الآيات 46 - 49
﴿وَلاَ تُجَـدِلُوا أَهْلَ الْكِتَـبِ إلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُواْ ءَامَنَّا بِالَّذى أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـهُنَـا وَإِلَـهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَـبَ فالَّذِينَ ءَاَتَيْنَـهُمُ الْكِتَـبَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاَءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بَاَيَـتِنَآ إلاَّ الْكَـفِرُونَ (47)وَمَا كنْتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَـب وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ ءَايَـتٌ بَيِّنَـتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِاَيَـتِنَآ إلاّ الظَّـلِمُونَ (49)﴾
التّفسير
اتّبعوا أحسن الأساليب في البحث والجدال:
كان أكثر الكلام في الآيات المتقدمة في كيفية التعامل مع المشركين المعاندين وكان مقتضى الحال أن يكون الكلام شديد اللهجة حادّاً، وأن يعدَّ ما يعبدون من دون الله أوهى من بيت العنكبوت، أمّا في هذه الآيات - محل البحث - فيقع الكلام في شأن مجادلة أهل الكتاب الذين ينبغي أن يكون الكلام معهم لطيفاً، إذ أنّهم - على الأقل - قد سمعوا قسماً ممّا جاء به الأنبياء والكتبالسماوية، ولديهم استعداد أكثر للتعامل المنطقي، إذ ينبغي أن يكلم كل شخص بمقدار علمه وعقله وأخلاقه.
فيقول القرآن في هذا الصدد: (لا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن)(1).
"تجادلوا" مشتق من "جدال" ومعناه في الأصل فتل الحبل وإحكامه، كما تستعمل هذه المفردة في البناء المحكم وما أشبهه، وحين يتناقش اثنان في بحث معين فكل واحد منهما - في الحقيقة - يريد أن يلوي صاحبه عن عقيدته وفكرته.. لذا فقد سمّي هذا النقاش جدالا.
كما يرد هذا التعبير في النزاع أيضاً، وعلى كل حال فإنّه المراد من قوله (ولا تجادلوا) المناقشات المنطقية.
والتعبير بـ(التي هي أحسن) تعبير جامع يشمل الأساليب والطرق الصحيحة والمناسبة للتباحث أجمع، سواءً كان ذلك في الألفاظ أو المحتوى، وسواء كان في طريقة الكلام، أو الحركات والإشارات المصاحبة له.
فعلى هذا يكون مفهوم الجملة المتقدمة: إنّ ألفاظكم ينبغي أن تكون بطريقة مؤدبة، والكلام ذا مودّة، والمحتوى مستدلا، وصوتكم هادئاً غير خشن، ولا متجاوزاً لحدود الأخلاق أو لهتك الحرمة، وكذلك بالنسبة لحركات الأيدي والعيون والحواجب التي تكمل البيان، ينبغي أن تكون هذه الحركات ضمن هذه الطريقة المؤدبة... وكم هو جميل هذا التعبير القرآني، إذ أوجز عالماً من المعاني الدقيقة في جملة قصيرة.
كل هذه الأُمور لأجل أن الهدف من وراء النقاش والبحث ليس هو طلب التفوق ودحر الطرف الآخر، بل الهدف أن يكون الكلام حتى ينفذ في القلب وفي أعماق الطرف الآخر... وخير السبل للوصول إلى هذا الهدف هو هذا الأسلوب القرآني.
وكثيراً ما يتفق أنّه لو استطاع الإنسان أن يبيّن قول الحق بصورة يراه الطرف الآخر متطابقاً لفكره ورأيه، فسرعان ما ينعطف إليه وينسجم معه، لأنّ الإنسان ذو علاقة بفكره كعلاقته بأبنائه.
وهكذا فإنّ القرآن الكريم يثير الكثير من المسائل على صورة "السؤال والإستفهام" لينتزع جوابه من داخل فكر المخاطب فيراه منه!
وبالطبع فإنّ لكل قانون استثناءً، ومنها هذا القانون أو الأصل الكلي في البحث والمجادلة الإسلامية، فقد يُعدّ في بعض الموارد ضعفاً، أو يكون الطرف الآخر مغروراً إلى درجة أن هذا التعامل الإنساني يزيده جرأة وعدواناً وتكبراً، لذلك فإنّ القرآن يضيف مستثنياً: (إلاّ الذين ظلموا منهم).
