الآيات 61 - 66

﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَـوتِ وَالاَْرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُوُلُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَىْء عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَّنْ نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الاَْرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ قَلِ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَـذِهِ الحَيَوةُ الدُّنْيَا إلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَاِنَّ الدَّارَ الاَْخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّـهُمْ إلى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءَاتَيْنَـهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) ﴾

التفسير

الاقرار بالتوحيد في الباطن والشرك في الظاهر:

كان الحديث في الآيات السابقة موجّهاً إلى المشركين الذين أدركوا حقانية الإسلام، إلاّ أنّهم لم يكونوا مستعدين للإيمان والهجرة، خوفاً من انقطاع الرزق عليهم.

أمّا في هذه الآيات، فالحديث موجه للنّبي(ص)، وفي الواقع لجميع المؤمنين، وهو يبيّن دلائل التوحيد عن طرق "الخلقة"، و"الربوبيّة"، و"الفطرة"، أي عن ثلاث طرائق متفاوتة، ويريهم أن مصيرهم وعاقبة أمرهم بيد الله الذي يجدون آثاره في الآفاق وفي أنفسهم، لابأيدي الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع.

فتبدأ الآية الأُولى من هذه الآيات محل البحث - مشيرةً إلى خلق السماوات والأرض وتستعين باعتقاداتهم الباطنية... فتقول: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله)!

لأنّ من المسلم به أنّه لا عبدة الأصنام ولا غيرهم ولا أي أحد آخر يقول: إنّ خالق السماوات والأرض ومسخر الشمس والقمر حفنة من الأحجار والخشب المصنوعة بيد الإنسان.

وبتعبير آخر: لا يشك في "توحيد الخالق" حتى عبدة الأصنام حيث كانوا مشركين في عبادة الخالق، وكانوا يقولون: إنّما نعبد أوثاناً ليقربونا إلى الله زلفى، فهم الوسطاء بيننا وبين الله، كما نقرأ في الآية (18) من سورة يونس (ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عندالله).. فنحن غير جديرين أن نرتبط بالله مباشرةً، بل ينبغي أن نرتبط به عن طريق الأصنام (ما نعبدهم إلاّ ليقربونا إلى الله زلفى).(1)

وهم غافلون عن أنّه لا تفصل بين الخالق والمخلوق أية فاصلة، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، زد على ذلك: إذا كان الانسان - الذي هو بمثابة الدرّة اليتيمة في تاج الموجودات - لا يستطيع أن يرتبط بالله مباشرةً، فأي شيء يكون واسطة الإنسان إلى الله؟!

وعلى كلّ حال، فإنّ الآية بعد ذكر هذا الدليل الواضح تتساءل: (فأنّى يؤفكون)أي مع هذا المال كيف يعرضون عن عبادة خالقهم ويستبدلونها بعبادة مجموعة من الاحجار والاخشاب؟!

كلمة "يؤفكون" مشتقّة من "إفك" على زنة "فكر" ومعناها إعادة الشيء من صورته الواقعية والحقيقية، وبهذه المناسبة تطلق الكلمة على الكذب وعلى الرياح المخالفة"للإتجاه" أيضاً.

والتعبير بـ "يؤفكون" بصيغة المجهول إشارة إلى أنّهم لا قدرة لهم على التصميم، فكأنّهم منجذبون إلى عبادة الأوثان دون إرادة.

والمراد من تسخير الشمس والقمر النظم التي أقرها الله تعالى، وجعل الشمس والقمر في دائرة هذه النظم في خدمة الإنسان، ومنافعه.

ثمّ يضيف القرآن تأكيداً لهذا المعنى، وهو أن الله خالق الخلق ورازقهم، فيقول: (الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له)... فمفتاح الرزق بيده لا بيد الناس ولا بيد الأصنام.

وما ورد بيانه في الآيات السابقة من أنّ المؤمنين حقّاً هم وحدهم يتوكلون عليه، فلأجل هذا المعنى، وهو أن شيء بيده وبأمره، فعلام يخشون من إظهار الإيمان، ويرون حياتهم في خطر من جهة الأعداء.

