الآيات 51 - 54

﴿وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ (52) وَمَآ أَنْتَ بِهَـدِ الْعُمْىِ عَن ضَلَـلَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَيَـتِنَا فَهُمْ مُّسْلِمُونَ (53) اللهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّنْ ضَعْف ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْف قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ قُوَة ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) ﴾

التفسير

الموتى والصُّمّ لا يسمعون كلامك:

حيث أنّ الكلام كان - في الآيات السابقة - عن الرياح المباركة التي كانت مبشرات بالغيث والرحمة، ففي أوّل آية من الآيات أعلاه إشارة إلى الرياح المدمرّة والتي تجلب الضرر، إذ يقول القرآن في هذا الصدد: (ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفرّاً لظلّوا من بعده يكفرون).

أُولئك هم الضعفاء الحمقى فهم قبل نزول الغيث مبلسون آيسون، وبعد نزوله مستبشرون، وإذا هبت ريح صفراء في بعض الأيّام وابتلُوا مؤقتاً تراهم يتصارخون وبالكفر يجأرون ويتجرأون!

على العكس من المؤمنين الصادقين الذين هم بنعمة الله مستبشرون وعليهايشكرون، وعند نزول المصائب والمشاكل تراهم صابرون، ولا يؤثر التغيير المعاشي والحياتي المادي في إيمانهم أبداً، وليسوا كعمي القلوب ضعيفي الإيمان، الذين يظهرون إيمانهم بمجرّد هبوب الريح، ويكفرون مرّة أُخرى إذا هبت الريح بشكل آخر!

وكلمة "مصفراً" مشتقّة من "الصُفرة" على زنة "سفرة" وهي لون معروف، ويعتقد أكثر المفسّرين أن الضمير في "رأوه" يعود على الشجر والنباتات التي تصفر وذبل على أثر هبوب الرياح المخربة.

واحتمل بعضهم أنّ الضمير يعود على السحاب، والسحاب المصفّر طبعاً سحاب خفيف، وهو عادة لا يحمل قطراً، على العكس من الغيوم السود الكثيرة، فإنّها تولد الغيث والقطر.

كما يعتقد بعضهم أنّ الضمير في "رأوه" يعود على الريح، لأنّ الرياح الطبيعية عادة لا لون فيها (فهي عديمة اللون) إلاّ أن الرياح التي تهب وهي مصفرة، فهي ريح سموم وهجير، وفي كثير من الأحيان تحمل معها الغبار.

وهناك احتمال رابع، وهو أنّ "المصفّر" معناه الخالي، لأنّه كما يقول الراغب في مفرداته، يطلق على الإناء الخالي، والبطن الخالية من الطعام، والأوردة من الدم أنّها (صفر) على وزن (سفر)، فعلى هذا يكون هذا التعبير آنف الذكر في شأن الرياح الخالية من القطر والغيث.

وفي هذه الصورة يعود الضمير في "رأوه" على الريح (فلاحظوا بدقة).

إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أشهر من الجميع!

وما يستلفت النظر، هو أنّ الرياح النافعة ذات الغيث جاءت هنا بصيغة الجمع، ولكن على العكس منها الريح التي تجلب الضرر فقد جاءت بصيغة المفرد، وهي إشارة إلى أنّ معظم الرياح نافعة ومفيدة، غير أن ريح السموم هي منالحالات الإستثنائية التي تهب أحياناً في السنة مرّة أو في الشهر مرّة.. لكن الرياح المفيدة تهب دائماً (ليل نهار).

أو أنّها إشارة إلى أنّ الرياح النافعة إنّما تكون كذلك ويكون لها أثرها المفيد، إذا تتابعت، غير أن الريح السيئة تترك أثرها عند هبوبها في المرّة الأولى.

وآخر ما ينبغي الإشارة إليه من اللطائف الضرورية في ذيل هذه الآية، هو التفاوت ما بين (يستبشرون) في شأن الرياح النافعة التي ذكرتها الآية المتقدمة، وجملة (لظلوا من بعده يكفرون) الواردة في الآية محل البحث.

وهذا الإختلاف أو التفاوت يدل على أنّهم يرون هذه النعم العظيمة المتتابعة التي أنعمها الله عليهم فيفرحون ويستبشرون، غير أنّهم لو أصيبوا مرّة واحدة أو يوماً واحداً بمصيبة، فإنّهم يضجون ويكفرون حتى كأنّهم غير تاركين للكفر، حل بهم!.

