الآيات 20 - 22

﴿وَمِنْ ءَايَـتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّنْ تُرَاب ثُمَّ إِذَآ أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ ءَايَـتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذلِكَ لاََيَـت لِّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ ءَايَـتِهِ خَلْقُ السَّمَوَتِ وَالاَْرْضِ وَاخْتِلَـفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَـت لِّلْعَـلَمِينَ (22)﴾

التّفسير

آيات الله في الآفاق وفي الأنفس:

تحدثت هذه الآيات - وبعض الآيات الأخر التي تليها - عن طرائف ولطائف من دلائل التوحيد، وآيات الله وآثاره في نظام عالم الوجود، وهي تكمل البحوث السابقة، ويمكن القول بأن القسم المهم بشكل عام من آيات التوحيد في القرآن تمثله هذه الآيات!

هذه الآيات التي تبدأ جميعها بقوله تعالى: (ومن آياته) ولها وقع خاص ولحن بليغ جاذب وتعبيرات مؤثرة وعميقة، مجموعة من سبع آيات، ستٌ منها متتابعات، وواحدة منفصلة "وهي الآية السادسة والأربعون".

هذه الآيات مقسمة تقسيماً طريفاً من حيث "آيات الآفاق" و "آيات الأنفس" إذ تتحدث ثلاث منها عن آيات الأنفس (دلائل الخالق في وجود الإنسان نفسه) وثلاث منها عن آيات الآفاق (دلائل الخالق خارج وجود الإنسان) وواحدة من هذه الآيات تتحدث عن الآيات في الأنفس وفي الآفاق معاً.

وممّا ينبغي الإلتفات إليه أنّ الآيات التي تبدأ بهذه العبارة: (ومن آياته)مجموعها إحدى عشرة آية فحسب، في سائر سور القرآن، سبع منها في هذه السورة، واثنتان في سورة فصلت هما "الآية 37 والآية 39" وآيتان أُخريان في سورة الشورى هما الآية 29 والآية 32 - ومجموعها كما ذكرنا آنفاً إحدى عشرة لا غير.

وهي تشكل دورة متكاملة في التوحيد.

ويجدر التنبيهُ - قبل الدخول إلى تفسير هذه الآيات - على هذه "اللطيفة" وهي أن ما أشار إليه القرآن في هذه الآيات، وإن كانت تبدو للنظر محسوسة وملموسة، يمكن أن يدركها عامّة الناس، إلاّ أنّه مع تطور العلم وتقدمه تبدو للبشر لطائف جديدة في هذا المجال، وتتّضح للعلماء أُمور ذات أهمية كبرى، وسنشير إلى قسم منها خلال تفسيرنا لهذه الآيات إن شاء الله.

ويتحدث القرآن هنا أوّلا عن خلقة الإنسان التي تعد أوّل موهبة إلهية له، وأهمهما أيضاً، فيقول: (ومن آياته أن خلقكم من تراب ثمّ إذا أنتم بشرٌ تنتشرون)!

في هذه الآية إشارة دليلين من أدلة عظمة الله.

الأوّل: خلق الإنسان من التراب، وربّما كان إشارة إلى الخلق الأوّل للإنسان، أي آدم(ع)، أو خلق جميع الناس من التراب، لأنّ المواد الغذائية التي تشكل وجود الإنسان، جميعها من التراب بشكل مباشرة أو غير مباشر!

الثّاني: كثرة النسل "الآدمي" وانتشار أبناء "آدم" على سطح المعمورة، فلولم تُخلق خصوصية التناسل في آدم، لإنطوى نسله من الوجود بسرعة!.

تُرى أين التراب وأين الإنسان بهذا الهندام والرشاقة؟!

فلو وضعنا خلايا وأستار العين التي هي أدق من ورق الزهور وألطف وأكثر حساسية، وكذلك الخلايا الدقيقة للدماغ والمخ إلى جانب التراب وقارناهما بالقياس إلى بعضهما البعض، نعرف حينئذ كم لخالق العالم من قدرة عجيبة، بحيث أوجد من مادة كدرة سوداء لا قيمة لها هذه الأجهزة الظريفة والدقيقة القيّمة.

فالتراب ليس فيه نور، ولا حرارة، ولا جمال، ولا طراوة، ولا حس، ولا حركة ومع ذلك فقدأضحى عجينة الإنسان ولها جميع هذه الصفات، فالذي أوجد من هذا الموجود الميت التافه موجوداً حيّاً عجيباً، لحقيق بكل حمد وثناء على هذه القدرة الباهرة والعلم المطلق (فتبارك الله أحسن الخالقين).

والآية محل البحث تبيّن ضمناً هذه الحقيقة، وهي أنّه لا تفاوت بين بني الإنسان، ويعود جذرهم إلى شيء واحد، وأصل واحدة وهو التراب وبالطبع فنهايتهم إلى ذلك التراب أيضاً.

وممّا ينبغي الإلتفات إليه، أن كلمة "إذا" تستعمل في لغة العرب في الموارد الفجائية ولعل هذا التعبير هنا إشارة إلى أنّ الله له القدرة البالغة على أن يخلق مثل آدم أعداداً هائلة بحيث ينتشر نسلها في فترة قصيرة - فجأةً - ويملأ سطح الأرض.. ويكون مجتمعاً إنسانيّاً كاملا.