وإذا كانوا يتصورون أنّ الله قادر، إلاّ أنّه غير مطّلع على حالهم، فهذا خطأ كبير لـ(أنّ الله بكل شيء عليم).

ترى هل يمكن لخالق مدبر يصل فيضهُ لحظة بعد أُخرى لموجوداته، وفي الوقت ذاته يكون جاهلا بحالها؟.

وفي المرحلة الثّانية يقع الكلام عن "التوحيد الربوبي" ونزول مصدر الأرزاق من قبله عليهم، فيقول: (ولئن سألتهم من نزّل من ا لسماء ماءً فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله).

فهذا هو ما يعتقده عبدة الأصنام في الباطن، ولا يتأبون من الاعتراف على ألسنتهم! فهم يعرفون أن الخالق هو الله، وأنّه ربّ العالم ومدبره.

ثمّ يضيف القرآن مخاطباً نبيّه (قل الحمد لله).

فالحمد والثناء لمن أنعمجميع النعم، إذ لمّا كان الماء الذي هو مصدر الحياة لجميع الحيوانات من رزق الله فيكون واضحاً أن الأرزاق جميعها صادرة من قبله أيضاً.

قل الحمد لله "واشكره"، لأنّهم يعترفون بهذه الحقائق.

وقل الحمد لله، فمنطقنا قوي متين حيٌّ إلى درجة لا يستطيع أي أحد ابطاله أو تفنيده.

وحيث أنّ أقوال المشركين من جهة، وأعمالهم وأفعالهم وكلماتهم من جهة أُخرى، يناقض بعضها بعضاً، فإنّ الآية تختتم بإضافة الجملة التالية (بل أكثرهم لا يعقلون).

وإلاّ فكيف يمكن للإنسان العاقل أن يتناقض في كلماته، فتارةً يرى أن الخالق والرازق والمدبّر للعالم هو الله، وتارة يسجد للأوثان التي لا تأثير لها بالنسبة لعواقب الناس!.

فمن جهة يعتقدون بتوحيد الخالق والرب، ومن جهة أُخرى يظهرون الشرك في العبادة.

ومن الطريف أنّ الآية لا تقول: "أكثرهم لا عقل لهم" بل تقول: (لا يعقلون)ومعناها أنّهم لديهم العقول، إلاّ أنّهم لا يستوعبون ولا يتعقلون!

ومن أجل أن يحوّل القرآن أفكارهم من أفق هذه الحياة المحدودة إلى عالم أوسع من خلال منظار العقل، فإنّه يبيّن في الآية التالية كيفية الحياة الدنيا قياساً إلى الحياة الأُخرى الخالدة، في عبارة موجزة ومليئة بالمعاني، فيقول: (وما هذه الحياة الدنيا إلاّ لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون).

كم هو تعبير بليغ وبديع! لأنّ "اللهو" معناه الإنشغال.. أو كل عمل يصرف الإنسان إليه ويشغله عن مسائل الحياة الأساسية.

أمّا "اللعب" فيطلق على الأعمال التي فيها نوع من النظم الخيالي، والهدف الخيالي أيضاً، ففي اللعب يكون أحد اللاعبين ملكاً، والآخر وزيراً، والثّالث قائداً للجيش، والرابع - السارق أو "الحرامي"، والخامس يمثل القافلة وهكذا، وبعد انتهاء اللعب المؤقت يعود كل شيء إلى مكانته، وكأن المسألة لا تعدواطيفاً.. أو خيالا.. فلا أثر ولا خبر.

فالقرآن في هذا الصدد يشرح حال الدنيا وحال الآخرة، مبيناً أن الحياة الدنيا هي نوع من الإنشغال واللعب يجتمع الناس فيها وينشدّون إلى تصورات قلوبهم وأنفسهم، وبعد أيّام يتفرقون ويختفون تحت التراب، ثمّ يطوى كل شيء ويغدو في سلة النسيان.

أمّا الحياة الحقيقية التي الافناء بعدها، ولا ألم فيها، ولا قلق ولاخوف ولا تضاد ولا تزاحم، فهي الحياة الآخرة فحسب... لو كان الإنسان يعرف ذلك، وكان أهلا للتدقيق والتحقيق!

