الآيات 30 - 32
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيها لاَ تَبْدِيلَ لِخْلْقِ اللهِ ذلِكَ الدَّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيهِ وَاتَّقُوهُ وأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَلاَ تَكُونوُاْمِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعَاً كُلُّ حِزْبِ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) ﴾
التفسير
كان لدينا حتى الآن أبحاث كثيرة حول التوحيد ومعرفة الله، عن طريق مشاهدة نظام الخلق، والإستفادة منه لإثبات مبدأ العلم والقدرة في ما وراء عالم الطبيعة، بالاستفادة من آيات التوحيد في هذه السورة!
وتعقيباً على الآيات الآنفة الذكر، فإن الآية الأُولى من هذه الآيات محل البحث - تتحدث عن التوحيد الفطري، أي الإستدلال على التوحيد عن طريق المشاهدة الباطنية والدرك الضروري والوجداني، إذ يقول القرآن في هذا الصدد: (فأقم وجهك للدين حنيفاً) لأنّها (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
"الوجه" معناه معروف، وهو مقدم الرأس.
والمراد به هنا الوجه الباطني، ووجه القلب والروح فعلى هذا ليس المراد هنا من الوجه أو المحيّا وحده، بل التوجه بجميع الوجود، لأنّ الوجه أهم أعضاء البدن!
وكلمة "أقم" مشتقة من الإقامة، ومعناه الإستقامة والوقوف بثبات (على قدم راسخة)... وكلمة "حنيف" مشتقة من "حَنَف"، ومعناها الميل من الباطل نحو الحق، ومن الإعوجاج نحو الإستواء والإستقامة، على العكس من "جنف" على وزن "حنف" أيضاً، ومعناها الميل من الإستواء إلى الضلالة والإعواجاج.
فمعنى الدين الحنيف هو الدين المائل نحو العدل والإستواء عن كل انحراف وباطل وخرافة وضلال.
فيكون معنى هذه الجملة بمجموعها، أن وجّه نفسك دائماً نحو مبدأ ومذهب خال من أي أنواع الإعوجاج والإنحراف، وذلك هو مبدأ الإسلام ودين الله الخالص والطاهر(1).
إنّ الآية المتقدمة تؤكّد على أن الدين الحنيف الخالص الخالي من كل أنواع الشرك، هو الدين الذي ألهمه الله سبحانه في كل فطرة، الفطرة الخالدة التي لا تتغير، وإن كان كثير من الناس غير ملتفت لهذه الحقيقة.
والآية المتقدمة تبين عدة حقائق:
1 - إنّ معرفة الله - ليست وحدها - بل الدين والإعتقاد بشكل كلي وفي جميع أبعاده هو أمر فطري، وينبغي أن يكون كذلك، لأنّ الدراسات التوحيدية تؤكّد أن بين جهاز التكوين والتشريع انسجاماً لازماً، فما ورد في الشرع لابدّ أن يكون له جذر في الفطرة، وما هو في التكوين وفطرة الإنسان متناغم مع قوانين الشرع!
وبتعبير آخر: إنّ التكوين والتشريع عضدان قويان يعملان بانسجام في المجالات كافة، فلا يمكن أن يدعو الشرع إلى شيء ليس له أساس ولا جذر في أعماق فطرة الإنسان، ولا يمكن أن يكون شيء في أعماق وجود الإنسان مخالف للشرع!
وبدون شك فإنّ الشرع يعين حدوداً وقيوداً لقيادة الفطرة لئلا تقع في مسار منحرف، إلاّ أنّه لا يعارض أصل مشيئة الفطرة، بل يهديها من الطريق المشروع، وإلاّ فسيقع التضاد بين التشريع والتكوين، وهذا لا ينسجم مع أساس التوحيد.
وبعبارة أُخرى: إنّ الله لا يفعل أعمالا متناقضة أبداً، بحيث يقول أمره التكويني: افعل! ويقول أمره التشريعي: لا تفعل.
