الآيات 46 - 50

﴿وَمِنْ ءَايَـتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرت وَلِيُذِيقَكُمْ مِّنْ رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرىَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلا إلى قَوْمِهمْ فَجَآءُوهُمْ بِالْبَيِّنَـتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَينَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَـحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِى السَّمآءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَـلِهِ فَإِذآ أَصَابَ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُواْ مِنْ قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إلى ءَاثَـرِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِى الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ ذلِكَ لَـمُحْيِى الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ (50) ﴾

التفسير

انظر إلى آثار رحمة الله:

قلنا: إن في هذه السورة قسماً مهمّاً "يستلفت النظر" من دلائل التوحيدوآيات الله، مبيناً في سبع آيات تبدأ كل منها بقوله: (ومن آياته) قرأنا ست آيات منها بصورة متتابعة، والآية الأُولى من الآيات اعلاه هي سابع الآيات التي مرت.

وآخرها.

وحيث كان الكلام في الآيات السابقة عن الإيمان والعمل الصالح، فبيان دلائل التوحيد - أيضاً - تأكيداً على ذلك!

تقول هذه الآية: (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات) فهي تمضي سابقةً للغيث في حركتها، فتجمع القطع المتفرقة من الغيوم وتربط بينها وتؤلفها وتحملها إلى الأرض اليابسة العطشى، وتغطي صفحة السماء، ومع تغير درجة حرارة الجو تهيء المطر للنزول من هذه الغيوم.

ولعلّ أهمية قدوم الرياح المبشرات - لأهل المدن المتنعمة - ليست جليّة واضحة.. إلاّ أن أهل الصحاري اليابسة الظمأى إلى المطر، ما إن تتحرك الرياح مصحوبة بالسحاب التي هطلت في نقطة أُخرى - والنسيم يحمل رائحة الطلّ والرطوبة منها، حتى يلمع وميض الأمل في قلوبهم.

وبالرغم من أنّ آيات القرآن تستند إلى البشارة في نزول الغيث أكثر من غيرها، إلاّ أنّه لا يمكن تحديد كلمة "مبشرات" في هذا المضمون فحسب، لأنّ الرياح تصحب بشائر أخر أيضاً.

فالرياح تبدل حرارة الجو وبرودته الشديدة إلى "الإعتدال".

والرياح تستهلك العفونة في الفضاء الكبير وتصفي الهواء.

والرياح تخفف من وطء حرارة الشمس على الأوراق والنباتات، وتمنع من احتراقها بحرارة الشمس.

كما أنّ الرياح تنقل غاز الأوكسجين المتولد من النباتات وأوراق الشجر - إلى الإنسان، وتهب غاز ثاني أوكسيد الكاربون الخارج مع زفير الإنسان وتنفسه إلى النباتات أيضاً.

وهي كذلك تؤدي وظيفة أُخرى، فقد أرسلها الله لواقح تنقل معها لقاح الأزهار الذكور للاناث.

والرياح تحرك الطواحين الهوائية وتصفي البيادر.

والرياح تنقل البذور من المناطق التي قد تجمعت فيها وتنثرها وتبسطها على الصحراء، كأنّها فلاح مشفق، فتغدو خضراء ممرعة بعد أن كانت يباباً.

والرياح تنقل السفن مع مسافريها وأثقالهم إلى نقاط مختلفة.

وحتى في هذا العصر الذي حلت الوسائل الحديثة "الماكنات" مكان الرياح، فما تزال الرياح ذات أثر بالنسبة للسفن في اتجاهاتها المخالفة لها أو الموافقة لها... سرعةً وبطأً!

أجل، أنّ الرياح مبشرات من جهات شتى.

ولذلك فنحن نقرأ في تعقيب الآية قوله تعالى: (وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون).

أجل، إنّ الرياح هي وسيلة لتكاثر النعم العديدة في مجال الزراعة والتدجين، وهي وسيلة للحمل والنقل أيضاً، وأخيراً فهي سبب للإزدهار التجاري.

وقد أشير إلى الموضوع الأوّل بجملة (وليذيقكم من رحمته) وإلى الثّاني بجملة (ولتجري الفلك بأمره) وللثالث بجملة (ولتبتغوا من فضله)!