أمّا الذين تعلقت قلوبهم بهذه الحياة، وفتنوا برزقها وزخرفها وزبرجها، ويأنسون بها، فهم أطفال لا غير وإن امتدت أعمارهم سنين طويلة.

وينبغي الإلتفات إلى أنّ المراد من "الحيوان" على زنة "خفقان" هو الحياة، فهذه الكلمة تحمل معنى مصدرياً(2).. وهذا التعبير (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان) إشارة إلى أن الحياة الحقيقية هي في الأخرى، لا في هذه الدار الدنيا - فكأنّ الحياة في الأُخرى تفور من جميع أبعادها، ولا شيء هناك إلاّ الحياة.

وبديهي أن القرآن لا يريد أن ينسى وينفي مواهب الله في هذه الدار الدنيا، بل يريد أن يجسد قيمة هذه الدنيا بالقياس إلى الأُخرى قياساً صريحاً وواضحاً... وإضافةً إلى كل ذلك فإنّه ينذر الإنسان لئلا يكون أسيراً لهذه المواهب، بل ينبغي أن يكون أميراً عليها، ولا يؤثرها على القيم الأصيلة أبداً.

وفي المرحلة الثّالثة... يتجه القرآن نحو الفطرة والجبلّة الإنسانية، ونحو تجلّي نور التوحيد في أشدّ الأزمات في أعماق روح الإنسان، وضمن مثال بديع جدّاً وبليغ فيقول: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلمّا نجّاهم إلى البرّ إذا هم يشركون).

أجل، إنّ الشدائد والازمات هي التي تهيء الارضية لتفتح الإجتماعية "الفطرة" الإنسانية، لأنّ نور التوحيد مخفي في أرواح الناس جميعاً، إلاّ أن الآداب والمسائل الخرافية والتربية الخاطئة والتلقينات السيئة تلقي عليه ظلالا وأستاراً، ولكن حين تحدق بالإنسان الشدائد وتحيط به دوّامات المشاكل، ويرى يده قاصرة عن الأسباب الظاهرية، يتجه بدون اختياره إلى عالم ما وراء الطبيعة، ويخلص قلبه من كل نوع من أنواع الشرك والكفر، وينصهر في تنور الحوادث، ويكون مصداقاً لقوله تعالى: (مخلصين له الدين).

وملخص الكلام: إنّه توجد في داخل قلب الإنسان دائماً نقطة نورانية، وهي خطّ ارتباطه بما وراء عالم الطبيعة، وأقرب طريق إلى الله.

إلاّ أنّ التعليمات الخاطئة والغفلة والغرور - وخاصة عند السلامة ووفور النعمة - تلقي عليها أستاراً، غير أن طوفان الحوادث يزيل هذه الأستار، وتتجلى نقطة النور آنذاك.

وعلى هذا، فإنّ أئمّة المسلمين العظام كانوا يرشدون المترددين في مسألة "معرفة الله" ويغرقون في الشك والحيرة.. بهذا الأمر.

وقصّة الرجل المتحيّر المبتلى بالشك في معرفة الله، والذي أرشده الإمام الصادق(ع) عن طريق الفطرة والوجدان، سمعناها جميعاً إذ قال: يابن رسول الله، دلّني على الله ما هو؟! فقد أكثر علي المجادلون وحيّروني!

فقال له الإمام(ع): "يا عبدالله، هل ركبت سفينة قطّ؟قال: نعم.

قال: فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟!

قال: نعم!

قال: فهل تعلّق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلصك منورطتك؟!

قال: نعم.

قال الصادق(ع): فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث".(3)

وفي آخر آية - من الآيات محل البحث - وبعد ذكر جميع هذه الدلائل على التوحيد وعبادة الله، يواجه القرآن المشركين والكفار بتهديد شديد فيقول: إن هؤلاء أنكروا آياتنا وكفروا بما رزقناهم من النعم فليتمتعوا بها أيّاماً قلائل: (ليكفروا بما آتيناهم فسوف يعلمون) عاقبة كفرهم وشركهم إلى أين ستبلغ بهم؟ وأي ابتلاء ومصير مشؤوم سيقعون فيه؟!

