الآيات 6 - 9
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْم وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَـتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَاب أَلِيم (7) إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ لَهُمْ جَنَّـتُ النَّعِيمِ (8) خَـلِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللهِ حَقَّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)﴾
سبب النّزول
قال بعض المفسّرين: إنّ الآية الاُولى من هذه الآيات نزلت في "النضر بن الحارث"، فقد كان تاجراً يسافر إلى ايران، وكان يحدّث قريشاً بقصص الإيرانيين وأحاديثهم، وكان يقول: إذا كان محمّد يحدّثكم بقصص عاد وثمود فإنّي اُحدّثكم بقصص رستم وإسفنديار وأخبار كسرى وسلاطين العجم، فكانوا يجتمعون حوله ويتركون إستماع القرآن.
وقال البعض الآخر: إنّ هذا المقطع من الآيات نزل في رجل اشترى جارية مغنّية، وكانت تغنّيه ليل نهار فتشغله عن ذكر الله.
يقول المفسّر الكبير الطبرسي (رحمه الله)، بعد ذكر سبب النّزول هذا: وقد روي حديث عن النّبي (ص) في هذا الباب يؤيّد سبب النّزول أعلاه، لأنّه (ص) قال: "لا يحلّ تعليم المغنّيات ولا بيعهن، وأثمانهنّ حرام، وقد نزل تصديق ذلك في كتاب الله: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث...)".
التّفسير
الغناء أحد مكائد الشياطين الكبيرة.
الكلام في هذه الآيات عن جماعة يقعون تماماً في الطرف المقابل لجماعة المحسنين والمؤمنين الذين ذكروا في الآيات السابقة.
الكلام والحديث هنا عن جماعة يستخدمون طاقاتهم من أجل بثّ اللاهدفية وإضلال المجتمع، ويشترون شقاء وبؤس دنياهم وآخرتهم! فتقول أوّلا: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل الله بغير علم ويتّخذها هزواً)(1) ثمّ تضيف أخيراً: (اُولئك لهم عذاب مقيم).
إنّ شراء لهو الحديث والكلام الأجوف إمّا أن يتمّ عن طريق دفع المال في مقابل سماع الخرافات والأساطير، كما قرأنا ذلك في قصّة النضر بن الحارث.
أو أن يكون عن طريق شراء المغنّيات لعقد مجالس اللهو والباطل والغناء.
أو صرف المال بأيّ شكل كان وفي أي طريق للوصول إلى هذا الهدف غير المشروع، أي لهو الحديث والكلام الفارغ.
والعجيب أنّ عمي القلوب هؤلاء، كانوا يشترون الكلام الباطل واللهو بأغلى القيم والأثمان، ويعرضون عن الآيات الإلهية والحكمة التي منحهم الله إيّاها مجّاناً!
ويحتمل أيضاً أن يكون للشراء هنا معنى كنائي، والمراد منه كلّ أنواع السعي للوصول إلى هذه الغاية.
وأمّا (لهو الحديث) فإنّ له معنىً واسعاً يشمل كلّ نوع من الكلام أو الموسيقى أو الترجيع الذي يؤدّي إلى اللهو والغفلة، ويجرّ الإنسان إلى اللاهدفيّة أو الضلال، سواء كان من قبيل الغناء والألحان والموسيقى المهيّجة المثيرة للشهوة والغرائز والميول الشيطانية، أو الكلام الذي يسوق الإنسان إلى الفساد عن طريق محتواه ومضامينه، وقد يكون عن كلا الطريقين كما هو الحال في أشعار وتأليفات المغنّين الغراميّة العاديّة المضلّلة في محتواها وألحانها.
أو يكون كالقصص الخرافية والأساطير التي تؤدّي إلى إنحراف الناس عن الصراط المستقيم.
