الآيات 55 - 60

﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْـمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيرَ سَاعَة كَذلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالاِْيمَـنَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَـبِ اللهِ إلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَـذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَـكِنَّكُمْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذ لاَّ يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَـذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَل وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِايَة لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ أَنْتُمْ إلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ (60)﴾

التفسير

يوم لا ينفع الإعتذار:

قلنا إن في هذه السورة أبحاثاً منسجمة ومتناغمة تتعلق بالمبدأ والمعاد.. وفي الآيات - محل البحث - يعقب القرآن على البحوث التي كانت حول المبدأ والمعاد أيضاً، فيعود إلى بيان مشهد من مشاهد يوم القيامة الأليمة، وذلك بتجسيمه حالة المجرمين في ذلك اليوم، إذ يقول: (ويوم تقوم الساعة يقسمالمجرمون ما لبثوا غير ساعة) في عالم البرزخ أجل (كذلك كانوا يؤفكون)فإنّهم فيما سبق كانوا محرومين من إدراك الحقائق ومصروفين عنها.

والتعبير بـ "الساعة" عن يوم القيامة - كما أشرنا إليه سابقاً - هو إمّا لأنّ يوم القيامة يقع في لحظة مفاجئة، أو لأنّه من جهة أن أعمال العباد تحاسب بسرعة هناك، لأنّ الله سريع الحساب، ونعرف أنّ "الساعة" في لغة العرب تعني جزءاً أو لحظة من الزمن(1).

وبالرغم من أنّ الآية المتقدمة لم تشر إلى مكان (اللبث) حتى احتمل بعضهم أنّ المراد منه هو لبثهم في الدنيا، الذي هو في الواقع بمثابة لحظة عابرة لا أكثر، إلاّ أنّ الآية التي بعدها دليل واضح على أن المراد منه هو اللبث في عالم البرزخ.. وعالم ما بعد الموت.. وما قبل القيامة، لأنّ جملة (لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث) تنهي هذا اللبث إلى يوم القيامة، ولا يصح هذا إلاّ في شأن البرزخ (فلاحظوا بدقة).

ونعرف - هنا أيضاً - أن "البرزخ" ليس للجميع على شاكلة واحدة، فقسم له في البرزخ حياة واعية، وقسم مثلهم كمن يغط في نوم عميق - في عالم البرزخ - ويستيقظون في يوم القيامة، ويتصورون آلاف السنين ساعة واحدة(2).

مسألتان

الأوّل: كيف يقسم المجرمون مثل هذا القسم الكاذب؟

والجواب واضح، فهم يتصورون - واقعاً - مثل هذا التصور، ويظنون أن فترة البرزخ كانت قصيرة جدّاً، لأنّهم كانوا في حالة تشبه النوم، ألا ترى أن أصحاب الكهف الذين كانوا صالحين مؤمنين، حين أفاقوا بعد نوم طويل، تصوروا أنّهم لبثوا يوماً أو بعض يوم في منامهم.

أو أن أحد الأنبياء الواردة قصته في سورة البقرة (الآية 259) بعد أن أماته الله مئة عامة ثمّ بعثه للحياة ثانية، لم يظهر في تصوره غير أنّه لبث يوماً أو بعض يوم.

فما يمنع أن يتصور المجرمون - مع ملاحظة حالتهم الخاصة في عالم البرزخ وعدم إطلاعهم - مثل هذا التصور!؟

لذا يقول المؤمنون الذين أُوتوا العلم - كما تذكره الآية التي تأتي بعد هذه الآية -: إنّكم غير مُصيبين في قولكم، إذ لبثتم في عالم البرزخ إلى يوم القيامة، وهذا هو يوم القيامة!.

ومن هنا تتّضح المسألة الثّانية.

أي تفسير جملة (كذلك كانوا يؤفكون)لأنّ "الإفك" في الأصل معناه تبدل الوجه الحقيقي والإنصراف عن الحق، وهذه الجماعة ابتعدت عن الواقع لحالتها الخاصة في عالم البرزخ، فلم تستطع أن تحدد لبثها في عالم البرزخ.