والطريف هنا أن جميع هذه البركات منشؤها الحركة، الحركة في ذرات الهواء في الفضاء الجوي لكن لا يُعرف قدر أية نعمة حتى تسلب عن الإنسان! فيعرفها حينذاك.

فما لم تتوقف هذه الرياح والنسائم، فلا يعرف الإنسان ماذا يحلّ به من بلاء؟!

فتوقف الهواء يجعل الحياة في أفضل الحقول كالحياة في أشد المطامير والسجون ظلمةً! وعلى العكس فلو أن نسيماً عليلا هب في خلايا السجونالإنفرادية لجعلها كالفضاء الرحب "المفتوح"، وعادةً فإنّ واحداً من أساليب التعذيب في السجون هو سدّ منافذ الهواء!.

حتى أنّ الهواء لو توقف في المحيطات وهدأت الأمواج، لأصبحت حياة الحيوانات البحرية مهددة بالخطر على أثر قلّة الأوكسجين، ويتحول البحر حينذاك إلى مستنقع متعفن موحش!

يقول "الفخر الرازي" إن جملة (وليذيقكم من رحمته) مع ملاحظة أن الإذاقة تستعمل في الشيء القليل، فهي إشارة أن جميع الدنيا ونعمها لاتتجاور الرحمة القليلة، أمّا الرحمة الواسعة (من قبل الله) فهي خاصة بالحياة الأُخرى!.

وفي الآية التالية يقع الكلام عن إرسال الأنبياء إلى قومهم، في حين أن الآية التي بعدها تتحدث عن هبوب الرياح مرّة أُخرى، ولعل وجود هذه الآية بين آيتين تتحدثان عن نعمة هبوب الرياح له جانب اعتراضي، كما يذهب إلى ذلك بعض المفسّرين.

ولعل ذكر النبوّة إلى جانب هذه المسائل، إنّما هو لإكمال البحث المتعلق بالمبدأ والمعاد، إذْ ورد البحث عنهما مراراً في هذه السورة كما قاله بعض المفسّرين.

ويمكن أن يكون وجود هذه الآية إنذاراً لأُولئك الذين يتمتعون بجميع هذه النعم الكثيرة ويكفرون بها.

وعلى كل حال، فإنّ الآية تقول: (ولقد أرسنا رسلنا إلى قومهم فجاءوهم بالبيّنات) أي المعجزات والدلائل الواضحة والبراهين العقلية، فاستجاب جماعة منهم لهذه الدلائل، ولم يستجب آخرون لها برغم النصائح (فانتقمنا من الذين أجرموا) ونصرنا المؤمنين (وكان حقّاً علينا نصر المؤمنين).

والتعبير بـ "كان" التي تدل على أن هذه السنة لها جدر عميق، والتعبير بـ "حقّاً" وبعده التعبير بـ "علينا" هو بنفسه مبين للحق ومشعر به، جميع هذهالألفاظ تأكيدات متتابعة في هذا المجال وتقديم "حقاً علينا" على "نصر المؤمنين" الذي يدل على الحصر، هو تأكيد آخر.

وبالمجموع تعطي الآية هذا المعنى "إن نصر المؤمنين من المسلّم به هو في عهدتنا وهذا الوعد سنجعله عملياً دون الحاجة إلى نصر من الآخرين".

وهذه الجملة - ضمناً - فيها تسلية وطمأنة لقلوب المسلمين، الذين كانوا حينئذ في مكّة تحت ضغوط الأعداء واضطهادهم وكان الأعداء أكثر عَدَداً وعُدَداً.

وأساساً فإنّ أعداء الله طالما كانوا غرقى في الآثام والذنوب، فإنّ ذلك بنفسه أحد عوامل انتصار المؤمنين، لأنّ الذنب سيدمرهم آخر الأمر ويهيء وسائل هلاكهم بأيديهم، ويرسل عليهم نقمة الله.