وهم الذين ظلموا أنفسهم وظلموا الآخرين، وكتموا كثيراً من الآيات، لئلا يطلع الناس على أوصاف النّبي محمّد (ص).
الظالمون الذين جعلوا أوامر الله التي لا تنسجم مع منافعهم الشخصية تحت أقدامهم.
الظالمون الذين آمنوا بالخرافات فكانوا كالمشركين في عقيدتهم إذ قالوا: إن المسيح ابن الله، أو العزير ابن الله.
وأخيراً فهم أُولئك الذين ظلموا وتذرعوا بالسيف والقوّة بدلا من البحث المنطقي، وتوسّلوا بالشيطنة والتآمر على النّبي(ص) وعلى الإسلام.
ويختتم الآية بمصداق بارز من "المجادلة بالتي هي أحسن" ويمكنه أن يكون قدوة لأي بحث; فيقول القرآن الكريم: (وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون).
كم هو جميل هذا التعبير! وكم هو رائع هذا النغم واللهجة! لهجة الوحدة والإيمان بكل ما أنزل الله الواحد، وحذف جميع العصبيّات، ونحن وأنتم جميعاً موحدون لله مسلمون له.
وهذا مثل واحد من المجادلة بالتي هي أحسن التي ينجذب إليها كل من يسمعها، ويدلّ على أن الإنسان يجب أن يكون بعيداً عن التحزب أو طلب التفرقة، فنداء الإسلام هو نداء الوحدة والتسليم لكل كلام حق.
وأمثلة هذا البحث كثيرة في القرآن، ومن ضمنها ماأشار إليه الإمام الصادق(ع) إذ قال: "أمّا الجدال بالتي هي أحسن فهو ما أمر الله تعالى نبيّه أن يجادل به من جحد البعث بعد الموت وإحياءه له، فقال الله حاكياً عنه: قل يا محمّد" (يحييها الذي أنشأها أوّل مرّة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجرة الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون)(2).
والآية الأُخرى تؤكّد على الأصول الأربعة التي سبق ذكرها في الآية المتقدمة، فتقول: (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب) أي القرآن.
أجل... نزل هذا القرآن على أساس توحيد المعبود، وتوحيد دعوة جميع الأنبياء إلى الحق، والتسليم دون قيد أو شرط لأمر الله; والمجادلة بالتي هي أحسن!.
قال بعض المفسّرين: إنّ المراد من جملة (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب) هو تشبيه نزول القرآن على النّبي محمّد(ص) أيّ كما أنزلنا كتباً من السماء على الأنبياء الماضين، فكذلك أنزلنا إليك الكتاب!.
إلاّ أنّ التّفسير السابق يبدو أكثر دقّة، وإن كان الجمع بين التّفسيرين ممكناً أيضاً.
ثمّ يضيف القرآن الكريم: (والذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به) ويعتقدون بصدقه.. إذ أنّهم وجدوا علائمه في كتبهم، كما أن محتواه من حيث الأصول العامّة والكلية منسجم مع كتبهم!.
ومن المعلوم أن جميع أهل الكتاب (اليهود والنصارى) لم يؤمنوا بنبوّة محمّد(ص) "نبي الإسلام" فتكون هذه الجملة في خصوص تلك الجماعة المؤمنة منهم، والتي تبتغي الحق دون تعصب، فتكون جديرة أن يطلق عليها "أهل الكتاب".
ويضيف القرآن بعدئذ: (ومن هؤلاء من يؤمن به) (3) أي أهل مكّة والمشركون العرب.
ثمّ يقول القرآن في كفر الطائفتين من اليهود والنصارى (وما يجحد بآياتنا إلاّ الكافرون).