ومع ملاحظة أنّه لاحاجة لنا إلى الأبحاث الطويلة التي بحثها جمع من المفسّرين، وفي أنّه لم يكذب المجرمون عمداً في يوم القيامة، لأنّه ليس في الآية دليل على كذبهم العمد في هذه المرحلة!.

وبالطبع فإنّنا نرى في آيات القرآن الأخر أمثلة من أكاذيب المجرمين يوم القيامة، وقد بيّنا الإجابة المفصلة على كل ذلك في ذيل الآية (23) من سورة الأنعام، لكن ذلك البحث لا علاقة له بموضوع هذه الآيات!

أمّا الآية التالية فتتحدث عن جواب المؤمنين المطلعين على كلام المجرمين الغافلين عن حالة البرزخ والقيامة فتقول: (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنّكم كنتم لاتعلمون).

وتقديم العلم على الإيمان هو لأنّ العلم أساس الإيمان.

والتعبير (في كتاب الله) لعله إشارة إلى الكتاب التكويني، أو إلى الكتاب السماوي، أو إشارة إليهما معاً، أي كان - بأمر الله التكويني والتشريعي - مقدّراً أن تلبثوا مثل هذه المدّة في البرزخ، ثمّ تحشرون في يوم القيامة(3).

وفي أن المقصود بـ (الذين أوتوا العلم والإيمان) من هم ؟!

قال بعض المفسّرين: هي إشارة إلى ملائكة الله الذين لهم علم وهم مؤمنون أيضاً.

وقال بعضهم: المقصود هم المؤمنين العالمون، والمعنى الثّاني أظهر طبعاً.

وما ورد في بعض الرّوايات من تفسير هذه الآية بالأئمّة الطاهرين، فهو من قبيل المصداق الواضح لها، ولا يحدد معناها الوسيع.

وهذه اللطيفة جديرة بالإلتفات، وهي أن بعض المفسّرين قالوا: إنّ ما قاله المجرمون مقسمين بأنّهم ما لبثوا غير ساعة، وما ردّه عليهم الذين أوتوا العلم والإيمان بأنّهم لبثوا إلى يوم البعث، هذه المحاورة والكلام منشؤهما أنّ الطائفة الأُولى - لأنّهم كانوا يتوقعون العذاب - كانوا يرغبون في تأخيره، وكانت الفاصلة وإن طالت بالنسبة لهم قصيرة جدّاً عندهم.

أمّا الطائفة الثّانية فلأنّهم كانوا ينتظرون الجنّة ونعمها الخالدة وراغبين في تقديمها، فكانوا يرون الفاصلة طويلة جدّاً(4).

وعلى كل حال، فحين يواجه المجرمون واقعهم المرير المؤلم يظهرون ندمهم ويتوبون ويعتذرون ممّا صنعوا، لكن القرآن يقول في هذا الصدد: (فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون) (5)

وتجدر الإشارة إلى هذه المسألة، وهي أن في بعض آيات القرآن تصريحاً بعدم الإذن للمجرمين أن يعتذروا (ولا يؤذن لهم فيعتذرون) (6)

غير أنّ الآية محل البحث تقول: لا ينفعهم الإعتذار هناك، وظاهرها أنّهم يعتذرون، إلاّ أنّه لا أثر لاعتذارهم.

وبالطبع فإنّه لا تضاد بين هذه الآيات، لأنّ يوم القيامة فيه مراحل مختلفة، وفي بعض المراحل لا يؤذن للمجرمين بالإعتذار أبداً ويختم على أفواههم... وإنّما تتحدث الجوارح بما أساءت فحسب... وفي بعض المراحل تنطلق ألسنتهم بالإعتذار، إلاّ أنّه... لا ينفعهم الإعتذار أبداً.؟!

وواحد من أعذارهم أنّهم يلقون تبعات ذنوبهم على أشياخهم في الكفر والنفاق، فيقولون لهم: (لولا أنتم لكنا مؤمنين) (7)، إلاّ أن أُولئك يردون عليهم بالقول: (أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم) (8)

وأحياناً يلقون اللوم على الشيطان في تضليلهم وانحرافهم وأنّه وسوس لهم، إلاّ أن الشيطان يجيبهم (فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) (9)، أي لم أكرهكم على الكفر، إلاّ أنّكم استجبتم لي برغبتكم.

