الآيات 1 - 5

﴿الم (1) تِلْكَ ءَايَـتُ الْكِتَـبِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُم بِالاْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدىً مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)﴾

التّفسير

من هم المحسنون؟

(الم) تبدأ هذه السورة بذكر أهميّة وعظمة القرآن، وبيان الحروف المقطّعة في بدايتها إشارة لطيفة إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ هذه الآيات التي تتركّب من حروف الألف باء البسيطة، لها محتوى ومفهوم سام يغيّر مصير البشر بصورة تامّة.

ولذلك فإنّها تقول بعد ذكر الحروف المقطّعة: (تلك أيات الكتاب الحكيم).

(تلك) في لغة العرب إشارة للبعيد، وقلنا مراراً أنّ هذا التعبير بالخصوص كناية عن عظمة وأهميّة هذه الآيات، وكأنّها في أعالي السماء وفي نقطة بعيدة المنال.

إنّ وصف "الكتاب" بـ "الحكيم" إمّا لقوّة ومتانة محتواه، لأنّ الباطل لا يجد إليه طريقاً وسبيلا، ويطرد عن نفسه كلّ نوع من الخرافات والأساطير، ولا يقول إلاّ الحقّ، ولا يدعو إلاّ إليه، وهذا التعبير في مقابل (لهو الحديث) الذي يأتي في الآيات التالية تماماً.

أو بمعنى أنّ القرآن كالعالم الحكيم الذي يتكلّم بألف لسان في الوقت الذي هو صامت لا ينطق، فيعلّم، ويعظ وينصح، ويرغّب ويرهّب، ويحذّر ويتوعّد، ويبيّن القصص ذات العبرة، وخلاصة القول فإنّه حكيم بكلّ معنى الكلمة.

ولهذه البداية علاقة مباشرة بكلام لقمان الحكيم الذي ورد البحث فيه في هذه السورة.

ولا مانع - طبعاً - من أن يكون المعنيان مرادين في الآية أعلاه.

ثمّ تذكر الآية التالية الهدف النهائي من نزول القرآن، فتقول: (هدىً ورحمةً للمحسنين).

إنّ الهداية في الحقيقة مقدّمة لرحمة الله، لأنّ الإنسان يجد الحقيقة أوّلا في ظلّ نور القرآن، ويعتقد بها ويعمل بها، وبعد ذلك يكون مشمولا برحمة الله الواسعة ونعمه التي لا حدّ لها.

وممّا يستحقّ الإنتباه أنّ هذه السورة إعتبرت القرآن سبباً لهداية ورحمة "المحسنين"، وفي بداية سورة النمل: (هدىً وبشرى للمؤمنين) وفي بداية سورة البقرة: (هدىً للمتّقين).

وهذا الإختلاف في التعبير ربّما كان بسبب أنّ روح التسليم وقبول الحقائق لا تحيا في الإنسان بدون التقوى، وعند ذلك سوف لا تتحقّق الهداية، وبعد مرحلة قبول الحقّ نصل إلى مرحلة الإيمان التي تتضمّن البشارة بالنعم الإلهية علاوة على الهداية، وإذا تقدّمنا أكثر فسنصل إلى مرحلة العمل الصالح، وعندها تتجلّى رحمة الله أكثر من ذي قبل.

بناءً على هذا فإنّ الآيات الثلاث أعلاه تبيّن ثلاث مراحل متعاقبة من مراحل تكامل عباد الله: مرحلة قبول الحقّ، ثمّ الإيمان، فالعمل، والقرآن في هذه المراحل مصدر الهداية والبشارة والرحمة على الترتيب - تأمّلوا ذلك -.

ثمّ تصف الآية التالية المحسنين بثلاث صفات، فتقول: (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون) فإنّ إرتباط هؤلاء بالخالق عن طريق الصلاة، وبخلق الله عن طريق الزكاة، ويقينهم بمحكمة القيامة باعث قوي على الإبتعاد عن الذنب والمعصية، ودافع لأداء الواجبات.

وتبيّن الآية الأخيرة - من الآيات مورد البحث - عاقبة عمل المحسنين، فتقول: (اُولئك على هدىً من ربّهم واُولئك هم المفلحون).

جملة (اُولئك على هدىً من ربّهم) توحي بأنّ هداية اُولئك قد ضُمنت من قبل ربّهم من جهة، ومن جهة اُخرى فإنّ التعبير بـ(على) دليل على أنّ الهداية كأنّها مطيّة سريعة السير، واُولئك قد ركبوها وأخذوا بزمامها، ومن هنا يتّضح التفاوت بين هذه الهداية، والهداية التي وردت في بداية السورة، لأنّ الهداية الاُولى هي الإستعداد لقبول الحقّ، وهذه الهداية برنامج للوصول إلى الغاية والهدف.

ثمّ إنّ جملة (اُولئك هم المفلحون) التي تدلّ على الحصر وفقاً للقواعد العربية، توحي بأنّ هذا الطريق هو الطريق الوحيد إلى الإخلاص، طريق المحسنين، طريق اُولئك المرتبطين بالله وخلقه، وطريق اُولئك الذين يؤمنون إيماناً كاملا بالمبدأ والمعاد.