ومع الإلتفات إلى أنّ مفهوم الجحود، هو أن يعتقد الإنسان بشيء بقلبه وينكره بلسانه، فإنّ مفهوم الجملة المتقدمة أن الكفار يعترفون في قلوبهم بعظمة هذه الآيات، ويرون علامات الصدق عليها، ومنهج النّبي و طريقته وحياته النقية، وأن أتباعه هم المخلصون، ويعدّون كل ذلك دليلا على أصالته، إلاّ أنّهم ينكرون ذلك عناداً وتعصباً، وتقليداً أعمى لأسلافهم ولآبائهم، ولحفظ منافعهم الشخصية.
وعلى هذا فإنّ القرآن يحدد مواقف الأُمم المختلفة إزاء هذا الكتاب ويصنفهم إلى قسمين:
فقسمٌ هم أهل الإيمان، سواءً من علماء اليهود والنصارى، أو المؤمنين بصدق، أو المشركين العطاشى إلى الحقّ الذين عرفوا الحق فتعلقت قلوبهم به.
وقسم آخر هم المنكرون المعاندون، الذين رأوا الحق إلاّ أنّهم أنكروه وأخفوا أنفسهم عنه كالخفاش، لأنّ ظلمة الكفر كانت جزءاً من نسيج وجودهم، فهم يستوحشون من نور الإيمان.
وممّا ينبغي الإلتفات إليه أنّ هذا القسم - أو هذا الطائفة - كانوا كفرةً من قبل، ولكن التأكيد على كفرهم ممكن أيضاً، وذلك لأنّهم لم تتمّ الحجّة عليهم من قبل، ولكنّهم بعد أن تمّت عليهم الحجّة، فقد أصبحوا كافرين كفراً حقيقتاً، وحادوا بعلمهم واطلاعهم عن الصراط المستقيم، وخطوا في دروب الضلال!.
ثمّ يضيف القرآن مشيراً إلى علامة أُخرى من علائم حقانية دعوة النّبي(ص)الجلية والواضحة، وهي تأكيدٌ على محتوى الآية السابقة، فيقول: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون) وقالوا إنّ ما جاءنا به هذا النّبي هو حصيلة مطالعاته لكتب الماضين.
ومعنى هذه الآية أنّك لم تذهب إلى مدرسة قط، ولم تكتب من قبل كتاباً قط، لكّنك باشارة من وحي السماء أصبحت تعرف المسائل أفضل من مئة مدرس!.
كيف يمكن أن يُصدق أن شخصاً لم يقرأ كتاباً ولم ير أستاذاً ولا مدرسةً، أن يأتي بكتاب يتحدى به جميع البشر أن يأتوا بمثله، فيعجز جميعهم عن الإتيان بما طلب.
أليس هذا دليلا على أن قوّتك تستمدّ من قوة الخالق غير المحدودة، وأن كتابك وحي السماء ألقاه الله إليك؟!
وينبغي الإشارة إلى أنّه لو سأل سائل: من أين نعرف أن النّبي(ص) لم يذهب إلى مدرسة قط؟!.
فنجيب أنّه(ص) قد عاش في بيئة المثقفون والمتعلمون فيها معدودون ومحدودون... حتى قيل أن ليس في مكّة أكثر من سبعة عشر رجلا يجيدون القراءة والكتابة، ففي مثل هذا المحيط وهذه البيئة، لو قدّر لأحد أن يمضي إلى المدرسة فيتعلم القراءة والكتابة، فمن المستحيل أن يكون مجهولا، بل يكون معروفاً في كل مكان.
كما يعرف الناس أستاذه ودرسه أيضاً.
فكيف يمكن لمثل هذا الشخص أن يدعي أنّه نبيّ صادق ومع ذلك يكذبهذه الكذبة المفضوحة والمكشوفة؟ خاصة أن هذه الآيات نزلت في مكّة، مهد نشأة النّبي(ص) وكذلك في قبال الأعداء الألدّاء الذين لا تخفى عليهم أقل نقطة ضعف!!.
وفي الآية التالية علامة أُخرى أيضاً على حقانية القرآن، إذ تقول: (بل هو آيات بيّنات في صدورالذين أوتوا العلم).
والتعبير بـ"الآيات البينات" كاشف عن هذه الحقيقة وهي أن دلائل حقانية القرآن تتجلى بنفسها عياناً، وتشرق في أرجائه، فدليلها معها.