وفي الآية التالية إشارة لجميع المواضيع الوارد بيانها في هذه السورة... إذ تقول: (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل) لقد ذكرنا فيه الوعد والوعيد، الأمر والنهي، البشارة والإنذار، الآيات الآفاقية والأنفسية، دلائل المبدأ والمعاد والأخبار الغيبية والخلاصة ذكرنا فيه كل شىء يمكن أن يؤثر في نفوس الناس.

وفي الحقيقة، إنّ في القرآن - بشكل عام - وسورة الروم - بشكل خاص - حيث نحن الآن في مراحلها النهائية، مجموعة من المسائل والدروس الموقظة لكل فئة، ولكل طبقة، ولكل جماعة، ولكل فكر وأسلوب... مجموعة من العبر، والمسائل الأخلاقية، والخطط والمناهج العملية، والأُمور الإعتقادية، بحيث استفيد من جميع الطرق والأساليب المختلفة للنفوذ في أفكارالناس ودعوتهم إلى طريق السعادة!

ومع هذه الحال، فهناك طائفة لا يؤثر في قلوبهم المظلمة السوداء أي من هذه الأُمور، لذلك يقول القرآن في شأنهم: (ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلاّ مبطلون).

والتعبير بـ "مبطلون" تعبير جامع يحمل كل معاني الدجل والإفتراء والنسب الكاذبة والفاسدة من قبل المشركين، كنسبة الكذب للنبي(ص) والسحر والجنون والأساطير الخرافية، إذ أن كل واحد من هذه الأُمور يمثل وجهاً من وجوه الباطل، وقد جمعت كل هذه الأُمور تحت كلمة "مبطلون".

أجل، إنّهم كانوا يتهمون الأنبياء دائماً بواحد من هذه الأُمور الباطلة، ليشغلوا عنهم الناس الطيبين الطاهرين ولو لعدّة أيّام - بما ينسبونه للأنبياء ممّا أشرنا إليه.

والمخاطب في كلمة "أنتم" يمكن أن يكون النّبي(ص) والمؤمنين الحقيقيين، ويمكن أن يكون جميع أصحاب الحق من الأنيباء والائمّة المعصومين(ع)وأتباعهم، لأنّ هذه المجموعة من الكفار تخالف جميع اتباع الحق.

والآية التي بعدها تبيّن السبب في مخالفة هذه الطائفة، فتقول: إن لجاجة هؤلاءالتي لاحدّ لها وعداءهم للحق، إنّما هو لفقدانهم الإحساس والإدراكبسبب كثرة ذنوبهم، ولأنّهم لا يعلمون شيئاً... إذ تقول: (كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون).

وكلمة "يطبع" مأخوذة من الطبع، ومعناها ختم الشيء، وهي إشارة إلى ما كان يجري في السابق، وهو جار أيضاً اليوم إذ يختم على الشيء كيلا يتصرف به ويُغلق بإحكام، وقد يضعون عليه القفل ويضربون عليه مادة لزجة مختومة بإشارة معينة كما بيّنا بحيث لا يمكن فتح ذلك الشيء إلاّ بكسره، فيفتضح أمره بسرعة.

وكان القرآن استعمل هذا التعبير كناية عن القلوب التي لا ينفذ إليها النصح، والذين فقدوا الوجدان والعقل والعلم، ولا أمل في هدايتهم.

وممّا يسترعي الإنتباه أنّ في الآيات السابقة ذكر العلم أساساً للإيمان، وفي هذه الآية ذُكر الجهل أساساً للكفر وعدم التسليم للحق.

أمّا آخر آية - من الآيات محل البحث - التي تقع في آخر سورة الروم، فهي تأمر النّبي(ص) أمرين مهمين، وتبشره بشارة كبرى، لتحثه على مواصلة الوقوف والتصدي للمشركين والجاهلين والسفهاء بالاستقامة والصبر.

تقول أوّلا: اذا كان الأمر كذلك، فعليك بالصبر والإستقامة امام الحوادث المختلفة، وفي مقابل انواع الأذى والبهتان والمصاعب (فاصبر).

لأنّ الصبر والإستقامة هما مفتاح النصر الأصيل.