والآية الثّانية من الآيات محل البحث تتحدث أيضاً عن قسم آخر من الآيات في الأنفس، التي تمثل مرحلة ما بعد خلق الإنسان، فتقول: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها).

أي من جنسكم والغاية هي السكينة الروحية والهدوء النفسي وحيث أن استمرار العلاقة بين الزوجين خاصة، وبين جميع الناس عامة، يحتاج إلى جذب قلبي وروحاني، فإنّ الآية تعقب على ذلك مضيفةً (وجعل بينكم مودةً ورحمة).

ولمزيد التأكيد تُختتم الآية بالقول: (إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون).

الطريف هنا أن القرآن - في هذه الآية - جعل الهدف من الزواج الإطمئنان والسكن، وأبان مسائل كثيرة في تعبير غزير المعنى "لتسكنوا" كما ورد نظير هذا التعبير في سورة الأعراف الآية 189.

والحقّ أن وجود الأزواج مع هذه الخصائص للناس التي تعتبر أساس الإطمئنان في الحياة، هو أحد مواهب الله العظيمة.

وهذا السكن أو الإطمئنان ينشأ من أن هذين الجنسين يكمل بعضهما بعضاً، وكل منهما أساس النشاط والنماء لصاحبه، بحيث يعد كل منهما ناقصاً بغير صاحبه، فمن الطبيعي أن تكون بين الزوجين مثل هذه الجاذبيّة القوية.

ومن هنا يمكن الإستنتاج بأنّ الذين يهملون هذه السنة الإلهية وجودهم ناقص، لأنّ مرحلة تكاملية منهم متوقفة، (إلاّ أن توجب الظروف الخاصة والضرورة في بقائهم عزّاباً).

وعلى كل حال، فإنّ هذا الإطمئنان أو السكن يكون من عدّة جهات "جسمياً وروحيّاً وفردياً واجتماعيّاً".

ولا يمكن إنكار الأمراض التي تصيب الجسم في حالة عدم الزواج، وكذلك عدم التعادل الروحي والإضطراب النفسي عند غير المتزوجين.

ثمّ أنّ الأفراد العزّاب لا يحسّوون بالمسؤولية - من الناحية الإجتماعية - كثيراً.. ولذلك فإن الإنتحارتزداد بين أمثال هؤلاء أكثر.. كما تصدر منهم جرائم مهولة أكثر من سواهم أيضاً.

وحين يخطو الإنسان من مرحلة العزوبة إلى مرحلة الحياة الأُسرية يجد في نفسه شخصية جديدة، ويحس بالمسؤولية أكثر، ، وهذا السكن والإطمئنان فيظل الزواج.

وأمّا مسألة "المودة والرحمة" فهما في الحقيقة "ملاط" البناء في المجتمع الإنساني، لأنّ المجتمع يتكون من افراد متفرقين كما أن البناء العظيم يتألف من عدد من الطابوق و "الآجر" أو الأحجار.

فلو أن هؤلاء الأفراد المتفرقين اجتمعوا، أو أن تلك الأجزاء المتناثرةوصلت بعضها ببعض، لنشأ من ذلك المجتمع أو البناء حينئذ.

فالذي خلق الإنسان للحياة الإجتماعية جعل في قلبه وروحه هذه الرابطة الضرورية.

والفرق بين "المودة" و "الرحمة" قد يعود إلى الجهات التالية:

1 - المودة هي الباعثة على الإرتباط في بداية الأمر بين الزوجين، ولكن في النهاية، وحين يضعف أحد الزوجين فلا يكون قادراً على الخدمة، تأخذ الرحمة مكان المودة وتحلّ محلها.

2 - المودة تكون بين الكبار الذين يمكن تقديم الخدمة لهم، أمّا الأطفال والصبيان الصغار، فإنهم يتربون في ظلّ الرحمة.

3 - المودّة، غالباً ما يكون فيها "تقابل بين الطرفين"، فهي بمثابة الفعل ورد الفعل، غير أنّ الرحمة من جانب واحد لديه إيثار وعطف، لأنّه قد لا يحتاج إلى الخدمات المتقابلة أحياناً، فأساس بقاء المجتمع هو "المودة" ولكن قد يحتاج إلى الخدمات بلا عوض، فهو الايثار والرحمة.

وبالطبع فإنّ الآية تبيّن المودة والرحمة بين الزوجين، ولكن يحتمل أن يكون التعبير "بينكم" إشارة إلى جميع الناس.. والزوجان مصداق بارز من مصاديق هذا التعبير، لأنّه ليست الحياة العائلية وحدها لا تستقيم إلاّ بهذين الأصلين (المودّة والرحمة) بل جميع المجتمع الإنساني قائم على هذين الأصلين وزوالهما من المجتمع - وحتى نقصانهما يؤدي إلى أنواع الارباك والشقاءوالاضطراب الإجتماعي.