وفي الحقيقة، إنّها مثل الآيات التكوينية التي تجعل الإنسان يذعن بحقيقتها عند مطالعتها دون حاجة إلى شيء آخر، هذه الآيات التشريعية - أيضاً - من حيث ظاهرها ومحتواها كذلك، إذ هي دليل على صدقها.
ثمّ بعد هذا كلّه، فإنّ أتباع هذه الآيات وطلابها المشدودة قلوبهم إليها هم أولوا العلم والإطلاع، بالرغم من أن أيديهم خالية وأرجلهم حافية!.
وبتعبير أوضح: إنّ واحداً من طرق معرفة أصالة مذهب ما دراسة حال المؤمنين به، فإذا كان الجهال المحتالون قد التفوا حول الشخص، فهو أيضاً من نسيجهم، ولكن إذا كان من التفّ حول الشخص هم الذين امتلأت صدورهم بأسرار العلوم وهم أوفياء له، فيكون هذا الأمر دليلا على حقانية ذلك الشخص، ونحن نرى أن جماعة من علماء أهل الكتاب، ورجالا متقين أمثال أبي ذر وسلمان والمقداد وعمار بن ياسر، وشخصية كبيرة كعلي بن أبي طالب(ع)، هم حماة هذا المبدأ.
وفي روايات كثيرة منقولة عن أهل البيت(ع)، إنّ المراد بالذين أوتوا العلم هم الأئمّة من أهل البيت(ع) وطبعاً... فليس هذا المعنى منحصراً فيهم، بل هم المصداق الجلي لهذه الآية(4).
وإذا ما لاحظنا أن بعض الرّوايات تصرّح أنّ المراد من هذه العبارة المتقدمة هم الأئمّة(ع)، فإنّ ذلك في الحقيقة إشارة إلى المرحلة الكاملة لعلم القرآن الذي عندهم، ولا يمنع أن يكون للعلماء... بل لعامّة الناس الذين لهم نصيب من الفهم، أن يحظوا بقسط من علوم القرآن أيضاً.
كما أنّ هذه الآية تدلّ ضمناً على أن العلم ليس منحصراً بالكتاب، أو بما يلقيه الأستاذ على تلاميذه... لأنّ النّبي(ص) - طبقاً لصريح الآيات المتقدمة - لم يدرس في مدرسة ولم يكتب من قبل كتاباً... إلاّ أنّه كان خير مصداق للذين "أوتوا العلم".
فإذاً فما وراء العلم "الرسمي" الذي نعهده، علم أوسع وأعظم، وهو علم يأتي من قبل الله تعالى على شكل نور يقذف في قلب الإنسان، كما ورد في الحديث "العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء".
وهذا هو جوهر العلم، أمّا ما سواه فهو الصدف والقشر!
وتُختتم الآية بقوله تعالى: (وما يجحد بآياتنا إلاّ الظالمون)... لأنّ دليلها واضح، فالنّبي الأميّ الذي لم يقرأ ولم يكتب، هو الذي جاء بها... والعلماء المطلعون هم المؤمنون بها.
ثمّ بعد هذا كلّه، فإنّ الآيات نفسها مجموعة من الآيات البينات "كلمات ذوات محتوى جلي مشرق".
وقد وردت علائمها في الكتب المتقدمة.
ومع كل هذا ترى هل ينكر هذه الآيات إلاّ الذين ظلموا أنفسهم وظلموا مجتمعهم "ونكرر أن التعبير بـ "بالجحد" يكون في مورد ما لو أن الإنسان يعتقد بالشيء وينكره على خلاف ما يعلمه"!.
بحوث
1 - الرّسول صل الله عليه وآله وسلمّ.. الأمي
صحيح أن القراءة والكتابة تعدّان - لكل إنسان - كمالا.. إلاّ أنّه يتفق أحياناً - وفي ظروف معينة - أن يكون من الكمال في عدم القراءة والكتابة... ويصدق هذا الموضوع في شأن الأنبياء، وخاصة في نبوّة خاتم الأنبياء "محمّد"(ص).