2 - إنّ الدين له وجود نقي خالص من كل شائبة داخل نفس الإنسان، أمّا الإنحرافات فأمر عارض، ووظيفة الأنبياءإذن إزالة هذه الأُمور العارضة، وفسح المجال لفطرة الإنسان في الأشراق.
3 - إنّ جملة (لا تبديل لخلق الله) وبعدها جملة (ذلك الدين القيّم)تأكيدان آخران على مسألة كون الدين فطرياً، وعدم إمكان تغيير هذه الفطرة!... وإن كان كثير من الناس لا يدركون هذه الحقيقة بسبب عدم رشدهم كما ينبغي!
وينبغي الإلتفات إلى هذه اللطيفة، وهي أن الفطرة في الأصل من مادة "فطر" على زنة "بذر" ومعناها شق الشيء من الطول، وهنا معناها الخلقة، فكأن ستار العدم ينشق عند خلق الموجودات ويبرز كل شيء منها.
وعلى كل حال فمنذ أن وضع الإنسان قدمه في عالم الوجود، كان هذا النور متوقداً في داخله، من أوّل يوم ومن ذلك الحين!
والرّوايات المتعددة التي وردت في تفسير الآية تؤيد ما ذكرناه آنفاً، وسنتحدث عن ذلك لاحقاً إن شاء الله، بالإضافة إلى الأبحاث الأُخرى في مجال كون التوحيد فطرياً.
ويضيف القرآن في الآية التالية: ينبغي أن يكون التفاتكم للدين الحنيف والفطري حالة كونكم (منيبين إليه) فأصلكم وأساسكم على التوحيد، وينبغي أن تعودوا إليه أيضاً.
وكلمة "منيبين" من مادة "إنابة" وهي في الأصل تعني الرجوع المكرر، وتعني هنا الرجوع نحو الله والعودة نحو الفطرة (التوحيدية) ومعناها متى ما حصل عامل يحرف الإنسان عقيدته وعن أصل التوحيد فينبغي أن يعود إليه.. ومهما تكرر هذا الأمر فلا مانع من ذلك إلى أن تغدو أسس الفطرة متينة وراسخة، وتغدو الموانع والدوافع خاوية ويقف الانسان بصورة مستديمة في جبهة التوحيد، ويكون مصداقاً للآية (وأقم وجهك للدين حنيفاً).
وممّا ينبغي الإلتفات إليه أن (أقم وجهك) جاءت بصيغة الإفراد، وكلمة "منيبين" جاءت بصيغة الجمع، وهذا يدل على أنّه وإن كان الأمر الأوّل مخاطباً به النّبي(ص) إلاّ أن الخطاب - في الحقيقة - لعموم المؤمنين وجميع المسلمين.
ويعقب على الأمر بالإنابة والعودة إليه، بالأمر بالتقوى، وهي كلمة تجمع معاني أوامر الله ونواهيه، إذ يقول: (واتقوه) أي اتقوا مخالفة أوامره!.
ثمّ يؤكّد القرآن على موضوع الصلاة من بين جميع الأوامر فيقول: (وأقيموا الصلاة).
لأنّ الصلاة في جميع أبعادها، هي أهم منهج لمواجهة الشرك، وأشد الوسائل تأثيراً في تقوية أسس التوحيد والإيمان بالله سبحانه.
كما أنّه يؤكّد في نهيه عن "الشرك" من بين جميع النواهي فيقول: (ولا تكونوا من المشركين).
لأنّ الشرك أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، إذ يمكن أن يغفر الله جميع الذنوب إلاّ الشرك بالله، فإنّه لا يغفره.
كما نقرأ في الآية (48) من سورة النساء (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).
وواضح أن الأوامر الأربعة الواردة في هذه الآية، هي تأكيد على مسألة التوحيد وآثاره العملية، فالمسألة أعمّ من التوبة والعودة إليه تعالى وإلى تقواه وإقامة الصلوة وعدم الشرك به.
وفي آخر آية - من الآيات محل البحث - يبيّن القرآن واحداً من آثار الشرك وعلائمه في عبارة موجزة ذات معنى كبير، فيقول: لا تكونوا من المشركين الذين انقسموا في دينهم على فرق واحزاب كثيرة: (من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً).