أو يكون كلام الإستهزاء والسخرية الذي يطلق بهدف محو الحقّ وتضعيف أُسس ودعائم الإيمان، كالذي ينقلونه عن أبي جهل أنّه كان يقف على قريش ويقول: أتريدون أن اُطعمكم من الزقّوم الذي يتهدّدنا به محمّد؟ ثمّ يبعث فيحضرون الزبد والتمر، فكان يقول: هذا هو الزقّوم! وبهذا الاُسلوب كان يستهزيء بآيات الله.
وعلى كلّ حال، فإنّ للهو الحديث معنىً واسعاً يتضمّن كلّ هذه المعاني وأمثالها، وإذا أشارت الروايات الإسلامية وكلمات المفسّرين إلى إحداها، فإنّ ذلك لا يدلّ مطلقاً على إنحصار معنى الآية فيه.
وتلاحظ في الرّوايات الواردة عن أهل البيت (ع) تعبيرات تبيّن سعة معنى هذه الكلمة، ومن جملتها ما نراه في حديث عن الإمام الصادق (ع): "الغناء مجلس لا ينظر الله إلى أهله، وهو ممّا قال الله عزّوجلّ: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل الله)"(2).
والتعبير بـ (لهو الحديث) بدلا من (حديث اللهو) ربّما كان إشارة إلى أنّ الهدف الأساس لهؤلاء هو اللهو والعبث، والكلام والحديث وسيلة للوصول إليه.
ولجملة (ليضلّ عن سبيل الله) مفهوم واسع أيضاً، يشمل الإضلال العقائدي، كما قرأنا ذلك في قصّة النضر بن الحارث وأبي جهل، وكذلك يشمل الإفساد الأخلاقي كما جاء في أحاديث الغناء.
والتعبير بـ (بغير علم) إشارة إلى أنّ هذه الجماعة الضالّة المنحرفة لا تؤمن حتّى بمذهبها الباطل، بل يتّبعون الجهل والتقليد الأعمى لا غير، فإنّهم جهلاء يورطون ويشغلون الآخرين بجهلهم.
هذا إذا إعتبرنا (بغير علم) وصفاً للمضلّين، إلاّ أنّ بعض المفسّرين اعتبر هذا التعبير وصفاً للضالّين، أي أنّهم يجرّون الناس الجهلة إلى وادي الإنحراف والباطل دون أن يعلموا بذلك لجهلهم.
إنّ هؤلاء المغفّلين قد يتمادون في غيّهم فلا يقنعون بلهو هذه المسائل، بل إنّهم يجعلون كلامهم الأجوف ولهو حديثهم وسيلة للإستهزاء بآيات الله، وهذا هو الذي أشارت إليه نهاية الآية حيث تقول: (ويتّخذها هزواً).
أمّا وصف العذاب بـ (المهين) فلأنّ العقوبة متناغمة مع الذنب، فإنّ هؤلاء قد استهزؤوا بآيات الله وأهانوها، ولذلك فإنّ الله سبحانه قد أعدّ لهم عذاباً مهيناً، إضافة إلى كونه أليماً.
وأشارت الآية التالية إلى ردّ فعل هذه الفئة أمام آيات الله، وتوحي بالمقارنة بردّ فعلهم تجاه لهو الحديث، فتقول: (وإذا تتلى عليه آياتنا ولّى مستكبراً كأن لم يسمعها كأنّ في اُذنيه وقراً) أي ثقلا يمنعه من السماع... ثمّ تذكر أخيراً عقاب مثل هؤلاء الأفراد الأليم فتقول: (فبشّره بعذاب أليم).
إنّ التعبير بـ (ولّى مستكبراً) إشارة إلى أنّ إعراضه لم يكن نابعاً من تضرّر مصالحه الدنيويّة والحدّ من رغباته وشهواته فحسب، بل إنّ الأمر أكبر من ذلك، فإنّ فيه دافع التكبّر أمام عظمة الله وآياته، وهو أعظم ذنب فيه.