أمّا الآية الأُخرى فتعود ثانية لذكر نعمة هبوب الرياح فتقول: (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاءُ ويجعله كسفاً) (1) أي القطع الصغيره المتراكمة ثمّ تخرج قطرات المطر منها على شكل حبات صغيرة (فترى الودق يخرج من خلاله). (2)

أجل، إن واحداً من الآثار المهمة عند نزول الغيث، يقع على عاتق الرياح، إذ تحمل قطعات السحاب من البحر إلى الأرض العطشى واليابسة، والرياح هي المأمورة ببسط السحاب والغيوم في السماء جعلها متراكمة بعضها فوق بعض، وبعد أن تلطف الجو وتصيره رطباً تهيء الغيث للنزول.

إن مثل الرياح كمثل راعي الغنم المحنّك، الذي يجمع قطيع الغنم عند الإقتضاء من أطراف الصحراء، ويسير بها في مسير معيّن ليقوم بالتالي على حلب لبنها!.

وجملة (فترى الودق يخرج من خلاله) لعلها إشارة إلى أن غلظة الغيوم وشدة هبوب الرياح، ليستا في تلك الدرجة التي تمنع خروج قطرات الغيث الصغيرة من الغيم ونزولها على الأرض، بل إن هذه الذرات الصغيرة - على الرغم من الغيوم المغطاة بها صفحة السماء - تجد طريقها من خلال الغيوم إلى الأرض، وتتناثر ناعمةً على الأراضي العطشى حتى ترويها بصورة جيدة وفي الوقت ذاته لا تدمر الثمر.

إن الرياح الشديدة والاعاصير التي تقلع الشجرة من أصلها أحياناً - على عظمتها وتحرك الصخور، تأذن للقطرة الناعمة أن تمرّ من خلالها وتستقر على الأرض!

وينبغي الإلتفات إلى أن كون السحاب قطعات متراكمة "كِسَفاً" - وإن لم يكن لنا جلياً بهذه الصورة - في اليوم الغائم، حيث تغطي هذه القطع صفحة السماء، فلا نحس بأنّها على شكل قطع، بل نراه سحاباً مبسوطاً.. لكن حين تقلّنا الطائرة وتحلق بنا فوق السحاب أو من خلاله، نلمس هذه الظاهرة بوضوح!

ويضيف القرآن في نهاية الآية قائلا: (وإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون).

ثمّ تأتي الآية الأُخرى بعدها فتقول: (وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين)(3).

وإنّما يدرك هذا اليأس أو تلك البشارة أمثال العرب الذين يعيشون في رحلاتهم وتنقّلهم في الصحراء، ولحياتهم علاقة وصلة قريبة مع هذه القطرات، فأُولئك يتفق أحياناً أن يلقى اليأس ظلاله السوداء على أنفسهم الظمأى، كما أن أراضيهم ومزارعهم تبدو عليها آثار العطش، وفجأة تهب الرياح المبشرة بنزول المطر، الرياح التي يشمّ من خلالها رائحة "الغيث"! وتمرّ لحظات، فتتسع الغيوم في السماء ثمّ تغلظ وتكون أكثر كثافةً، ثمّ ينزل "القطر" والغيث، وتمتلىء الحفر بالماء الزلازل، وتفيض الروافد والسواقي الصغيرة والكبيرة من هذه المائدة السماوية، وتعود الحياة النضرة إلى الأرض اليابسة، كما تتبرعم الآمال في قلوب الرحّل في الصحراء ويشرق الأمل في قلوبهم، وتنجلي عنها غيوم الظلمة واليأس والقنوط!

ويبدو أن تكرار كلمة "من قبل" في الآية للتأكيد، إذ تبيّن الآية أن الوجوه كانت عابسة متجهمة من قبل المطر بلحظات، أجل... لحظات قبل المطر، وهم قلقون ولكن حين ينزل عليهم الغيث... تشرق فجأة الوجوه وتبتسم الشفاه، فكم هو موجود ضعيف هذا الإنسان! وكم هو رحيم هذا الربّ.

ومثل هذا التعبير وارد في كلماتنا العرفية حيث نقول مثلا: إن فلاناً كان بالامس، نعم بالامس صديقاً لنا، واليوم هو من اعدائنا... والهدف من هذا التكرار هو التأكيد على تغيير حالات الإنسان.

وفي آخر آية - من الآيات محل البحث - يتوجه الخطاب إلى النّبي(ص) قائلا: (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها).