والعجيب في الأمر أنّهم على تضادّهم واختلافهم فإنّ (كلّ حزب بما لديهم فرحون).
أجل، إن واحدة من علائم الشرك هي التفرقة، لأنّ المعبودات المختلفة هي منشأ الأساليب المتفاوتة وهي أساس الإنفصال والتفرق، خاصة وأنّ الشرك هو توأم عادة لهوى النفس والتعصّب والكبر والأنانية وعبادة الذات، أو متولد عنها، لذلك لا يمكن أن تتحقق الوحدة والإتحاد إلاّ في ظل عبادة الله، والعقل والتواضع والإيثار!.
فعلى هذا، حيثما وجدنا تفرقة واختلافاً فينبغي أن نعرف أن نوعاً من الشرك حاكم هناك، ويمكن أن نستنتج من هذا الموضوع أن نتيجة الشرك هي تفرق الصفوف، والتضاد، وهدر القوى، وأخيراً الضعف وعدم القدرة.
وأمّا مسألة (كل حزب بما لديهم فرحون) فهي واضحة ودليلها بيّن، حين يعتقدون أن ما لديهم حق، لأنّ الهوى يزيّن للنفس عملها في نظر الإنسان وهذا التزيين نتيجته التعلق أكثر فأكثر، والفرح بالطريق الذي اختارته النفس، وإن كان هذا الطريق يؤدي إلى الضلال والإنحراف.
إنّ عبادة الهوى لا تسمح للإنسان أن يرى وجه الحقيقة كما هو، ولا يمكنه أن يقضي قضاءً صحيحاً خالياً من الحبّ والحقد.
يقول القرآن المجيد في الآية (رقم 8) من سورة فاطر: (فمن زين له سوء عمله فرآه حسناً).. كالذي يمضي في طريق الحق، ويرى الحقائق كما هي، ويعرفها حق المعرفة؟!
بحثان
1 - التوحيد باعث داخلي قوي:
كما أنّ الدلائل العقلية والمنطقية توجّه الإنسان، فإنّ في داخله دوافع وموانع أيضاً.. بحيث تعين له الجهة "أحياناً" من حيث يدري أو لا يدري!
وفلسفة وجودها في داخل الإنسان، هي أنّ الإنسان لا يستطيع - دائماً - أن ينتظر إيعاز العقل والمنطق، لأنّ هذا العمل قد يعطل الأهداف "الحياتية" بعض الأحيان.
فمثلا لو أراد الإنسان أن يستلهم من منطق "لزوم بدل ما يتحلل" ضرورة تناول الطعام.. أو "لزوم استمرار النسل عن طريق التوالد والتناسل" ضرورة الممارسة الجنسية، وأن يعمل ويتحرك وفق المنطق في كل ذلك، لكان ينبغي أن ينقرض الإنسان - قبل هذا الزمان بكثير - إلاّ أن الغريزة الجنسية من جهة وجاذبيتها، والإشتهاء للطعام من جهة أُخرى، يجرانه نحو هذا الهدف شاء أم أبى.
وكلما كانت الأهداف حياتيةً أكثر وعمومية، كانت هذه "الدوافع" أشد وأقوى أيضاً.
لكن ينبغي الإلتفات إلى أن هذه الدوافع على نحوين:
فبعضها باطنية (غير واعية) لا تحتاج إلى وساطة العقل والشعور، كما ينجذب الحيوان نحو الطعام والجنس دون الحاجة إلى التفكير.
وقد يكون تأثير الدوافع عن طريق الوعي، أي إن هذه الدوافع الداخليةتترك أثرها في العقل والتفكير وتدفعه إلى انتخاب الطريق!
وعادة يطلق على النوع الأوّل من هذه الدوافع "الغريزة" وعلى النوع الثّاني "الفطرة" (فلاحظوا بدقّة).
عبادة الله والإتجاه نحوه لهما مكانه في نفوس جميع الناس، وهو ما يصطلح عليه بـ "الفطرة".