والرائع في تعبير الآية أنّها تقول أوّلا: إنّه لم يعبأ بآيات الله كأنّه لم يسمعها قطّ، ويمرّ عليها دون إكتراث بها، ثمّ تضيف: بل كأنّه أصمّ لا يسمع أيّ كلام قطّ!
إنّ جزاء مثل هؤلاء الأفراد يناسب أعمالهم، فكما أنّ أعمالهم كانت مؤلمة ومؤذية لأهل الحقّ، فإنّ الله سبحانه قد جعل عقابهم وعذابهم أليماً أيضاً.
وينبغي الإلتفات إلى أنّ تعبير (بشّر) في مورد العذاب الإلهي الأليم، يتناسب مع عمل المستكبرين الذين كانوا يتّخذون آيات الله هزواً، والتشبّه بصفات أبي جهل، حيث كانوا يفسّرون "زقّوم جهنّم" بالزبد والتمر!
ثمّ تعود الآيات التالية إلى شرح وتبيان حال المؤمنين الحقيقيّين، وقد بدأت السورة في مقارنتها هذه بذكر حالهم أوّلا ثمّ ختمت به في نهاية هذا المقطع أيضاً، فتقول: (إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنّات النعيم).
أجل، إنّ هذه الفئة على عكس المستكبرين والضالّين المضلّين الذين لا يرون آثار قدرة الله في عالم الوجود، ولا يصغون إلى كلام أنبياء الله.
إنّ هؤلاء يؤمنون بحكم العقل الواعي، والعين البصيرة، والاُذن السامعة التي منحهم الله إيّاها، يؤمنون بآيات الله ويعملون بها صالحاً، فما أجدر أن يكون لاُولئك العذاب الأليم، ولهؤلاء جنّات النعيم!
والأهمّ من ذلك أنّ هذه الجنان الوافرة النعم خالدة لهؤلاء (خالدين فيها وعد الله حقّاً) والله سبحانه لا يعد كذباً، وليس عاجزاً عن الوفاء بوعوده (وهو العزيز الحكيم).
وثمّة مسألة تستحقّ الدقّة، وهي أنّه قد ورد العذاب في حقّ المستكبرين بصيغة المفرد، وفي شأن المؤمنين الذين يعملون الصالحات جاءت "الجنّات" بصيغة الجمع، وذلك لأنّ رحمة الله عزّوجلّ وسعت غضبه.
والتأكيد على الخلود ووعد الله الحقّ، تأكيد أيضاً على سعة هذه الرحمة، وتفوّقها على الغضب.
وللنعيم معنىً واسع يشمل كلّ أنواع النعم الماديّة والمعنوية، وحتّى النعم التي لا يمكن أن ندركها، فنحن اُسارى شهوات البدن في هذه الدنيا، والراغب في (مفرداته) يقول: النعيم: النعمة الكثيرة.
بحوث
1- تحريم الغناء
لا شكّ في أنّ الغناء بصورة إجمالية حرام على المشهور بين علماء الشيعة، وتصل هذه الشهرة إلى حدّ الإجماع.
وأكّد كثير من علماء أهل السنّة على هذه الحرمة، وإن كان بعضهم قد استثنوا بعض الاُمور، وربّما لا يُعدّ بعضها إستثناءً في الحقيقة، بل تعتبر خارجة عن موضوع الغناء، أو كما يقال: خارج تخصّصاً.
يقول "القرطبي" في ذيل الآيات مورد البحث في هذا الباب: "وهو الغناء المعتاد عند المشتهرين به، الذي يحرّك النفوس ويبعثها على الهوى والغزل، والمجون الذي يحرّك الساكن ويبعث الكامن، فهذا النوع إذا كان في شعر يُشبّب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن وذكر الخمور والمحرّمات لا يختلف في تحريمه، لأنّه اللهو والغناء المذموم بالإتّفاق، فامّا ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح، كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقّة كما كان في حفر الخندق وحدو أنجشة وسلمة بن الأكوع، فامّا ما إبتدعته الصوفية اليوم من الإدمان على سماع الأغاني بالآلات المطربة من الشبابات والطار والمعازف والأوتار فحرام"(3).
