الآيات 33 - 36
﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءَاتَيْنَـهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِها وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) ﴾
التفسير
إنّ الآية الأُولى من المقطع الذي بين أيدينا، هي في الحقيقة استدلال وتأكيد على البحث السابق في مجال كون التوحيد فطرياً، وتفتح هذا النور الإلهي عند الشدائد والصعاب! إذ تقول الآية: (وإذا مس الناس ضرّ دعوا ربّهم منيبين إليه).
إلاّ أنّهم إلى درجة من السطحية والغباء التعصب والتقليد الأعمى لأسلافهم المشركين، بحيث أنّه بمجرّد انتهاء المشكلة وهبوب نسيم الرحمة الالهية.. (ثمّ إذا أذاقهم منه رحمةً إذا فريق منهم بربّهم يشركون).
والتعبير بـ (مسّ الناس ضرّ) إشارة إلى اصابتهم بقليل من الضرر... كما أنّ التعبير (أذاقهم منه رحمة) إشارة إلى بلوغ شيء من النعمة، لأنّ التعبير بـ "مسّ"أو "ذاق" في مثل هذه الموارد يطلق على الأُمور القليلة والجزئية، وخاصّة باستعمال كلمتي "ضر" و "رحمة" نكرتين.
أي إنّ طائفةً تبلغ بهم الحال إلى أن يفزعوا إلى الله عند حدوث أقل مشكلة لهم، وتنكشف الحُجب عن فطرتهم التوحيدية، ولكن إذا رأوا نعمة ولو بأقل ما يتصوّر، فإنّهم يغفلون عن واقعهم كليّاً، وينسون كل شيء!
وبالطبع ففي الحالة الأُولى يبيّن القرآن أنّ الناس يفزعون جميعاً إلى الله عند الضر والشدائد، لأنّ فطرة التوحيد موجودة في الجميع.
ولكن في الحالة الثّانية يتحدث القرآن عن جماعة تسلك طريق الشرك فحسب، لأنّ طائفة من عباد الله يذكرون الله في الشدائد وفي الرخاء وفي السراء والضراء.
فلا تُنسيهم المتغيّرات ذكر الله أبداً.
والتعبير بـ (منيبين إليه) - كما رأينا في مفهوم الإنابة سابقاً - من مادة "النوب" وتعني العودة ثانيةً إلى الشيء، هذا التعبير إشارة لطيفة للمعنى التالي، وهو أنّ الأساس في الفطرة هو توحيد الله وعبادته، والشرك أمر عارض، حيث متى ما يئسوا منه فهم يعودون نحو الإيمان والتوحيد، شاؤوا أم أبوا!.
والطريف هنا أنّ "الرحمة" في الآية مسندة إلى "الله"، فهو سبحانه مصدر الرحمة للعباد، سواء بطريق مباشر أو غير مباشر إلاّ أن الضرّ لم يسند إليه سبحانه، لأنّ كثيراً من الإِبتلائات والمشاكل التي تحوطنا هي من نتائج أعمالنا وذنوبنا.
و كلمة "ربّهم" التي تكررت في الآية تكررت في الآية مرّتين، تؤكّد على أنّ الإِنسان يحسّ بالتدبير الإِلهي وربوبية الله على وجوده ما لم تؤثر عليه التعليمات الخاطئة فتسوقه نحو الشرك والضلال.
وينبغي ذكر هذه المسألة الدقيقة، وهي أنّ الضمير في كلمة "منه" يعود إلى الله، وهذا تأكيد على أن جميع النعم من الله سبحانه.
وقد اختار كثير من المفسّرين هذا المعنى أمثال "الطباطبائى" في الميزان، و"الطوسي" في التبيان، و"أبوالفتوح الرازي" في تفسيره وغيرهم، وإن ذهب غيرهم كالفخر الرازي إلى إن الضمير في كلمة "منه" يعود على الضرّ، وفسّروا الآية هكذا "حين يذيق الله عباده بعد الضرّ رحمة.
إذا فريق منهم يشركون بالله".
(فيكون معنى "من" هنا البدلية).
إلاّ أنّه من الواضح أن التّفسير الأوّل أكثر انسجاماً مع ظاهر الآية!
أمّا الآية الأُخرى فجاءت بعنوان التهديد لأُولئك المشركين، الذين ينسون ربّهم عند نيل النعم، إذ تقول: اتركهم (ليكفروا بما آتيناهم) وليفعلوا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا! ثمّ يخاطب المشركين بأن يتمتعوا بهذه النعم والمواهب الدنيوية الفانية.
وسوف يرون العاقبة السيئة لذلك: (فَتمتعوا فسوف تعلمون)(1) و بالرغم من أنّ المخاطبين بالآية هم المشركون، إلاّ أنّه لا يَبعُد أن يكون لها مفهوم واسع بحيث يشمل جميع الذين ينسون الله عند إقبال النعم، وينشغلون بالتمتع بهذه النعم فحسب، دون أن يذكروا واهب النعم.
وبديهيٌ أن صيغة الأمر استعملت هنا للتهديد!.
والقرآن في الآية الأُخرى يصوغ الكلام في صيغة الإِستفهام المقرون بالتوبيخ فيقول: (أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون).