والإهتمام أو الإعتماد على كلمة "انظر" هو إشارة إلى أن آثار رحمة الله في إحياء الأرض بالمطر، هي من الوضوح بمكان بحيث تكفي نظرة واحدة لمشاهدة هذه الآثار، دون حاجة للبحث والتدقيق.

والتعبير بـ(رحمة الله) في شأن المطر هو إشارة الآثار المباركة فيه من جهات مختلفة!.

فالمطر يسقي الأرض ويرعى بذور النباتات... ويهب الأشجار الحياة الجديدة!

وهو ينقىّ الجو والمحيط من الغبار المتراكم أو المتناثر في الفضاء.

وهو يغسل النباتات ويمنحها النضرة والطراوة!.

وهو يمضي إلى أعماق التربة والأرض، وبعد فترة يعود على شكل عيون وقنوات إلى سطح الأرض.

والمطر يدفع الأنهار والسيول وبعد تجمعها خلف السدود يتولد منها "الكهرباء" أو الطاقة والنور والحركة!.

وأخيراً فإنّ قطر السماء يحسّن الجوّ إذ يخفف من شدّة الحر، ويهدىء من شدّة البرودة.

والتعبير بـ "الرحمة" عن المطر مذكور في عدة آيات من القرآن كما في الآية (48) من سورة الفرقان، والآية (63) من سورة النمل، ونقرأ كذلك في سورة الشورى الآية (28) قوله تعالى: (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته).

ومع الإلتفات إلى العلاقة بين المبدأ والمعاد في المسائل المختلفة فإن "القرآن" يضيف قائلا في نهاية الآية: (إنّ ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء قدير).

والتعبير بـ "محيي" بصيغة اسم الفاعل مكان الفعل المضارع، وخاصّة مع كونه مسبوقاً بلام التوكيد، دليل على منتهى التأكيد.

ولقد رأينا مراراً في آيات القرآن الكريم، أن هذا الكتاب السماوي - من أجل إثبات مسألة المعاد - ينتخب نزول الغيث وإحياء الأرض بعد موتها شاهداً على ذلك!.

ففي سورة (ق) الآية (11) يعقب القرآن بعد التعبير بحياة الأرض بعد موتها قائلا: (كذلك الخروج)!

ويشبه هذا التعبير في الآية (رقم 9) من سورة فاطر إذ يقول القرآن: (كذلك النشور).

والواقع أن قانون الحياة والموت في كل مكان متشابه.. فالذي يحي الأرض الميتة بقطرات السماء، ويهبها الحركة والبهجة، ويتكرر هذا العمل على طول السنة، وأحياناً في كل يوم، فإن له هذه القدرة على إحياء الناس بعد الموت، فالموت بيده في كل مكان، كما أن الحياة بأمره أيضاً.

صحيح أن الأرض الميتة لا تحيى ظاهراً، بل تنمو البذور التي في قلب الأرض، ولكننا نعلم أن هذه البذور الصغيرة تجذب مقداراً عظيماً من أجزاء الأرض إلى نفسها، وتحوّل الموجودات الميتة إلى موجودات حية! وحتى بقايا هذه النباتات المتلاشية - أيضاً - تمنح القدرة والقوة للأرض لكي تحيى من جديد.

وفي الحقيقة لم يكن لمنكري المعاد أي دليل على مدعاهم سوى الاستبعاد، والقرآن المجيد إنّما يستشهد بهذه الأمثال لإحباط هذا الاستبعاد منهم أيضاً.


1- "الكِسَف" جمع "كسفَة" على وزن "حجلة" ومعناها القطعة، وهي هنا - كما يبدو - إشارة إلى القطعات من الغيوم المتراكمة بعضها فوق بعض فتجعلها غليظة وشديدة، وذلك حين تكون الغيوم مهيأة لنزول المطر.

2- "الودق" على وزن (الحلق) وتطلق على ذرات الماء الصغيرة كمثل الغبار أحياناً، إذ تتناثر عند نزول الغيث في السماء، كما تطلق على قطرات "المطر" المتفرقة أحياناً...

3- "مبلس" مأخوذة من مادة الإبلاس، ومعناها اليأس وعدم الرجاء.