ويمكن أن يعدّ بعض الناس هذا الكلام ادعاءً محضاً، يدّعيه المؤمنون، إلاّ أن لدينا دلائل وشواهد مختلفة توضح بجلاء كون "الميل إلى الله" فطرياً، بل تؤكّد هذا الميل في جميع اصول الدين وأبعاده:
1 - إنّ دوام الإعتقاد الديني والإيمان بالله على امتداد التاريخ البشري بنفسه دليل على الفطرة! لأنّه إذا كان ذلك على سبيل العادة، لما كانت له جنبة عمومية ولا جنبة دائمية، فهذا العموم وهذا الدوام دليل على فطرية الحالة.
يقول المؤرخون الكبار: لم يُر في المجتمعات الإنسانية في أعماق التاريخ البشري، وفي عصر ما قبل التاريخ أن اقواماً بشرية عاشت بلا دين إلاّ بشكل استثنائي.
ويقول "ويل دورانت" المؤرخ المعاصر:
"إذا عرّفنا الدين على أنّه عبادة القوى التي هي أسمى من الطبيعة، فينبغي أن نأخذ بنظر الإعتبار هذه المسألة الدقيقة، وهي أن بعض الأُمم البدائية لم يكن لها أي دين ظاهراً" ثمّ يضيف بعد ذكر أمثلة لهذا الموضوع: فما ذكر من الأمثلة هو في عداد الحالات النادرة، والرأي القائل: التدين يشمل عموم أفراد البشر، يوافق الحقيقة"!
ثمّ يضيف قائلا: "تعدّ هذه القضية في نظر الفيلسوف واحدة من القضايا الأساسية في التاريخ والدراسات النفسيّة، فهو لا يقنع بهذه المسألة: إنّ جميع الأديان محشوّة بالباطل واللغو والخرافات، بل هو ملتفت إلى هذه المسألة، وهيأن الدين منذ قديم الأيّام كان مرافقاً للتاريخ البشري"(2).
ويختتم كلامه بهذا الإستفهام الكبير معنىً ومغزى "ترى أين هو مصدر التقوى التي لا يخلوا القلب منها بأي وجه"؟!
وهذا المؤرخ نفسه يقول في تحقيقاته حول وجود الدين في فترات ما قبل التاريخ "وإذا لم نتصور للدين جذوراً في فترات ما قبل التاريخ، فلا يمكن أن نعرفها في الفترة التاريخية كما هي عليه"(3).
والتنقيبات عن إنسان ما قبل التاريخ التي تمت عن طريق الحفر، تؤيد هذا الموضوع أيضاً، كما يصرح بذلك العالم الإجتماعي "ساموئيل كنيج" في كتابه "دراسة المجتمع": إن الأسلاف الماضين للإنسان المعاصر "ممن ينتمون إلى إنسان نئاندرتال" كان لديهم دين حتماً، ويستدلّ بعدئذ لإثبات هذا الموضوع بالآثار التي عثر عليها عن طريق التنقيب والحفر، ومنها أنّهم كانوا يدفنون موتاهم بكيفية خاصة، ويدفنون معهم أشياء تدل على اعتقادهم بيوم القيامة".(4)
وعلى كل حال، فإنّ فصل الدين عن التاريخ البشري لا يمكن أن يقبله أي محقق وباحث.
2 - إنّ المشاهدات عياناً في العالم المعاصر تكشف أنّه مع جميع ما بذل الطغاة والمستبدون - وأنظمتهم الجائرة من جهود وسعي لمحو الدين وآثاره وعن طرق مختلفة - لم يستطيعوا أن يستأصلوا الدين وجذوره من أعماق هذه المجتمعات.