"أم" هنا للإستفهام، ويحمل الإِستفهام هنا غرضاً استنكارياً وتوبيخاً... أي إن سلوك هذا الطريق والخطة يجب أن يكون إمّا لنداء الفطرة، أو بحكم العقل، أو بأمر الله، لكن حين يصرخ الوجدان والفطرة في الشدائد والملمات بالتوحيد.... فإن العقل يقول أيضاً: ينبغي التوجه نحو واهب النعم.
يبقى أن حكمَ الله في هذه الآية هو في مورد النفي، أي: لم يؤمروا من قِبل الله بمثل هذا الأمر، فعلى هذا فإن هؤلاء في اعتقادهم هذا لم يستندوا إلى أي أصل مقبول!.
و "السلطان" معناه ما يدل على السلطة وينتهي إلى الإِنتصار عادةً، ومعناه هنا هو الدليل المحكم المقنع.
والتعبير بـ "يتكلم" هو نوع من التعبير المجازي، إذ ترانا نعبر عند وضوح الدليل قائلين "كأن هذا الدليل يتكلم مع الإِنسان"!
واحتمل بعض المفسّرين أن المراد بالسلطان هنا هو أحد الملائكة المقتدرين، فيكون استعمال "يتكلم" هنا على نحو الحقيقة، أي لم نرسل عليهم ملكاً يتكلم بالشرك فيتبعوه!.
إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أوضح كما يبدو!
أمّا آخر آية من الآيات محل البحث، فهي ترسم طريقة تفكير وروحية هؤلاء الجهلة الاغبياء الذين يقنطون ويحزنون لأقل مصيبة، فتقول: (وإذا أذقنا الناس رحمةً فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون).
في حين أنّ المؤمنين الصادقين هم الذين لا يغفلون عن ذكر الله عند النعم، ولا يقنطون عند الشدائد والمصيبة، إذ هم يشكرون الله على نعمه، ويرون المصيبة امتحاناً واختباراً، أو يعدونها نتيجة أعمالهم، فيصبرون ويتّجهون إلى الله تعالى.
فالمشركون يعيشون دائماً بين "الغرور" و "اليأس"، أمّا المؤمنون فهم بين "الشكر" و "الصبر".
ويستفاد ضمناً من هذه الآية بصورة جيدة أنّ قسماً من المصائب والإِبتلاءات التي تحل بالإِنسان هي - على الأقل - نتيجة أعماله وذنوبه، فالله يريد أن ينبههم ويطهرهم ويلفتهم إليه.
و ينبغي الإِلتفات إلى أنّ جملة (فرحوا بها) ليس المراد منها هنا السرور بالنعمة فحسب، بل السرور المقرون بالغرور ونوع من السكر والنشوة، وهي الحالة التي يكون عليها الأراذل عندما تتهيأ لهم وسائل العيش والحياة، وإلاّ فإنالسرور المقرون بالشكر والتوجه نحو الله ليس أمراً سيئاً، بل هو مأمور به (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا)(2).
والتعبير (بما قدمت أيديهم) الذي ينسب المعاصي إلى الأيدي، هو لأنّ أكثر الذنوب والأعمال يكون على يد الإِنسان، وإن كانت هناك ذنوب يكتسبها القلب أو البصر أو السمع، إلاّ أن كثرة الأعمال التي تصدر عن اليد استدعى هذا التعبير.
وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو: ألا تخالف هذه الآية، الآية الثّالثة والثلاثين "ما قبل آيتين" لأنّ الكلام في هذه الآية عن يأسهم عند المصائب، في حين أن الآية السابقة تتحدث عن توجههم إلى الله عند بروز المشاكل والشدائد.
والخلاصة، إن واحدة من الآيتين تتحدث عن "الرجاء" والأُخرى عن "اليأس"؟
لكن مع الإِلتفات إلى مسألة دقيقة يتّضح جواب هذا السؤال، وذلك أن الآية المتقدمة كان الكلام فيها عن "الضر" أي الحوادث الضارة كالطوفان والزلزلة والشدائد الأُخرى التي تصيب عامة الناس "الموحدين منهم والمشركين".
فيتذكرون الله في هذه الحال، وهذا واحد من دلائل الفطرة على التوحيد.
أمّا في الآية محل البحث فالكلام على نتائج المعاصي واليأس الناشىء منها، لأنّ بعض الأفراد إذا عملوا صالحاً أصبحوا مغرورين وحسبوا أنفسهم مصونين من عذاب الله، وحين يعملون السيئات وتحلّ بهم العقوبة فيغم وجودَهم اليأسُ من رحمة الله، فكلتا الحالين "العُجب والغرور" و "اليأس والقنوط من رحمة الله" مذمُومتان!
فعلى هذا تكون كلّ آية من الآيتين قد تناولت موضوعاً منفصلا عن الآخر.
1- إنّ "اللام" في جملة "ليكفروا" هي لام الأمر، وهذا الأمر للتهديد، وكذلك جملة "تمتعوا" إذ هي للتهديد أيضاً. وإن كانت الأُولى جاءت بصيغة "الغائب" والثّانية بصيغة "الخطاب"... فكأنّما افترض في الحالة الأُولى أنّهم غيّاب ثمّ من أجل التشدّد بالتهديد جعلهم مواجهين للتهديد والخطاب، إلاّ أنّ بعض المفسّرين عدّوا "اللام" للعاقبة، أي كان عاقبة أمرهم الكفر بنعم الله، إلاّ أن المعنى الأوّل أكثر انسجاماً مع ظاهر الآية.
2- يونس، الآية 58.