إنّ ما ذكره القرطبي وبيّنه كاستثناء، من قبيل الحداء للإبل، أو الأشعار الخاصّة التي كان يقرؤها المسلمون أثناء حفر الخندق، يحتمل قويّاً أنّه لم يكن من الغناء أساساً، فهو شبيه بالأشعار التي يقرؤها جماعة بلحن خاصّ في المسيرات أو مجالس الفرح ومجالس العزاء الدينيّة.
وفي أيدينا أدلّة كثيرة على تحريم الغناء في المصادر الإسلامية، ومن جملتها الآية أعلاه: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) وبعض آيات اُخر من القرآن التي تنطبق - على الأقلّ طبق الروايات الواردة في تفسير هذه الآيات - على الغناء، أو أنّ الغناء اعتُبر من مصاديقها:
ففي حديث عن الإمام الصادق (ع) في تفسير آية: (واجتنبوا قول الزور)(4)قال: "قول الزور الغناء"(5).
وعنه (ع) في تفسير الآية: (والذين لا يشهدون الزور)(6) قال: "الغناء"(7).
وقد رويت في تفسير هذه الآية روايات عديدة عن الإمام الباقر والصادق والرضا (ع) أوضحوا فيها أنّ أحد مصاديق لهو الحديث الموجب للعذاب المهين هو "الغناء"(8).
إضافةً إلى هذا فإنّه تلاحظ في المصادر الإسلامية روايات كثيرة اُخرى - عدا ما ورد في تفسير الآيات - تبيّن تحريم الغناء بصورة مؤكّدة:
ففي حديث مروي عن جابر بن عبدالله، عن النّبي (ص): "كان إبليس أوّل من تغنّى"(9).
وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق (ع): "بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة، ولا تجاب فيه الدعوة، ولا يدخله الملك"(10).
وفي حديث آخر عنه (ع): "الغناء يورث النفاق، ويعقب الفقر"(11).
وفي حديث آخر عن الصادق (ع): "المغنّية ملعونة، ومن أدّاها ملعون، وآكل كسبها ملعون"(12).
وقد نقلت روايات كثيرة في هذا المجال في كتب أهل السنّة المعروفة أيضاً، ومن جملتها الرواية التي نقلها في (الدرّ المنثور) عن جماعة كثيرة من المحدّثين، عن الرّسول الأكرم (ص)، أنّه قال: "لا يحلّ تعليم المغنّيات ولا بيعهنّ، وأثمانهنّ حرام"(13).
ونقل نظير هذا المعنى كاتب (التاج) عن الترمذي والإمام أحمد(14).
ويروي ابن مسعود عن النّبي (ص) أنّه قال: "الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل"(15).
وبالجملة، فإنّ الرّوايات الواردة في هذا الباب كثيرة جدّاً بحيث تصل إلى حدّ التواتر، ولهذا فإنّ أكثر علماء الإسلام قد أفتوا بالحرمة، علاوةً على علماء الشيعة، الذين يتّفقون بالرأي في هذا الموضوع تقريباً، وقد نقل تحريمه عن أبي حنيفة أيضاً، وعندما سألوا "أحمد" - إمام السنّة المعروف - عن الغناء قال: ينبت النفاق.
وقال "مالك" - إمام أهل السنّة المعروف - مجيباً عن هذا السؤال: يفعله الفسّاق.
وصرّح "الشافعي" بأنّ شهادة أصحاب الغناء غير مقبولة، وهذا بنفسه دليل على فسق هؤلاء.