ونعرف جيداً أنّ الحزب الشيوعي الحاكم في الإتحاد السوفياتي، ومنذ أكثر من ستين سنة، وبوسائل الإعلام و "الدعايات" المختلفة، حاول أن يغسل الأذهان والعقول والقلوب من الإعتقادات الدينية مستعيناً بالخلايا التنظيمية الجماعية، إلاّ أنّ الأخبار التي تسربت وتهربت من ذلك المحيط المغلق، وما نقرؤه في الصحف والجرائد، تكشف أنّهم "أي الحزب الحاكم في روسيا" مضافاً إلى عدم تحقيقهم هدفهم بالرغم من تشددهم في وسائل الإعلام، فإنّه تبدو هذه الأيّام حالة من التطلع المتزايد إلى المسائل الدينية في بعض الدول الإشتراكية وجمهوريات روسيا ممّا أقلق قادة النظام، وهذا يدل على أنّه لو رفعوا الضغوط ولو يوماً واحداً، لعاد الدين إلى مكانه بسرعة فائقة، وهذا بنفسه شاهد آخر على فطرية الدافع الديني أيضاً.
3 - الكشوفات الأخيرة من قبل النفسانيين وعلماء النفس في مجال أبعاد الروح الإنسانية، شاهد آخر على هذا المدعى، إذ أنّهم يقولون: "إنّ التحقيقات في المجالات النفسيّة تشير إلى بعد أصيل هو "البعد الديني" أو بتعبير آخر "بعد قدسي" أو "رباني" وربّما عدّوا هذا البعد أساساً للأبعاد الثلاثة الأُخرى وهي "البعد العلمي"، و"البعد الجمالي"، و"البعد الخيّر".
إذ يدّعون بأن البواعث الأساسية للروح البشرية هي هذه:
1 - دافع البحث عن الحقيقة (الشعور العلمي) وهو مصدر أنواع العلوم، والأهداف التحقيقية المستمرة، والمتابعات في معرفة عالم الوجود!
2 - حس "الإحسان والعمل الصالح" الذي يجذب الإنسان نحو المفاهيم الأخلاقية كالتضحية والإيثار والعدل والشهامة وأمثالها.
حتى أنّه لو كان الإنسان غير واجد لهذه الصفات، فإنّه يعشق من تتوفر فيهم هذه الصفات، وهذا يدل على أن العشق للعمل الصالح والإحسان كامن في جذور النفس.
3 - الحس "الجمالي": وهو يجذب الإنسان نحو الفن الأصيل والأدب والمسائل الذوقية، وربّما أصبح مصدر التحول في حياة الفرد أو المجتمع أحياناً.
4 - الحس "الديني"، أي الإيمان بمبدأ عال وعبادته واتّباعه.
ونقرأ في مقالة كتبها "كوونتايم" في هذا المجال مايلي:
"إنّ معرفة النفس بالبحث داخل النفس البشرية غير الواعية - التي بوشر بها بواسطة فرويد "في البداية" استمرّت بالإستعانة بـ"آدلر" و "يونك" - في أعماق روح الإنسان وصلت إلى عالم جديد من القوى المستورة، وأنحاء الدرك والمعرفة وراء العقل، ويمكن أن يكون الحسّ الديني مفتاحاً من مفاتيح حل هذه الأحجية.
وبالرغم من أنّنا بعيدون للآن عن اتفاق الآراء، إلاّ أنّه ومع هذه الحال فما يزال "مسير فكري" في ازدياد يوماً بعد يوم، إذ يعتقد كثير من المفكرين بالتعريف الذي نورده ذيلا:
"إنّ الحس الديني واحد من العناصر الأولية الثابتة والطبيعية لروح الإنسان، وهو أكثرها أصالة وما هويّة، ولا يمكن مطابقته لأي من الأحساسيس والدوافع الأُخرى، حيث يمدّ جذوره إلى أعماق اللاوعي ويعدّ "المفهوم الديني" أو بتعبير أصح "المفهوم المقدس" بالنسبة لمفاهيم الجمال والإحسان والحقيقة، مقولة رابعة، ولها أصالة المفاهيم الثلاثة ذاتها واستقلالها أيضاً(5).
