الآيات 67 - 69

﴿أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءَامِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَـطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّآ جَآءَهُ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَـفِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَـهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَـمَعَ الْـمُحْسِنِينَ (69) ﴾

سبب النزول

نقل في تفسير "الدر المنثور" عن ابن عباس - ذيل الآية محل البحث - أن جماعة من المشركين قالو: يا محمّد ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلاّ مخافة أن يتخطفنا الناس لِقلَّتنا والعرب أكثر منّا فمتى بلغهم أنا قد دخلنا في دينك اختطفنا فكنّا أكلة رأس، فانزل الله: (أولم يروا أنا جعلنا حرماً) وكانت جواباً لهم.

التّفسير

أشارت الآيات - التي سبق ذكرها - إلى بعض الحجج الواهية للمشركين، وهي أنّنا نخاف على حياتنا إذا أظهرنا الإيمان ثمّ هاجرنا معك يا رسول الله، وقد ردّ عليها القرآن بطرق مختلفة.

وفي الآيات - محل البحث - يردّ القرآن عليهم بطريق آخر فيقول: (أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً) أي أرض مكّة المكرمة.

في حين أن العرب كانوا يعيشون في حالة غير آمنة خارج مكّة، وكانت قبائلهم مشغولة بالنهب والسلب والغارات، إلاّ أن هذه الأرض باقية على أمنها (ويُتخطف الناس من حولهم).

فالله المقتدر على أن يجعل في هذا البحر المتلاطم والطوفان المحدق بأرض الحجاز "من الفتن" حَرَم مكّة كالجزيرة الهادئة الآمنة وسط البحر.

كيف لا يمكنه أن يحفظهم من أعدائهم؟! وكيف يخافون الناس الضعاف قبال قدرة الله العظيمة جلّ وعلا؟ (أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون).

وملخص الكلام، إنّ الله القادر على أن يجعل في أرض مضطربة في وسط جماعة من الناس أنصاف وحشيين منطقة صغيرة آمنة، فكيف لا يقدر على حفظ جماعة المؤمنين القلائل بين جماعات كثيرة من الكفار.

وبعد ذكر هذا الدليل الواضح ينتهي القرآن إلى هذه النتيجة في الآية التالية (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذّب بالحق لما جاءه).

لقد قدمنا دلائل واضحة لكم على أنّه لا شيء أحق بالعبادة وأحرى بها من الله، لكنّكم كذبتم على الله، وصنعتم له شركاء بأيديكم، وتدعون أن هذا هو منهج إلهي.

ومن جهة أُخرى، فإنّ القرآن الذي أنزلناه عليكم فيه دلائل الحق لائحة واضحة، إلاّ أنّكم لم تكترثوا به، وألقيتموه وراءكم ظهرياً! فهل يتصور ظلم أشدّ من هذا؟! لقد ظلمتم أنفسكم وظلمتم الناس جميعاً، لأنّ الشرك ظلم عظيم.

وبتعبير آخر: هل الظلم بمعناه الوسيع إلاّ الإنحراف وإخراج الشيء عن محلّه الجدير به، وهل يرى أسوأ من أن يعدّ الإنسان حفنة من الأحجار المصنوعة التي لا قيمة لها أو الخشب المصنوع شركاء للخالق سبحانه الذيخلق السماوات والأرض.

إضافة إلى ذلك فإنّ الشرك مصدر جميع المفاسد الإجتماعية، وفي الواقع إن المظالم الأُخرى تسترفد منه، عبادة الهوى، عبادة المقام، عبادة الدنيا، كل منها نوع من الشرك.

ولكن اعلموا أنّ عاقبة الشؤم والخزي للمشركين (أليس في جهنم مثوى للكافرين).

من الجدير ذكره أنّ في القرآن الكريم 15 مورداً عبّر فيها القرآن عن بعض الأفراد بأنّهم الأظلم، وجميع هذه الموارد بدأت بجملة استفهامية (ومن أظلم)طبعاً الإستفهام هنا استنكاري.

والتدقيق في هذه الآيات يدل على أنّ الآيات المذكورة وإن عالجت مسائل متنوعة، إلاّ أنّها جميعاً تعود إلى الشرك، فعلى هذا لا تضاد بينها أبداً.