ونقل عن أصحاب الشافعي أيضاً أنّهم اعتبروا فتوى الشافعي تحريماً، على خلاف ما اعتقده البعض(16).
2- ما هو الغناء؟
لا يواجهنا إشكال مهم في حرمة الغناء، إنّما الإشكال الصعب هو تشخيص موضوع الغناء، فهل أنّ كلّ صوت حسن غناء؟
من المسلّم أنّ الأمر ليس كذلك، لأنّه قد ورد في الرّوايات الإسلامية، وسيرة المسلمين تحكي أيضاً، أن اقرؤوا القرآن وأذّنوا بصوت حسن.
هل أنّ الغناء كلّ صوت فيه ترجيع - وهو تردّد الصوت في الحنجرة ـ؟ هذا أيضاً غير ثابت.
والذي يمكن إستفادته من مجموع كلمات فقهاء وأقوال أهل السنّة في هذا المجال، أنّ الغناء هو كلّ لحن وصوت يطرب، ويشتمل على اللهو والباطل.
وبعبارة أوضح: الغناء هو الأصوات والألحان التي تناسب مجالس الفسق والفجور، وأهل المعصية والفساد.
وبتعبير آخر: الغناء يقال للصوت الذي يحرّك القوى الشهوانية في الإنسان، بحيث يشعر الإنسان في تلك الحال بأنّه لو كان إلى جانب هذا الصوت خمر ومسكر وإباحة وفساد جنسي، لكان ذلك مناسباً جدّاً!
وهناك مسألة تستحقّ الإنتباه، وهي أنّ بعض الألحان تعدّ أحياناً غناءً ولهواً باطلا بذاتها ومحتواها، مثال ذلك أشعار العشق والغرام والأشعار المفسدة التي تُقرأ بألحان وموسيقى راقصة.
وقد تكون الألحان بذاتها غناءً أحياناً اُخرى، مثال الأشعار الجيدة، أو آيات القرآن والدعاء والمناجاة التي تُقرأ بلحن يناسب مجالس الفاسدين والفسّاق، وهو حرام في كلام الصورتين "فتأمّل".
وثمّة مسألة ينبغي ذكرها، وهي أنّه يذكر للغناء معنيان: معنى عامّ، ومعنى خاصّ، والمعنى الخاصّ هو ما ذكرناه أعلاه، أي الموسيقى والألحان التي تحرّك الشهوات، وتناسب مجالس الفسق والفجور.
والمعنى العامّ هو كلّ صوت حسن، فمن فسّر الغناء بالمعنى العامّ قسّمه إلى قسمين: غناء حلال، وغناء حرام.
والمراد من الغناء الحرام: هو ما قيل أعلاه، والمراد من الغناء الحلال: الصوت الحسن الجميل والذي لا يكون باعثاً على الفساد، ولا يناسب مجالس الفسق والفجور.
وبناءً على هذا فلا يوجد إختلاف - تقريباً - في أصل تحريم الغناء، بل الإختلاف في كيفية تفسيره.
ومن الطبيعي أن يكون للغناء موارد شكّ - ككلّ المفاهيم الاُخرى - وأنّ الإنسان لا يعلم حقّاً هل أنّ الصوت الفلاني يناسب مجالس الفسق والفجور، أم لا؟ وفي هذه الصورة يحكم بالحلّية بحكم أصل البراءة، وهذا - طبعاً - بعد الإحاطة الكافية بالمفهوم العرفي للغناء طبق التعريف أعلاه.
ومن هنا يتّضح أنّ الأصوات والموسيقى الحماسية التي تناسب ساحات الحرب أو الرياضة وأمثالها لا دليل على حرمتها.
ومن الطبيعي أنّ هناك بحوثاً اُخرى في باب الغناء، من قبيل بعض الإستثناءات التي قبلها جماعة وأنكرها آخرون، ومسائل اُخرى ينبغي الكلام عنها في الكتب الفقهيّة.