إذ يمكن أن يوجد عالم قدير وفيلسوف مطّلع، فيدّعي النبوّة ويظهر كتاباً عنده على أنّه من السماء، ففي مثل هذه الظروف قد تثار الشكوك والإحتمالات أو الوساوس في أنّ هذا الكتاب - أو هذا الدين - هو من عنده لا من السماء!.
إلاّ أنّنا إذا رأينا إنساناً ينهض من بين أُمّة متخلفة، ولم يتعلم على يد أي أستاذ، ولم يقرأ كتاباً ولم يكتب ورقةً - فيأتي بكتاب عظيم عظمة عالم الوجود، بمحتوى عال جداً... فهنا يمكن معرفة أن هذا الكتاب ليس من نسج فكره وعقله، بل هو وحي السماء وتعليم إلهي، ويدرك هذا بصورة جيدة!.
كما أنّ هناك تأكيداً على أُمية النّبي(ص) في آيات القرآن الأُخرى، وكما أشرنا آنفاً في الآية (157) من سورة الأعراف إلى أن هناك ثلاثة تفاسير لمعنى "الأميّ"، وأوضحها وأحسنها هو أنّه من لا يقرأ ولا يكتب.
ولم يكن في محيط الحجاز وبيئته - أساساً - درس ليقرأ النّبي(ص)، ولا معلم ليحضر عنده ويستفيد منه، وقلنا: إنّ عدد المثقفين الذين كانوا يقرأون ويكتبون في مكّة لم يتجاوز سبعة عشر نفراً فحسب، ويقال أن من النساء كانت امرأة واحدة تجيد القراءة والكتابة(5).
وطبيعي في مثل هذا المحيط الذي تندر فيه أدنى مرحلة للعلم وهي القراءة والكتابة، لا يوجد شخص يعرف القراءة والكتابة ولا يعرف عنه الناس شيئاً... وإذا ظهر مدع وقال - بضرس قاطع - إنّني لم أقرأ ولم أكتب، لم ينكر عليه أحد دعاءه، فيكون عدم الإنكار دليلا جليّاً على صدق مدّعاه، وعلى كل حال فإنّ هذه الكيفية الخاصة للنّبي(ص) التي نوهت عنها الآيات المتقدمة، إنّما هي لإكمال إعجاز القرآن، ولقطع السبيل أمام حجج المتذرعين بالأباطيل الواهية، وفيها تأثير بالغ ونافع جدّاً.
أجل، إنّه عالم منقطع النظير، لكنّه لم يدرس في مدرسة، بل تعلّم من وحي السماء!.
تبقى هناك ذريعة واحدة يحتج بها المتذرعون، وهي أنّ النّبي سافر إلى الشام مرّة أو مرتين "لفترة وجيزة ولغرض التجارة".. قبل نبوته، فيقولون: ربّما اتصل في بعض هاتين السفرتين بعلماء أهل الكتاب وتعلّم منهم هذه المسائل!.
والدليل على ضعف هذا الإدّعاء منطو في نفسه، فكيف يمكن أن يسمع إنسان جميع هذه الدروس وتواريخ الأنبياء والأحكام والمعارف الجليلة، وهو لم يمض إلى مدرسة ولم يقرأ شيئاً، فيحفظ كل ذلك بهذه السرعة، ويودعه في ذهنه، ثمّ يبيّنه ويفصله خلال مدّة ثلاث وعشرين سنة؟! وأن يبدي موقفاً مناسباً للحوادث غير المتوقعة والتي لم يسبق لها مثيل.
وهذا يشبه تماماً أن نقول مثلا: إنّ فلاناً تعلم قائمة العلوم والفنون الطبية كلّها في عدّة أيّام، وأنّه كان مشرفاً على معالجة المرضى في المستشفى الفلاني، ومستشاراً للأطباء، هذا كلام أقرب إلى المزاح والهزل منه إلى الجد.
وينبغي الإلتفات إلى هذه المسألة، هي أن النّبي(ص) بعد أن بلغ مرحلة النبوّة، يحتمل أن يكون قادراً على القراءة والكتابة، حينئذ وذلك بواسطة التعليم الالهي وإن لم يرد في التواريخ أنّه استفاد من هذه الطريقة! ولم يقرأ شيئاً بنفسه أو يكتب شيئاً بيده، ولعل النّبي(ص) تجنب كل ذلك في طول عمره لئلا يتذرع المتذرعون فيثيروا الشكوك بنبوّته! الشيء الوحيد الذي جاء في كتب التأريخ أن النّبي (ص)كتبه بنفسه، هو صلح الحديبية الذي جاء في مسند أحمد أن "النّبي أمسك القلمبيده وكتب معاهدة الصلح"(6).