"لمزيد الإيضاح يراجع تفسير الآية (21) من سورة الأنعام".

وآخر آية - من الآيات محل البحث - وهي في الوقت ذاته آخر آية سورة العنكوبت، تبيّن واقعاً مهماً، وهي عصارة جميع هذه السورة، وتنسجم مع بدايتها.

، تقول الآية.. بالرغم من أن المشاكل المتعددة تحيط بطريق المسير إلى الله، من قبيل مشكلة معرفة الحق، ومشكلة وساوس الشياطين من الإنس والجن، ومشكلة عناد الأعداء الألداء الظالمين الذين لا يرحمون، ومشكلة الانحرافات الإحتمالية، لكن هنا حقيقة ثابتة، وهي أن الله يمنحكم القوّة والإطمئنان قبال المشاكل ويدافع عنكم، تقول الآية: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين).

وفي معنى "الجهاد" هنا والمراد منه احتمالات متعددة.

أهو جهاد الأعداء؟ أم جهاد النفس؟ أم الجهاد في سبيل معرفة الله عن الطرق العلمية؟

للمفسّرين آراء في هذا المجال.

وكذلك في معنى "فينا" الذي ورد تعبيره في الآية، هل المراد منه في سبيل الله؟! أم في سبيل الجهاد للنفس، أم في سبيل العبادة، أم مواجهة الأعداء؟

ولكن من الواضح أنّ التعبير بالجهاد له معنى واسع مطلق، ومثله التعبير بكلمة "فينا" فالتعبير يشمل كل سعي وجهاد في سبيل الله ومن أجله، وللوصول إلى الأهداف الإلهية، كل ذلك يصدق عليه (جاهدوا فينا) سواءٌ كان في سبيل كسب المعرفة! أو جهاد النفس، أو مواجهة الأعداء، أو الصبر على الطاعة، أو الصبر على المعصية، أو في إعانة الضعفاء، أو في الإقدام على أي عمل حسن وصالح!

ويتّضح ممّا قلناه ضمناً أنّ المراد بـ "السبل" الطرق المتعددة التي تنتهي إلى الله، سبيل جهاد النفس، سبيل جهاد الأعداء، سبيل العلم والثقافة.

والخلاصة، فإن الجهاد في كل طريق من هذه الطرق والسبل سبب لهداية المسير المنتهي إلى الله.

وهذا وعدٌ وعده الله لجميع المجاهدين في سبيله، وأكده بأنواع التأكيدات كـ "لام التأكيد والنون الثقيلة" وجعل التوفيق والإنتصار والرقي في محور شيئين هما"الجهاد" و "خلوص النية".

ويعتقد جماعة من الفلاسفة أنّ التفكر والمطالعة لا يوجدان العلم، بل يهيآن روح الإنسان لقبول صور المعقولات، وحين تتهيأ الروح الإنسانية للقبول يتنزّل "الفيض" من قبل الخالق المتعال وواهب الصور بالعلم و"الحكمة".

فعلى هذا ينبغي على الإنسان أن يجاهد في هذا الطريق، إلاّ أن الهداية بيد الله تعالى.

وما ورد في الحديث أنّه "ليس العلم بكثرة التعلم والتعليم، بل هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء"، فلعله إشارة إلى هذا المعنى أيضاً.

ملاحظتان

1 - الجهاد والإخلاص

يستفاد من الآية المتقدمة بصورة جيدة أنّنا إذا أصبنا بأي نوع من الهزيمة عدم الموفقية، فسبب ذلك وعلته أحد أمرين: إمّا أنا قصّرنا في جهادنا، أو لم يكن لدينا إخلاص في العمل، وإذا اجتمع الجهاد والإخلاص - فبناء على وعد الله - فإن النصر والهداية حتميّان.

ولو فكّرنا جيداً لاستطعنا أن نعزو جميع المشاكل والمصائب في المجتمع الإسلامي إلى التقاعد عن الجهاد وعدم الإخلاص، فهما مصدرها.

فلم تأخر المسلمون، الذين كانوا متقدمين بالأمس!؟

ولم يمدون يد الحاجة إلى الأجانب في كل شيء، حتى في الثقافة والقوانين، وحتى نظمهم الخاصة.

ولم يعتمدون على غيرهم من أجل حفظ أنفسهم من التيارات السياسية والهجومات العسكرية.