والكلام الأخير هو أنّ ما ذُكر أعلاه يتعلّق بالغناء، وأمّا إستعمال الآلات الموسيقية وحرمتها، فهو بحث آخر خارج عن هذا الموضوع.
3- فلسفة تحريم الغناء:
إنّ التدقيق في مفهوم الغناء - مع الشروط التي قلناها في شرح هذا المفهوم - تجعل الغاية من تحريم الغناء واضحة جدّاً.
فبنظرة سريعة إلى معطيات الغناء سنواجه المفاسد أدناه:
أوّلا: الترغيب والدعوة إلى فساد الأخلاق.
لقد بيّنت التجربة - والتجربة خير شاهد - أنّ كثيراً من الأفراد الواقعين تحت تأثير موسيقى وألحان الغناء قد تركوا طريق التقوى، واتّجهوا نحو الشهوات والفساد.
إنّ مجلس الغناء - عادةً - يُعدّ مركزاً لأنواع المفاسد، والدافع على هذه المفاسد هو الغناء.
ونقرأ في بعض التقارير التي وردت في الصحف الأجنبية أنّه كان في مجلس جماعة من الفتيان والفتيات فعُزفت فيه موسيقى خاصّة وعلى نمط خاص من الغناء، فهيّجت الفتيان والفتيات إلى الحدّ الذي هجم فيه بعضهم على البعض الآخر، وعملوا من الفضائح ما يخجل القلم عن ذكره.
وينقل في تفسير (روح المعاني) حديثاً عن أحد زعماء بني اُميّة أنّه قال لهم: إيّاكم والغناء فإنّه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنّه ينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر(17).
وهذا يبيّن أنّه حتّى اُولئك كانوا مطّلعين على مفاسده أيضاً.
وعندما نرى في الرّوايات الإسلامية: أنّ الغناء ينبت النفاق، فإنّه إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ روح النفاق هي روح التلوّث بالفساد والإبتعاد عن التقوى.
وإذا جاء في الرّوايات أنّ الملائكة لا تدخل البيت الذي فيه غناء، فبسبب التلوّث بالفساد، لأنّ الملائكة طاهرة تطلب الطهارة، وتتأذّى من هذه الأجواء الملوّثة.
ثانياً: الغفلة عن ذكر الله:
إنّ التعبير باللهو الذي فسّر بالغناء في بعض الرّوايات الإسلامية إشارة إلى حقيقة أنّ الغناء يجعل الإنسان عبداً ثملا من الشهوات حتّى يغفل عن ذكر الله.
وفي الآيات أعلاه قرأنا أنّ "لهو الحديث" أحد عوامل الضلالة عن سبيل الله، وموجب للعذاب الأليم.
في حديث عن علي (ع): "كلّ ما ألهى عن ذكر الله (وأوقع الإنسان في وحل الشهوات) فهو من الميسر"(18) - أي في حكم القمار -.
ثالثاً: الإضرار بالأعصاب:
إنّ الغناء والموسيقى - في الحقيقة - أحد العوامل المهمّة في تخدير الأعصاب، وبتعبير آخر: إنّ الموادّ المخدّرة ترد البدن عن طريق الفمّ والشرب أحياناً كالخمر، وأحياناً عن طريق الشمّ وحاسّة الشمّ كالهيروئين، وأحياناً عن طريق التزريق كالمورفين، وأحياناً عن طريق حاسّة السمع كالغناء.
ولهذا فإنّ الغناء والموسيقى المطربة قد تجعل الأفراد منتشين أحياناً إلى حدّ يشبهون فيه السكارى، وقد لا يصل إلى هذه المرحلة أحياناً، ولكنّه يوجد تخديراً خفيفاً، ولهذا فإنّ كثيراً من مفاسد المخدّرات موجودة في الغناء، سواء كان تخديره خفيفاً أم قويّاً.