أمّا آخر آية - من هذه الآيات محل البحث - فهي مزيج من آيات الآفاق وآيات الأنفس، فتبدأ بالإشارة إلى خلق السماء والأرض، فتقول: (ومن آياته خلق السماوات والأرض).

السماوات بجميع ما فيها من كرات، وبجميع ما فيها من منظومات ومجرّات، السماوات التي مهما حلّق فيها الفكر عجز عن إدراك عظمتها ومطالعتها.. وكلّما تقدم علم الإنسان تتجلى له نقاط جديدة من عظمتها.

كان الإنسان يرى الكواكب في السماء بهذا العدد الذي تراه العين (وقد أحصى العلماء الكواكب التي ترى بالعين المجرّدة، فوجدوها تتراوح بين خمسة الآف إلى ستة الآف كوكب).

ولكن كلما تقدم العلم في صناعة المجهر والتلسكوب، فإنّ عظمة وكثرة الكواكب تزداد أكثر... إلى درجة بلغ الإعتقاد اليوم أن مجرتنا لوحدها من بين مجاميع المجرات في السماء تحتوي على أكثر من مئة مليون كوكب وتعد الشمس على عظمتها المذهلة واحدة من النجوم المتوسطة، ولا يعلم عدد المجرات ولا يحصيها إلاّ الله، إذ هو وحده يعلم كم من كوكب ونجمة في هذا المجرات!

وكذلك كلما تقدم العلم الطبيعي والجيولوجيا، وعلم النبات والعلوم البيلوجية "والحيوانية" وعلم التشريح والفيزياء، والعلوم النفسية وغيرها، فستتضح عجائب في خلق الأرض كانت خافية، كل واحدة تعدُّ آية من آيات الله.

ثمّ ينتقل القرآن إلى آية من آيات الأنفس الكبيرة فيقول: (واختلاف ألسنتكم وألوانكم).

وبلا شك فإنّ الحياة الإجتماعية للبشر، لا تقوم بغير معرفة وتشخيص الأفراد والأشخاص، إذ لو كان الناس جميعاً في يوم ما على صورة واحدة ولباسواحد، فإن أسلوب حياتهم يضطرب في ذلك اليوم، إذ لا يعرف الأب والابن والزوج من الغرباء، ولايميز المجرم من البريء، ولا الدائن من المدين، ولا الآمر من المأمور، ولا الرئيس من المرؤوس، ولا الضيف من المضيف ولا العدوّ من الصديق، وأي ارباك عجيب كان سيحدث لو كانوا على هذه الشاكلة!.

وعلى سبيل الإتفاق قد تحدث هذه المسألة بين الإخوة التوائم، أو الشقيقين التوأمين المتشابهين من جميع الوجوه، وكم تحدث من المشاكل بين الناس وبينهم، وقد سمعنا ذات مرّة أن امرأة كان لديها توأمان متشابهان تماماً، وكان أحدهما مريضاً، فأعطت الدواء لمعافى دون السقيم!!.

لذلك خلق الله الأصوات والألون لتنظيم المجتمع البشري، على حد تعبير "الرازي" في تفسيره في ذيل الآية محل البحث: إن معرفة الإنسان للإنسان تحصل إمّا عن طريق العين أو الأذن، فخلق الله الألوان والصور والأشكال المختلفة لتعرفها العين وتشخصها، وأوجد اختلاف الأصوات لتشخصها الأذن، حتى أنّه لا يمكن العثور في جميع العالم على انسانين متشابهين في الوجه والصوت معاً، أي إن وجه الإنسان الذي هو عضو صغير، وصوته الذي هو موضوع بسيط، بقدرة الله جاءا على مليارات الأشكال والأصوات المختلفة، وما ذلك الإختلاف إلاّ من آيات عظمة الله.

كما يحتمل أن المراد باختلاف الألسنة كما أشار إليه كبار المفسّرين هو اختلاف اللغات، من قبيل العربية والفارسية واللغات الأخرى.

ولكن يمكن أن يستفاد من كلمة "اختلاف" معنى واسع بحيث يشمل هذا التّفسير وما قبله، وأي تفسير آخر، فهذا التنوع في الخلقة شاهد على عظمة الخالق وقدرته.

يقول "فريد وجدي" في دائرة معارفه، نقلا عن قول "نيوتن" العالم الغربي المعروف (لا تشكوا في الخالق، فإنه ممّا لا يُعقل أن تكون الضرورة وحدها هيقائدة الوجود، لأنّ ضرورة عمياء متجانسة في كل مكان وفي كل زمان لا يتصور أن يصدر منها هذا التنوع في الكائنات، ولا هذا الوجود كله بما فيه من ترتيب أجزائه وتناسبها، مع تغيرات الأزمنة والأمكنة، بل إن كل هذا لا يعقل أن يصدر إلاّ من كائن أزلي له حكمة وإرادة)(1).

ويقول القرآن في نهاية الآية الآنفة الذكر (إنّ في ذلك لآيات للعالمين).

فالعلماء يعرفون هذه الأسرار قبل كل أحد.


1- دائرة المعارف، محمّد فريد وجدي، ج 1، ص 496 (مادة اله).