كما نقرأ في المقالة المترجمة المقتبسة عن المحقق "تان كي دو - كنتن" ما يلي "كما أن من مزايا العصر الحاضر - في عالم الطبيعة - هو اكتشاف البعد الرابع، الذي أطلق عليه اسم "بعد" الزمان مضافاً إلى الأبعاد الثّلاثة للجسم، وهو في الوقت ذاته جامع لها، فكذلك اكتشفت في هذا العصر المقولة الرابعة "المقدسة" أو المقولة الإلهية "الربانية" بموازاة المفاهيم الثلاثة "الجمال، الإحسان، طلب الحقيقة" وهي البعد الرّابع لروح الإنسان، ففي هذا المقام أيضاً فان هذا البعد الرّابع الروحي منفصل عن الأبعاد الثلاثة الأخرى، وربّما كان هذا البعد منشأ ولادة الأبعاد الثلاثة الأخرى"(6).
4 - إن التجاء الإنسان في الشدائد والمحن إلى قوة خفية وراء الطبيعة، وطلب حل المشاكل والازمات من قبل هذه القوة، لهو أيضاً شاهد آخر على أصالة هذا الدافع الباطني والإلهام الفطري، ويمكن - بضمها إلى مجموع الشواهد التي ذكرناها آنفاً - أن توقفنا على مثل هذا الدافع الباطني في داخلنا نحو الله سبحانه.
وبالطبع فمن الممكن أن يعدّ بعضهم هذا التوجه من آثار التلقينات أو الإعلام الديني في المحيط الإجتماعي المتدين!
إلاّ أن عمومية هذه الظواهر في جميع الناس، حتى في أُولئك الذين لا علاقة لهم بالمسائل الدينية عادةً، تدلّ على أن لها جذراً أعمق من هذه الفرضية.
5 - وفي حياة الإنسان حوادث وظواهر لا يمكن تفسيرها إلاّ عن طريق أصالة الحسّ الديني... فكثير من الناس نجدهم قد ضحوا بجميع ما لديهم من الإمكانات المادية، ولا يزالون يضحون أيضاً، ويصبّون كل ما عندهم مع ما لديهم من سوابق تحت قدم الدين، وربّما قدّموا أنفسهم في سبيله أيضاً.
الشهداء الذين شربوا كأس الشهادة - من أجل تقدم الأهداف الإلهية وتحقّقها - بشوق وعشق بالغين، بحيث نرى أمثالهم في تاريخ جهاد الإسلام الطويل، بل في تأريخ الأمم الأُخرى أيضاً، يكشفون عن هذه الحقيقة، وهي أن الحس الديني له جذر عميق في روح الإنسان.
لكن قد يرد على هذا الكلام إشكال، وهو أنّ أفراداً - كالشيوعيين مثلا - لهم موقع إلحادىّ - ضد الأيدلوجية والدين - ولا يكتمون موقعهم هذا أبداً.. كما أن لهم مواقف تضحوية في سبيل حفظ فكرتهم واعتقادهم!
إلاّ أنّ هذا الإشكال ينحل تماماً بملاحظة هذه المسألة، وهي أنّه حتى الشيوعيون الذين ينفون الدين كليّاً - بحسب الظاهر - ويعتقدون أن الدين مرتبط بالتأريخ القديم، ولا يمكن أن يكون له مكان في المجتمعات الشيوعية.. أجل، إن هؤلاء أنفسهم قد قبلوا بالدين بشكل آخر عن طريق العقل الباطني "واللاوعي".
فهم يقدّسون زعماءهم وقادتهم بالنظرة التي ينظرها المصريون القدماء أوثانهم، وصفوفهم الطويلة عند جسد "لينين" لزيارته هي شاهد آخر على هذا الموضوع أيضاً.
وهم عادة يعتبرون الأصول الماركسية كوحي السماء لا تقبل النقد والخدش، فهي مقدّسة عندهم، ويتصورون أن ماركس ولينين وأنجلس كالمعصومين من الأخطاء والسهو، ويعدون مراجعة العقل لاتخاذ موقف جديد من هذه الأصول ذنباً لا يغتفر أبداً.. ويخاطبون مخالفيهم بتعبيرنا الديني على أنّهم "مرتدون" وعلى هذا فهم يعتقدون بكثير من المفاهيم والمسائل الدينية، غاية ما في الأمر هو أن تفكير هم نوع من الفكر الديني في شكل منحرف!