وهذا تماماً يشابه حال أُولئك الذين يعيشون عمراً بسلامة ولا يشكرون الله، لكنّهم إذا مرضوا ليلة واحدة بالحمى "واشتعلوا بحرارتها" فإنّهم يظهرون الكفر وهذه هي حال الجهلة من ضعفاء الإيمان، وكان لنا في هذا الصدد في الآية (35) من هذه السورة، والآيتين (رقم 9) و (رقم 10) من سوره هود، والآية (11) من سورة الحج بحوث أخر أيضاً.

وفي الآيتين التاليتين - بمناسبة البحث الوارد في الآية السابقة - فإن الناس يُقسمون إلى أربعة طوائف:

1 - طائفة "الموتى" الذين لا يدركون أية حقيقة، وإن كانوا أحياءً في الظاهر!

2 - وطائفة "الصُم" الذين هم غير مستعدين للإستماع إلى الكلام الحق.

3 - وطائفة "العمي" الذي حُرموا من رؤية وجه الحق!

4 - وأخيراً طائفة المؤمنين الصادقين الذين لهم قلوب يفقهون بها، ولهمأعين يبصرون بها، ولهم آذان يسمعون بها.

فتقول الآية الأولى: (فإنّك لا تسمع الموتى) ولذلك لا تؤثر مواعظك في أصحاب القلوب الميتة.

وكذلك (ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين).

وتأتي الآية الثّانية لبيان بقية الطوائف فتقول: (وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلاّ من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون).

وكما قلنا من قبل، فإنّ القرآن لديه ماهو أفضل من "الحياة والموت الماديين والجسمانيين" وأفضل من السمع والبصر الظاهريين فلديه نوع اسمى من هذه الحياة والموت والسمع والبصر، وتكمن فيها سعادة الإنسان أو شقاؤه!

فالقرآن لديه معيار لتقييم هذه الأمور، لا بالقيمة المادية والفيزيائية، بل القيمة المعنوية والإنسانية.

والشرط الأوّل لإدراك الحقيقة أن يكون للإنسان قلب مهيأ ومستعد، وعين باصرة وأذن سميعة، وإلاّ فلو اجتمع جميع الأنبياء والأولياء وتلوا جميع الآيات الإلهية على من لا يدرك الحقيقة لما اقترفه من الذنوب واللجاجة والعناد، فإنها لن تؤثر فيه!.

وإنّما أشار القرآن إلى هاتين الحاستين الظاهرتين، بالإضافة إلى الإدراك الباطني فحسب، فلأجل أن أكثر معلومات الإنسان، إمّا أن يكون عن طريق هاتين الحاستين العين والأذن، أو عن طريق الوجدان والتحليل العقلي!

والطريف هنا أنّ المراحل الثلاث - الواردة في الآيات الآنفة الذكر - هي ثلاث مراحل مختلفة من الإنحراف وعدم درك الحقيقة، وهي تبدأ من شديدها وتنتهي بالخفيف منها!

فالمرحلة الأولى: هي موت القلوب المعبر عنها بـ "الموتى" وهذه المرحلة ليس للحقيقة أي طريق للنفوذ فيها.

والمرحلة الثّانية: مرحلة "الصمم" وعدم السمع، ولا سيما عند أُولئك الذين يديرون ظهورهم وهم في حالة الفرار، فقد يؤثر فيهم الصراخ الشديد لو كانوا قريبين، لكن في مثل هذه الحال وهم يفرون، فلا!

وبالطبع فإنّ هذه الطائفة ليست كالموتى، فمن الممكن أحياناً أن يتمّ تفهيمهم بالإشارة أو العلامة، إلاّ أنّنا نعرف أن كثيراً من الحقائق لا يمكن بيانها وإيصالها إلى الذهن بالإشارة! وخاصة حين يدير الطرف الآخر ظهره ويكون بعيداً.

المرحلة الثّالثة: (العمى)، وبالطبع فإن الحياة مع العمي أسهل بمراتب من الحياة مع "الصُم" أو الحياة مع "الموتى"، فعلى الأقل لديهم آذان سميعة، ويمكن إيصال كثير من المفاهيم إليهم... لكن اين السمع في إدراك الحقائق من البصر؟!

ثمّ بعد هذا كلّه، فإنّ تبيين المسائل غير كاف وحده، فلنفرض أن يقال للأعمى سر باتجاه اليمين أو اليسار، فإنّ تطبيق هذا الأمر ليس سهلا، وربّما بأقل خطأ - أحياناً - في تحديد المقدار، يؤدي بالأعمى إلى السقوط!

وفي بحثنا المفصل في ذيل الآيتين (80) و (81) من سورة النمل، بيّنا - ضمن التحليل لحقيقة الحياة والموت - الإشكال الواهي الذي أثاره جماعة من الوهابيين، إذ يستعينون بمثل هذه الآيات - محل البحث وغيرها - لإثبات عدم جواز التوسل بالنّبي والأئمّة الطاهرين، ويقولون: إنّ الموتى (حتى النّبي) لايفهمون شيئاً.