وليكون النّبي(ص) أكثر اطمئناناً، فإنّ الآية تضيف (إن وعد الله حق) فقد وعدك والمؤمنين بالنصر، والإستخلاف في الأرض، وغلبة الإسلام على الكفر، والنور على الظلمة، والعلم على الجهل.

وسوف يُلبس هذا الوعد ثوب العمل!.

وكلمة "الوعد" هنا إشارة إلى الوعود المكررة التي وعدها القرآن في انتصار المؤمنين، ومن ضمنها الآية (47) من هذه السورة (وكان حقّاً علينا نصر المؤمنين).

والآية (51) من سورة غافر (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنياويوم يقوم الإشهاد!).

وتقول الآية (56) من سورة المائدة أيضاً (فإنّ حزب الله هم الغالبون).

وتأمر ثانياً بضبط الأعصاب والهدوء وعدم الإنحراف في المواجهة الشديدة والمتتابعة، حيث تقول الآية: (ولا يستخفنّك الذين لا يوقنون).

إنّ مسؤوليتك أن تتحمل كل شيء، وأن يتسع صدرك وخلقك لجميع الناس فهذا هو الجدير بقائد وزعيم لأمثال هؤلاء.

كلمة (لا يستخفنّك) مشتقّة من "الخفة" وهي خلاف الثقل، أي كن رزيناً قائماً على قدميك لئلا يهزك مثل هؤلاء الأفراد ويحركوك من مكانك، وكن ثابتاً ومواصلا للمسيرة باطمئنان، إذ أنّهم فاقدوا اليقين، وأنت مركز اليقين والإيمان!.

هذه السورة بدأت بوعد انتصار المؤمنين على الأعداء، وانتهت أيضاً بهذا الوعد، إلاّ أن شرطها الأساس هو الصبر والاستقامة!.

ربّنا، هب لنا صبراً واستقامة حتى لا يهزنا طوفان الحوادث والمشاكل من مكاننا أبداً.

إلهنا، نلتجىء إلى ذاتك المقدسة، ألاّ نكون من زمرة الذين لا تؤثر في قلوبهم الموعظة والنصح والإرشاد والعبر والنذر!.

إلهنا، إن أعداءنا متحدون، وهم مسلّحون بأنواع الأسلحة الشيطانية، فانصرنا - ربّنا - على أعدائنا في الخارج، وشيطاننا في الداخل.

آمين يا رب العالمين

انتهاء سورة الروم


1- كان لنا في هذا الصدد بحث مفصّل ذيل الآية (14) من هذه السورة.

2- بيّنا هذا البحث "المتعلق بموضوع البرزخ" في ذيل الآية 100، من سورة المؤمنون، كما نوّهنا عن هذه اللطيفة والمسألة الدقيقة هناك.

3- في كون الآية، هل فيها تقديم وتأخير، أم لا؟ هناك كلام ونقاش بين المفسّرين والعلماء، فقال بعضهم "في كتاب الله" متعلق بجملة "أوتوا العلم والإيمان" فيكون معنى الآية هكذا: الذين أوتوا العلم في كتاب الله ويؤمنون به قالوا مثل هذا الكلام، وقال بعضهم "في كتاب الله" متعلق بجملة "لبثتم" ونحن اخترنا هذا الرأي أيضا في شرحنا للآية، لأنّ الحكم بالتقديم والتأخير بحتاج إلى قرينة واضحة ولا نجد هنا قرينة على ذلك!.

4- تفسير الفخر الرازي ذيل الآيات محل البحث.

5- كلمة "يستعتبون" مشتقة من "عتب" على وزن "حتم" ومعناها في الأصل الإضطراب النفسي "الداخلي" وحين يصاغ هذا الفعل من باب الإفعال فيكون معناه ازالة هذا الأثر والإضطراب، كما جاء في لسان العرب أن الإستفعال يؤدي معنى الإفعال هنا، لذلك يقال في شأن الإسترضاء معناه طلب الرضا والتوبة، ومعنى الكلمة هنا في الآية هو بمثل ما ذكرناه، ومعنى ذلك أنّ المجرمين في يوم القيامة ليس لهم القدرة على التوبة.

6. ـ المرسلات، الآية 36.

7. ـ سبأ، الآية 31.

8. ـ سبأ، الآية 32.

9. ـ إبراهيم، الآية 22. .