وبالرغم من أنّ ظاهر الآية هنا هو الأمر بالكفر وإنكار آيات الله...إلاّ أن من البديهي أنّ المراد منه التهديد... وهذا تماماً ينطبق مثلا على ما لو قلنا لمذنب جان: افعل ما بدا لك من إجرام، إلاّ أنّك سرعان ما تذوق مرارة عملك؟

ففي مثل هذه العبارات، وإن استعملت صيغة الأمر فيها، إلاّ أنّ الهدف من ورائها هو التهديد وليس الطلب.

والطريف أن جملة (فسوف يعلمون) جاءت بصورة مطلقة، فهي لا تقول: أي شيء يعلمون... بل تقول: سيعلمون عاجلا، هذا هو معنى (فسوف يعلمون).

إطلاق الكلام هذا ليكون مفهومه واسعاً ولا يتحدد ذهن السامع بأي شيء فنتيجة الأعمال السيئة هي عذاب الله، الإفتضاح في الدارين، وكل أنواع الشقاء وسوء العاقبة!.

ملاحظة

الشدائد واشراق القطرة:

سنتحدث بإذن الله في ذيل الآية الثلاثين من سورة الروم حول "فطريّة" أصل التوحيد ومعرفة الله بشكل مفصّل، وما يلزم ذكره هنا هو أنّ القرآن المجيد يتحدث في آيات كثيرة عن المشاكل والصعاب على أنّها باعثة على ظهور الفطرة الإنسانية وبروزها "فالمشاكل والصعاب وسيلة لاشراق الفطرة".

يقول القرآن في بعض آياته: (وما بكم من نعمة فمن الله ثمّ إذا مسكم الضرّ فإليه تجأرون ثمّ إذا كشف الضر عنكم إذاً فريق منكم بربّهم يشركون).(4)

ويأتي هذا المعنى في سورة يونس، ولكن بأُسلوب آخر، إذ يقول القرآن (إذا مسّ الإنسان الضرّ دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنه ضرّه مرّ كأن لم يدعنا إلى ضرّ مسه) (5) كما ورد هذا المعنى في سورة الروم الآية (32) وسورة الزمر الآية (49) وسورة الإسراء الآيات (67) - (69) بعبارات أُخرى وإشارات مليئة بالمعاني.

وفي الآيات - محل البحث - قرأنا أيضاً أن المشركين في الحالات العادية يتجهون إلى الأصنام، ولكن إذا سافروا في البحر وأحاطت بهم الأمواج والطوفان، وأضحت سفينتهم كالقشة في وسط الأمواج المتلاطمة تتقاذفها هنا وهنا، وانقطعت بهم السبل تتنور قلوبهم بنور التوحيد ويلقون جانباً جميع المعبودات المصنوعة، ويخلصون قلوبهم كاملا - لكن خلوصاً إجبارياً لا قيمة له - فما أن يهدأ الطوفان وتتلاشى الأمواج وتعود الحالة الإعتيادية، حتى تنزل الأسدال على الفطرة وتظهر أشواك الشرك والوثنية على هذه "الوردة".

قد يقال: إنّ هذه الحالة من التوجه تحصل على أثر التلقين والرسوبات الفكرية من الثقافة الإجتماعية وأفكار المحيط.

ويمكن قبول مثل هذا الكلام فيما إذا كانت هذه المسألة تحدث خاصّة في موارد المتدينين أو الذين نشؤوا في محيط ديني، ولكن مع الإلتفات إلى أن هذه الحالة تظهر حتى عند أشد المنكرين لله، وفي المجتمعات غير المذهبية، فيتّضح حينئذ أن جذرها كامن في الضمير (غير الواعي) للإنسان، وفي داخل فطرته وجبلّته!.


1- تحدثنا عن حقيقة التوكل وحكمته وفلسفته بإسهاب في ذيل الآية (12) سورة إبراهيم، وعن حقيقة الصبر لدى تفسير الآية (12) من سورة إبراهيم و الآية (24) من سورة الرعد و الآية (26) من سورة الأعراف.

2- الزمر، الآية 3.

3- أصل الكلمة مشتق من "حيي" ومصدرها "حييان" ثمّ أبدلت الياء الثّانية واواً فصارت حيوان.

4- بحار الأنوار، ج 3، ص 41"الطبعة الجديدة.

5- النحل، الآيتان 53 - 54".