"إنّ الإنتباه بدقّة إلى سيرة مشاهير الموسيقيين يبيّن أنّهم قد واجهوا تدريجيّاً مصاعب وصدمات نفسية خلال مراحل حياتهم حتّى فقدوا أعصابهم شيئاً فشيئاً، وابتُلي عدد منهم بأمراض نفسية، وجماعة فقدوا مشاعرهم وساروا إلى دار المجانين، وبعضهم اُصيبوا بالشلل والعجز، وبعضهم اُصيب بالسكتة، حيث إرتفع ضغط الدم عندهم أثناء عزف الموسيقى"(19).
وقد جاء في بعض الكتب التي كتبت في مجال لآثار المضرّة للموسيقى على أعصاب الإنسان، حالات جمع من الموسيقيين والمغنّين المعروفين الذين اُصيبوا بالسكتة وموت الفجأة أثناء أداء برامجهم، وزهقت أرواحهم في ذلك المجلس(20).
وخلاصة القول فإنّ الآثار المضرّة للغناء والموسيقى على الأعصاب تصل إلى حدّ إيجاد الجنون، وتؤثّر على القلب وتؤدّي إلى إرتفاع ضغط الدم وغير ذلك من الآثار المخرّبة.
ويستفاد من الإحصاءات المعدّة للوفيّات في عصرنا الحالي بأنّ معدّل موت الفجأة قد إزداد بالمقارنة مع السابق، وقد ذكروا أسباباً مختلفة كان من جملتها الغناء والموسيقى.
رابعاً: الغناء أحد وسائل الإستعمار:
إنّ مستعمري العالم يخافون دائماً من وعي الشعوب، وخاصّة الشباب، ولذلك فإنّ جانباً من برامجهم الواسعة لإستمرار وإدامة الإستعمار هو إغراق المجتمعات بالغفلة والجهل والضلال، وتوسعة وسائل اللهو المفسدة.
إنّ المخدّرات لا تتّصف اليوم بصفة تجارية فقط، بل هي أحد الوسائل السياسية المهمّة، فإنّ السياسات الإستعمارية تسعى إلى إيجاد مراكز الفحشاء ونوادي القمار ووسائل اللهو الفاسدة الاُخرى، ومن جملتها توسعة ونشر الغناء والموسيقى، وهي من أهمّ الوسائل التي يصرّ عليها المستعمرون لتخدير أفكار الناس، ولهذا فإنّ الموسيقى تشكّل القسم الأكبر من وقت إذاعات العالم ووسائل الإعلام الأساسية.
1- ضمير "يتّخذها" يعود إلى (آيات الكتاب) التي وردت في الآيات السابقة. واحتمل البعض أنّه يعود إلى (السبيل)، لأنّ كلمة (السبيل) قد وردت في آيات القرآن بصيغة المذكّر تارةً، وبصيغة المؤنث تارةً اُخرى.
2- وسائل الشيعة، ج12، ص228 باب تحريم الغناء.
3- تفسير القرطبي، ج7، ص5136.
4- الحجّ، 30.
5- وسائل الشيعة، ج12، ص225 - 227، 231 باب تحريم الغناء.
6- الفرقان، 72.
7- المصدر السابق.
8- المصدر السابق.
9- المصدر السابق.
10- وسائل الشيعة، ج12، ص225 - 230.
11- المصدر السابق.
12- سفينة البحار، ج2، صفحة 338.
13- الدرّ المنثور ذيل الآية مورد البحث.
14- التاج، المجلّد، ج5، ص287.
15- تفسير روح المعاني، ذيل الآية مورد البحث.
16- تفسير روح المعاني، ذيل الآيات مورد البحث.
17- تفسير روح المعاني، الجزء 21، صفحة 60.
18- وسائل الشيعة، الجزء 12، صفحة 235.
19- تأثير الموسيقى على النفس والأعصاب، صفحة 26.
20- يراجع المصدر السابق صفحة 92 وما بعدها.