إلاّ أنّ جماعة من علماء الإسلام أنكروا هذا الحديث، وقالوا: إنّ هذا مخالف لصريح الآيات، وإن اعتقد البعض بأنّه ليس في الآيات صراحة، لأنّ الآيات ناظرة لحال النّبي قبل بعثته، فما يمنع أن يكتب النّبي على وجه الإستثناء بعد أن نال مقام النبوّة.. في مورد واحد.. ويكون ذلك بنفسه معجزة أُخرى من معاجزه!.
إلاّ أن الإعتماد في مثل هذه المسألة على خبر الواحد مجانب للحزم والأحتياط، ومخالف لما ثبتت في علم الأصول حتى لو قلنا أنّ هذا الخبر لا اشكال فيه.(7)
2 - طريق النفوذ في الآخرين
لا يكفي الأستدلال القوي المتين للنفوذ إلى قلوب الآخرين واكتسابهم بالكلام الحق، فانّ أُسلوب التعامل مع الطرف الآخر وطريقة البحث والمناظرة تترك أعمق الأثر في هذه المرحلة.. فكثيراً ما يتفق أن يوجد أناس مطّلعون ولهم يد طولى في البحوث العلمية الدقيقة، إلاّ أنّهم قلّما يوفقون للنفوذ إلى قلوب الآخرين، بسبب عدم معرفتهم بكيفية المجادلة بالتي هي أحسن، وعدم معرفتهم بالبحوث البنّاءة!.
وبتعبير آخر فإنّ النفوذ إلى مرحلة الوعي - في المخاطب - غير كاف وحده، بل ينبغي الدخول إلى مرحلة عدم الوعي الذي يمثل القسم الأكبر لروح الإنسان أيضاً.
ويستفاد من مطالعة أحوال الأنبياء، ولا سيما حال النّبي محمّد(ص) وأئمّة الهدى(ع) - بصورة جيدة أن هؤلاء العظام سلكوا أحسن سبل الأخلاق الإجتماعية وأسس المعارف النفسية والإنسانية، لأجل تحقيق أهدافهم التبليغية والتربوية!.
وكانت طريقة تعاملهم مع الناس أن يكتسبوهم إليهم بشكل سريع فينجذبوا إليهم، وإن كان بعض الناس يميل إلى أن يضفي على مثل هذه الأُمور ثوب الإعجاز دائماً، إلاّ أنّه ليس كذلك، فلو اتبعنا سنتهم وطريقتهم لاستطعنا بسرعة أن نترك في الناس عظيم الأثر، وأن ننفذ إلى أعماق قلوبهم.
والقرآن يخاطب نبيّ الأسلام(ص) بصراحة فيقول: (ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك) (8) أو كثيراً ما يرى أنّ بعضهم بعد ساعات من الجدال والمناظرة، لا أنه لا يحصل على تقدم في مناقشاته فحسب، بل على العكس يجعل الطرف الآخر متعصباً ومتشدداً في عقيدته الباطلة بصورة أكثر... وذلك دليل على أنّه لم يتبع أُسلوب المجادلة بالتي هي أحسن.
فالخشونة في البحث، وطلب الإستعلاء، وتحقير الطرف المقابل، وإظهار التكبر والغرور، وعدم احترام أفكار الآخرين، وعدم الجدية في المناقشات والبحوث، كلها من الأُمور التي تبعث على انهزام الإنسان في بحثه، وعدم انتصاره على الطرف الآخر.
لذلك فإنّنا نرى في مباحث الأخلاق الإسلامية بحثاً تحت عنوان "تحريم الجدال والمراء" والمراد منه الأبحاث التي لا يطلب من ورائها الحق، بل المراد منها الإستعلاء وإبراز العضلات لا غير!.