2 - فطرة التوحيد في الأحاديث الإسلامية
موضوع "معرفة الله الفطرية" لم يختص به القرآن الكريم فحسب، بل هو وارد في الأحاديث الإسلامية بشكل يسترعي الإنتباه، حيث أن بعضها يؤكّد على التوحيد بالفطرة، وبعضها يؤكّد على المعرفة، وقسم يتناول الفطرة "على الإسلام" وأخيراً فإن قسماً منها تناول عنوان الولاية أيضاً.
ففي حديث معتبر يرويه المحدث الكبير الشيخ الكليني في أصول الكافي، وهو ما نقله عن هشام بن سالم، قال: سألت الإمام الصادق(ع): ما المراد من قوله تعالى: (فطرة الله التي فطر الناس عليها)... فقال "هي التوحيد" (7).
كما ورد في الكافي نفسه نقلا عن بعض أصحاب الإمام الصادق(ع) أيضاً حين سأله عن تفسير الآية المتقدمة فقال الإمام(ع) "هي الإسلام" (8).
كما نقرأ حديثاً متشابهاً لما سبق - عن الإمام الباقر(ع) جواباً لزرارة أحد أصحابه العلماء حين سأله عن تفسير الآية فقال(ع) "فطرهم على المعرفة به" (9).
والحديث المنقول عن النّبي(ص) "كل مولود يولد على الفطرة حتى ليكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه" يؤكّد هذا المضمون أيضاً(10).
وأخيراً فإننا نقرأ في أصول الكافي حديثاً عن الإمام الصادق(ع) أيضاً في تفسير الآية قال: "هي الولاية" (11).
وقد ورد في الخطبة الأُولى لنهج البلاغة عن أميرالمؤمنين(ع) حديث موجز العبارة غزير المعنى، إذ يقول(ع) "فبعث فيهم رسوله، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول".
وطبقاً للرّوايات المتقدمة، فليست معرفة الله هي الفطرية فحسب، بل مجموع الإسلام بشكل موجز "مضغوط" كامن في داخل الفطرة الإنسانية بدءاً من التوحيد وانتهاءً بالقادة الإلهيين وخلفائهم الصادقين، وكذلك فروع الأحكام أيضاً.
فعلى هذا، وطبقاً للتعبير الوارد في نهج البلاغة، فإن عمل الإنبياء هو رعاية الفطرة حتى تفتح، وتذكر الناس نعم الله المنسية، ومن جملة هذه النعم الفطرة على التوحيد، واستخراج كنوز المعرفة الدفينة في روح الإنسان وأفكاره!
وممّا يسترعي الإنتباه أن القرآن الكريم - في آيات متعددة - يتخذ من الشدائد والمشاكل والحوادث المؤلمة التي يمر بها الإنسان في حياته مناخاً ملائماً للحس الديني، أذ يقول في واحدة من هذه الآيات: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلّما نجاهم إلى البرّ إذا هم يشركون)(12).
وسنتحدث بإذن الله في هذا المجال ذيل الآيات المقبلة التي تشبه الآيات من سورة العنكبوت أيضاً.
1- الألف واللام في كلمة "الدين" هما للعهد، وهما هنا إشارة إلى الدين الذي أمر النّبي(صلى الله عليه وآله) أن يبلغه، أي دين "الإسلام".
2- تاريخ التمدن، ج 1، ص 87 - 89.
3- تاريخ التمدن، ج 1، ص 156.
4- دراسة المجتمع، ص 192 أصله بالفارسية وعنوانه جامعه شناسي.
5- يراجع كتاب الحسّ المذهبي أو البعد الرّابع ترجمه مهندس بياني للكاتب كوونتايم.
6- المصدر نفسه الطبعة الثّانية، ص 39.
7- أصول الكافي، ج 2، ص 10، باب "فطرة الخلق على التوحيد".
8- المصدر السابق.
9- المصدر السابق.
10- تفسير "جمع الجوامع" للمرحوم الطبرسي ذيل الآية محل البحث.
11- تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 184.
12- العنكبوت، الآية 65.