاسير.
بحثان
1- من هو لقمان؟
لقد ورد اسم "لقمان" في آيتين من القرآن في هذه السورة، ولا يوجد في القرآن دليل صريح على أنّه كان نبيّاً أم لا، كما أنّ اُسلوب القرآن في شأن لقمان يوحي بأنّه لم يكن نبيّاً، لأنّه يلاحظ في القرآن أنّ الكلام في شأن الأنبياء عادةً يدور حول الرسالة والدعوة إلى التوحيد ومحاربة الشرك وإنحرافات البيئة، وعدم المطالبة بالأجر والمكافأة، وكذلك بشارة الاُمم وإنذارها، في حين أنّ أيّاً من هذه الاُمور لم يذكر في شأن لقمان، والذي ورد هو مجموعة مواعظ خاصّة مع ولده (رغم شموليتها وعموميتها)، وهذا دليل على أنّه كان رجلا حكيماً وحسب.
وفي حديثه عن الرّسول الأكرم (ص): "حقّاً أقول: لم يكن لقمان نبيّاً، ولكن كان عبداً كثير التفكّر، حسن اليقين، أحبّ الله فأحبّه ومنّ عليه بالحكمة".
وجاء في بعض التواريخ: أنّ لقمان كان عبداً أسود من سودان مصر، ولكنّه إلى جانب وجهه الأسود كان له قلب مضيء وروح صافية، وكان يصدق في القول من البداية، ولا يمزج الأمانة بالخيانة، ولم يكن يتدخّل فيما لا يعنيه(8).
واحتمل بعض المفسّرين نبوّته، لكن - كما قلنا - لا يوجد دليل على ذلك، بل لدينا شواهد واضحة على نقيض ذلك.
وجاء في بعض الرّوايات: أنّ شخصاً سأل لقمان: ألم تكون ترعى معنا؟ قال: نعم.
قال الرجل: فمن أين أتاك كلّ هذا العلم والحكمة؟
قال: قدر الله، وأداء الأمانة، وصدق الحديث، والصمت عمّا لا يعنيني(9).
وورد كذلك في ذيل الحديث الذي نقلناه عن الرّسول الأكرم (ص): "كان لقمان نائماً نصف النهار، إذ جاءه نداء: يالقمان، هل لك أن يجعلك الله خليفة تحكم بين الناس بالحقّ؟ فأجاب الصوت: إن خيّرني ربّي قبلت العافية، ولم أقبل البلاء، وإن عزم عليّ فسمعاً وطاعة، فإنّي أعلم أنّه إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني.
فقالت الملائكة: دون أن يراهم: لِمَ يالقمان؟
قال: لأنّ الحكم أشدّ المنازل وآكدها، يغشاه الظلم من كلّ مكان، إن وقي فبالحري أن ينجو، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنّة، ومن يكن في الدنيا ذليلا وفي الآخرة شريفاً خير من أن يكون في الدنيا شريفاً وفي الآخرة ذليلا، ومن يخيّر الدنيا على الآخرة تفته الدنيا ولا يصيب الآخرة.
فتعجّبت الملائكة من حسن منطقه، فنام نومة فاُعطي الحكمة، فانتبه يتكلّم بها"(10).
2- صور من حكمة لقمان
لقد ذكر بعض المفسّرين بعضاً من كلمات لقمان الحكيمة مناسبة للمواعظ التي وردت في آيات هذه السورة، ونحن نذكر هنا مختصراً منها:
أ - كان لقمان يقول لإبنه: يابني، إنّ الدنيا بحر عميق، وقد هلك فيها عالم كثير، فاجعل سفينتك فيها الإيمان بالله، واجعل شراعها التوكّل على الله، واجعل زادك فيها تقوى الله، فإن نجوت فبرحمة الله، وإن هلكت فبذنوبك(11).
وقد ورد نفس هذا المطلب ضمن كلام الإمام الكاظم (ع) مع هشام بن الحكم بصورة أكمل، نقلا عن لقمان الحكيم: "يابنيّ، إنّ الدنيا بحر عميق، قد غرق فيها عالم كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله، وحشوها الإيمان، وشراعها التوكّل، وقيّمها العقل، ودليلها العلم، وسكّانها الصبر"(12).
ب - وفي حوار آخر مع إبنه حول آداب السفر يقول:
يابنيّ، سافر بسيفك وخفّك وعمامتك، وخبائك وسقائك، وخيوطك ومخرزك، وتزوّد معك من الأدوية ما تنتفع به أنت ومن معك، وكن لأصحابك موافقاً إلاّ في معصية الله عزّوجلّ.
يابنيّ، إذا سافرت مع قوم فاكثر إستشارتهم في أمرك واُمورهم.
وأكثر التبسّم في وجوههم.
وكن كريماً على زادك بينهم.
وإذا دعوك فأجبهم، وإذا استعانوا بك فأعنهم.