لم كان الآخرون جالسين يوماً على مائدة المسلمين التي كان خوانها مبسوطاً بالعلم والثقافة والمعرفة، واليوم أصبح المسلمون جالسين على مائدة الآخرين؟!!

وأخيراً، لم نرى المسلمين أسرى في قبضة الآخرين، وأراضيهم مغصوبة من قبل الظالمين؟

الإجابة على جميع هذه الأسئلة منحصرة في سبب واحد، هو "نسيانهم الجهاد" أو "عدم الخلوص في النية".

أجل، لقد اهملوا الجهاد في الميادين العلمية والثقافية والسياسية والإقتصادية والعسكرية، وتغلّب عليهم حب النفس وعشق الدنياا وطلب الراحةوالنظرة الضيقة والأغراض الشخصيّة، حتى أصبح قتلاهم على أيديهمأكثر من قتلاهم على أيدي أعدائهم!.

إنّ استغراب بعض المسلمين الذى أنبهروا بحضارة الغرب الرأسمالي أو الشرق الإشتراكي، وعمالة بعض الرؤساء والزعماء، ويأس وانزواء العلماء والمفكرين كل ذلك سلبهم التوفيق إلى الجهاد، وكذلك حرمهم من الإخلاص.

ومتى ما ظهر قليل من الإخلاص بين صفوفنا، وتحرك مجاهدونا حركة ذاتية، فإن النصر يكون حليفنا واحداً بعد الآخر... وتتقطع غلال الأسر... ويتبدل اليأس إلى أمل مشرق، وسوء الخط إلى حسن الحظ، والذلة إلى العزة ورفعة الرأس، كما تتبدل الفرقة والشتات إلى الوحدة والإنسجام.

وما أعظم ما قاله القرآن! وما أبلغ إلهامه! إذ جمع في جملة واحدة الداء والدواء معاً.

أجل إن الذين يجاهدون في سبيل الله تشملهم هدايته، ومن البديهي أنّه مع هداية الله، فلا ضلال ولا خسران، ولا انهزام.

وإذا لاحظنا أن الآية مفسرة في بعض روايات أهل البيت(ع) بآل محمّد(ص)وأتباعهم، فهي مصداق كامل لذلك "التّفسير" لأنّهم كانوا السابقين والمتقدمين في طريق الجهاد، وليس في الآية دليل على تحديد مفهومها أبداً.

وعلى كل حال، فإنّ كل إنسان يلمس هذه الحقيقة القرآنية.. في سعيه واجتهاده، حيث يجد الأبواب مفتوحة عندما يعمل لله وفي سبيل الله، وتنتهي مشاكله السهلة والصعبة وتضحى بسيطة متحملة.

2 - الناس ثلاثة أصناف:

فصنف لجوج معاند لا تنفعه أية هداية.

وصنفٌ مجد دؤوب مخلص، وهذا الصنف يصل إلى الحق.

وصنفٌ ثالث أعلى من الصنف الثاني، فهذا الصنف ليس بعيداً حتى يقتربمن الحق، ولا منفصلا عنه حتى يتصل به، لأنّه معه أبداً.

فالآية المتقدمة (ومن أظلم ممن افترى) إشارة إلى الصنف الأوّل.

وجملة (والذين جاهدوا فينا) إشارة إلى الصنف الثّاني.

وجملة (إن الله لمع المحسنين) إشارة إلى الصنف الثّالث.

ويستفاد - ضمناً - من هذا التعبير أن مقام "المحسنين" أسمى من مقام "المجاهدين"، لأنّ المحسنين إضافة إلى جهادهم في سبيل الله لنجاة أنفسهم، فهم مؤثرون غيرهم على أنفسهم، ويحسنون إلى الآخرين، ويسعون لإعانتهم.

ربّنا وفقنا توفيقاً ترحمنا به، فلا نكفّ أيدينا عن الجد والإجتهاد.

إلهنا.. ارزقنا الإخلاص حتى لا نفكر في سواك، ولا نخطوا لغيرك.

إلهنا.. ارفع درجاتنا حتى نعلو على مقام المجاهدين وننال درجة المحسنين، وارزقنا هدايتك في جميع أعمارنا.

آمين يا ربّ العالمين

انتهاء سورة العنكبوت