وتحريم الجدال والمراء - بالإضافة إلى الجوانب المعنوية والإخلاقية - إنّما هو لأنّه لا يحصل من ورائهما على نتيجة فكرية ملحوظة.
والجدال والمراء في حرمتهما متقاربان، إلاّ أن العلماء من المسلمين جعلوا فرقاً بين كلّ منهما... "فالمراء" معناه إظهار الفضل والكمال، "والجدال" يراد منه تحقير الطرف المقابل!.
وقالوا: إنّ الجدال هي المراحل الهجومية الأُولى في البحث... وأمّا المراء فيراد منه الصدّ الدفاعي في الكلام.
كما أنّ هناك قولا بأن الجدال في المسائل العلمية، أمّا المراء فهو في الأعم منها "وبالطبع فإنه لا تضادّ بين هذه التفاسير جميعاً".
وعلى كل حال، فإنّ الجدال أو البحث مع الآخرين، تارة يقع بالتي هي أحسن، وذلك ما بيّناه بالشرائط المتقدمة آنفاً، وينبغي رعايتها بدقّة.
وتارة يكون بغير الأحسن، وذلك في ما لو أهملت الأُمور التي ذكرناها في مستهل كلامنا على الجدال، وجعلت في طيّ النسيان.
ونختتم هذا الكلام بعدة روايات بليغة ونافعة لنتعلم منها:
ففي حديث عن النّبي(ص) أنّه قال: "لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وإن كان محقاً" (9).
ونقرأ في حديث آخر أن سليمان النّبي(ع) قال لولده "يا بني إيّاك والمراء، فإنّه ليست فيه منفعة، وهو يهيج بين الأخوان العداوة" (10).
3 - الكافرون والظالمون
نواجه في الآيات المتقدمة آنفاً هذا التعبير (وما يجحد بآياتنا إلاّ الكافرون)ومرّة أُخرى نواجه المضمون ذاته مع شيء من التفاوت فبدلا من كلمة "الكافرون" جاءت كلمة "الظالمون" (وما يجحد بآياتنا إلاّ الظالمون).
والموازنة بين التعبيرين تدلّ على أن المسألة ليست من قبيل التكرار، بل هي لبيان موضوعين، أحدهما يشير إلى جانب عقائدي "الكافرون" والآخر يشير إلى جانب عملي "الظالمون".
فالآية الأُولى تقول: إنّ الذين اختاروا الشرك والكفر بأحكامهم المسبّقة الباطلة وتقليدهم الأعمى لأسلافهم، لا يرون آيةً من آيات الله إلاّ أنكروها وإن تقبلتها عقولهم"!
أمّا التعبير الثّاني فيقول: إنّ الذين اختاروا بظلمهم أنفسهم ومجتمعهم طريقاً يرون فيه منافعهم الشخصية، وعزموا على الإستمرار في هذه الطريق، لا يذعنون لآياتنا.
لأنّ آياتنا كما أنّها لا تنسجم مع خطهم الفكري، فهي لاتنسجم مع خطهم العملي أيضاً.
1- وسائل الشيعة، ج 3، ص 4.
2- "التي" هنا صفة لموصوف محذوف تقديره الطريقة أو ما شاكلها...
3- تفسير نورالثقلين، ج 4، ص 163.
4- قال بعض المفسّرين: إنّ جملة "الذين آتيناهم الكتاب" إشارة إلى المسلمين، وجملة "من هؤلاء من يؤمن به" إشارة إلى أهل الكتاب، إلاّ أنّ هذا التّفسير بعيد - كما يبدو - جدّاً لأنّ التعبير بـ (الذين آتيناهم الكتاب) وما شابهه لم يأت في القرآن - بحسب الظاهر - إلاّ في خصوص اليهود والنصارى.
5- هذه الرّوايات وردت في تفسير البرهان الجزء الثالث، ص 254 فما بعد بشكل مفصل.
6- فتوح البلدان للبلاذري طبع مصر، ص 459.
7- مسند أحمد، ج 4، ص 298.
8- ورد في صدد "النّبي الأُمي" شرح مفصل آخر ذيل الآية (157) من سورة الأعراف.
9- آل عمران - الآية 159.
10- سفينة البحار مادة مرأ.