غير أنّنا أثبتنا هناك أن الإنسان - خاصّة من هو بمستوى الأئمة الكرام والشهداء العظام - له نوع من الحياة البرزخية بعد الموت، وهناك وثائق كثيرة وأدلة متعددة من القرآن والأحاديث تشهد بذلك وتؤيده، وفي هذه الحياة البرزخية إدراك وبصر أوسع من الحياة الدنيوية (لمزيد الإيضاح يراجع التّفسير الأمثل، ذيل الآيات المشار إليها آنفاً).

وهنا ينبغي أن نضيف هذه الجملة، وهي أن جميع المسلمين في صلاتهم - دائماً - يخاطبون النّبي(ص) ويلسمون عليه بهذه الجملة "السلام عليك أيّها النّبي ورحمة الله وبركاته" ونعرف أنّ المخاطبة الحقيقة لا المجازية يجب أن تكون - حتماً - مع إنسان يسمع ويدرك!

فعلى هذا الأساس لازم السلام على النّبي بهيأة المخاطبة من بعيد أو قريب، أن روحه المقدسة تسمع جميع هذه التحيات، ولا دليل يقودنا إلى أن نحمل هذه التحيات على المجاز!.

وفي آخر آية - من الآيات محل البحث - يشير القرآن إلى دليل آخر من أدلة التوحيد، وهو دليل الفقر والغنى، ويكمل البحوث التي تدور حول التوحيد في هذه السورة، فيقول: (الله الذي خلقكم من ضعف ثمّ جعل من بعد ضعف قوة ثمّ جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة).

كنتم في البداية ضعافاً إلى درجة أنّكم لم تكن لكم القدرة على طرد الذباب عنكم، أو أن تحافظوا على لعاب أفواهكم أن يسيل، هذا من الناحية الجسمية، أمّا من الناحية الفكرية فمصداقة قوله تعالى: (لاتعلمون شيئاً) بحيث لم تعرفوا حتى أبويكم المشفقين عليكم.

لكن - قليلا قليلا - صرتم ذوي رشد وقوّة، وصار لكم جسم قوي، وفكر جيد، وعقل مقتدر إدراك واسع!

ومع هذه الحال لم تستطيعوا أن تحافظوا على هذه القوّة، فمثلكم كمن يصعد من طرف الجبل إلى قمته، ثمّ يبدأ بالإنحدار من القمة إلى قعر الوادي، الذي يمثل "مرحلة ضعف الجسم والروح".

هذا التغير والصعود والنّزول خير دليل لهذه الحقيقة، وهي أنّه لم تكن القوّة من عندكم ولا الضعف، فكل منهما كان من جهة أُخرى، وهذا بنفسه دليل على أن وراءكم من يدبّر اُموركم ويسيّر حياتكم وما عندكم فهو أمر عارض!

وهذا هو ما أشار إليه الإمام أمير المؤمنين(ع) في كلامه النيّر إذ قال: "عرفت الله بفسخ العزائم وحل العقود ونقض الهمم" (1).

لقد عرفت من هذا الإختلاف والتغير أن القوة الأصلية ليست بأيدينا، فهي بيد الله، وليس لدينا بنحو مستقل أي شيء سوى ما وهبنا إيّاه!

ومن الطريف أنّ القرآن يضيف - عند بيان الضعف الثّاني للإنسان - كلمة (وشيبة) غير أنّه لم يذكر "الطفولة" في الضعف الأول... وهذا التعبير ربّما كان إشارة إلى أن ضعف الشيخوخة والشيب أشدّ ألماً، لأنّه على العكس من ضعف الطفولة، إذ يتجه نحو الفناء والموت... هذا أوّلا.

وثانياً فإن ما يتوقع من الشيبة والمسنين مع ما لهم تجارب ليس كما يتوقع من الأطفال، على حين أن ضعف كل منهما مشابه للآخر، وهذا الموضوع يدعوا إلى الإعتبار كثيراً.

فهذه المرحلة هي التي تدفع الأقوياء والطغاة إلى الانحناء، وتجرهم إلى الضعف والذلة!

أمّا آخر جملة في الآية فهي إشارة إلى علم الله الواسع وقدرته المطلقة: (يخلق ما يشاء وهو العليم القدير) وهي بشارة وإنذار في الوقت ذاته، أي إن الله مطلع على جميع نيّاتكم، وهو قدير على مجازاتكم وثوابكم!


1- نهج البلاغة، الكلمات القصار، الجملة 250.