واستعمل طول الصمت، وكثرة الصلاة، وسخاء النفس بما معك من دابّة أو ماء أو زاد.
وإذا استشهدوك على الحقّ فاشهد لهم.
واجهد رأيك إذا استشاروك، ثمّ لا تعزم حتّى تتثبّت وتنظر، ولا تجب في مشورة حتّى تقوم فيها وتقعد، وتنام وتأكل وتصلّي، وأنت مستعمل فكرتك وحكمتك في مشورته، فإنّ من لم يمحض النتيجة من إستشاره سلبه الله رأيه.
وإذا رأيت أصحابك يمشون فامش معهم، فإذا رأيتهم يعملون فاعمل معهم.
واسمع لمن هو أكبر منك سنّاً.
وإذا أمروك بأمر، وسألوك شيئاً فقل: نعم، ولا تقل: لا، فإنّ (لا) عي ولؤم.
يابنيّ، إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخّرها لشيء، صلّها واسترح منها فإنّها دَين.
وصلّ في جماعة ولو على رأس زجّ.
وإن إستطعت أن لا تأكل طعاماً حتّى تبتديء فتتصدّق منه فافعل.
وعليك بقراءة كتاب الله(13).
ج - وثمّة قصّة معروفة أيضاً عن لقمان، وهي أنّ مولاه دعاه - يوم كان عبداً - فقال: اذبح شاة، فأتني بأطيب مضغتين منها، فذبح شاة، وأتاه بالقلب واللسان.
وبعد عدّة أيّام أمره أن يذبح شاة، ويأتيه بأخبث أعضائها، فذبح شاة وأتاه بالقلب واللسان، فتعجّب وسأله عن ذلك فقال: إنّ القلب واللسان إذا طهّرا فهما أطيب من كلّ شيء، وإذا خبثا كانا أخبث من كلّ شيء(14).
وننهي هذا البحث بحديث عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: "والله ما اُوتي لقمان الحكمة لحسب ولا مال ولا بسط في جسم ولا جمال، ولكنّه كان رجلا قويّاً في أمر الله، متورّعاً في الله، ساكتاً سكيناً عميق النظر، طويل التفكّر، حديد البصر.
ولم ينم نهاراً قطّ - أي أوّله - ولم يتكيء في مجلس قطّ - وهو عرف المتكبّرين - ولم يتفل في مجلس قوم قطّ، ولم يعبث بشيء قطّ، ولم يره أحد من الناس على بول ولا غائط قطّ، ولا على إغتسال لشدّة تستّره وتحفّظه في أمره.
ولم يمرّ بين رجلين يقتتلان أو يختصمان إلاّ أصلح بينهما، ولم يسمع قولا إستحسنه من أحد قطّ إلاّ سأله عن تفسيره وعمّن أخذه، وكان يكثر مجالسة الفقهاء والعلماء، ويتعلّم من العلوم ما يغلب به نفسه، ويجاهد به هواه، وكان لا يظعن إلاّ فيما ينفعه، ولا ينظر إلاّ فيما يعنيه، فبذلك اُوتي الحكمة ومنح القضيّة"(15).
1- هناك بحث بين المفسّرين في أنّه هل يوجد لجملة (أن اشكر لله) شيء مقدّر أم لا؟ فالبعض يعتقد أنّ جملة (قلنا له) مقدّرة قبلها، والبعض يقولون: لا تحتاج إلى تقدير، و (أنّ) في جملة (أن اشكر) تفسيرية، لأنّ الشكر بنفسه عين الحكمة، والحكمة عينه. وكلا التّفسيرين يمكن قبوله.
2- اُصول الكافي، ج2، ص13. كتاب العقل والجهل حديث 12.
3- نور الثقلين، الجزء 4، صفحة 196.
4- إنّ كلاّ من (أن) و "اللام"، وكون الجملة إسمية من أدوات التأكيد.
5- إنّ جملة (وهناً على وهن) يمكن أن تكون حالا للاُمّ بتقدير كلمة "ذات"، فكان تقديرها (حملته اُمّه ذات وهن على وهن). واحتُمل أيضاً أن تكون مفعولا مطلقاً لفعل مقدّر من مادّة (وهن) فكان تقديره: (تهن وهناً على وهن).
6- البقرة، 233.
7- تفسير في ظلال القرآن، الجزء 6، ص484.
8- قصص القرآن. شرح أحوال لقمان.
9- مجمع البيان ذيل الآيات مورد البحث.
10- مجمع البيان الجزء 8 صفحة 316 ذيل الآية مورد البحث.
11- مجمع البيان. ذيل الآية مورد البحث.
12- اُصول الكافي، المجلّد الأوّل، صفحة 13 كتاب العقل والجهل.
13- المصدر السابق.
14- تفسير البيضاوي والثعلبي، ولكن نقل في مجمع البيان جزءه الأوّل فقط.
15- مجمع البيان بتلخيص.