الآيات 41 - 44
﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَآنُواْ يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَىْء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الاَْمْثَـلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا اِلاَّ الْعَـلِمُونَ (43) خَلَقَ اللهُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِى ذلِكَ لاَيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ (44) ﴾
التفسير
دعامة واهية كبيت العنكبوت:
بيّنت الآيات السابقة ما آل إليه المشركون والمفسدون الظلمة والأنانيون من مصير وخيم وعاقبة سوداء وعذاب أليم... وبهذه المناسبة، ففي الآيات التي بين أيدينا، يبيّن القرآن الكريم مثالا بليغاً ومؤثراً يعبدون غير الله ويتخذون من دونه أولياء! وكلما أمعنا النظر في هذا المثال وفكرنا فيه مليّاً انقدحت في أذهاننا منه لطائف دقيقة، يقول تعالى: (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتّخذت بيتاً وإنّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون).
كم هو بديع هذا المثال وطريف، وكم هو بليغ ودقيق هذا التشبيه!.
تأمّلوا بدقّة... إنّ كل حيوان - وكل حشرة - له بيت أو وكر وما أشبه ذلك، لكن ليس في هذه البيوت بيت أوهن من بيت العنكبوت! فكل بيت - عادةً - يحتوي على سقف وباب وجدار، وهو يحفظ صاحبه من الحوادث، ويكون مكاناً أميناً لإيداع الأطعمة والأشياء الأُخرى وحفظها... فبعض البيوت لا سقف لها إلاّ أنّها على الأقل لها جدار، كما أنّ هناك بيوتاً لا جدار لها إلاّ أن لها سقفاً.
لكن بيت العنكبوت المنسوج من خيوط دقيقة واهية، ليس له سقف ولا جدار ولا ساحة ولا باحة ولا باب، هذا من جانب... ومن جانب آخر فإنّ مواد بنائه واهية جدّاً وسرعان ما تتلاشى إزاء أية حادثة بسيطة، فهي لا تقدر على المقاومة.
فلو هبّ نسيم عليل لتمزق هذا النسيج.
ولو سقطت عليه قطرات المطر لتلاشى وتلف.
ولو لامسته شعلة خفيفة لاحرقته.
وحتى لو تراكم عليه الغبار لتركه اشلاء ممزقة معلقة.
فآلهة هؤلاء الجماعة ومعبوداتهم "الكاذبة" كمثل هذا البيت لا تنفع ولا تضر ولا تحلّ مشكلة، ولا تكون ملجأ لأحد في المحنة والشدّة!.
صحيح.. إن هذا البيت للعنكبوت - مع ما لها من أرجل طويلة - هو محل استراحتها، وشركٌ لاصطياد الحشرات والحصول على الغذاء إلاّ أن هذا البيت - بالقياس إلى البيوت الأُخرى للحيوانات والحشرات - في منتهى الوهن والإنهيار!.
فمن يعتمد على غير الله ويتخذ من دونه ولياً، فقد اعتمد على بيت العنكبوت!!.
والذين اختاروا سوى الله، اعتمدوا على بيوت العناكب، كعرش فرعون وتاجه، والأموال المتراكمة عند قارون، وقصور الملوك وخزائنهم، جميع هذهالأمورالمذكورة كمثل بيت العنكبوت!.
فهي لا تدوم، ولا يمكن الإعتماد عليها، ولا أساس لها حتى تكون راسخة أمام طوفان الحوادث.
والتاريخ يدل على أنّه لا يمكن الإعتماد على أيّ من هذه الأُمور حقّاً.
أمّا الذين اعتمدوا على الله وتوكلوا عليه، فقد اعتمدوا على سدّ حصين منيع.
والجدير بالذكر، أنّ بيت العنكبوت ونسيج خيوطه المضروب به المثل، هو نفسه من عجائب الخلق، والتدقيق فيه يعرف الإنسان على عظمة الخالق أكثر.
فخيوط العنكبوت "مصنوعة" ومنسوجة من مائع لزج، هذا المائع مستقر في حفر دقيقة وصغيرة كرأس الإبرة تحت بطن العنكبوت، ولهذا المائع خصوصية أو تركيب خاص هو أنّه متى ما لامس الهواء جهد وتصلّب.
والعنكبوت تخرج هذا المائع بواسطة آليات خاصة وتصنع خيوطها منه.
يقال: إن كلّ عنكبوت يمكن لها أن تصنع من هذا المائع القليل جدّاً ما مقداره خمسمائة متر من خيطها المفتول!
وقال بعضهم: إنّ الوهن في هذه الخيوط منشؤه دقتها القصوى، ولولا هذه الدقة فإنها أقوى من الفولاذ "لو قدر أن تفتل بحجم الخيط الفولاذي".
العجيب أنّ هذه الخيط تنسج أحياناً من أربع جدائل كل جديلة هي أيضاً منسوجة أو مصنوعة من ألف جديلة! وكل جديلة تخرج من ثقب صغير جدّاً في بدن العنكبوت، ففكروا الآن في هذه الخيوط التي تتكون منها هذه الجديلة كم هي ناعمة ودقيقة وظريفة؟!
وإضافةً إلى العجائب الكامنة في بناء بيت العنكبوت ونسجه، فإنّ شكل بنائه وهندسته طريف أيضاً، فلو دققنا النظر في بيوت العنكبوت لرأينا منظراً طريفاً مثل الشمس وأشعتها مستقرةً على قواعد هذا "البناء النسيجي"، وبالطبع فإن هذا البيت مناسب للعنكبوت وكاف، ولكنّه في المجموع لا يمكن تصور بيتأوهن منه، وهكذا بالنسبة إلى آلهة الضالين ومعبوديهم، إذ تركوا عبادة الله والتجأوا إلى الأصنام والأحجار والأوثان!!.
ومع الإلتفات إلى أن العناكب ليست نوعاً واحداً، بل - كما يدعي بعض العلماء - عرف منها حتى الآن عشرون ألف نوع، وكل نوع له خصوصياته التي تبين عظمة الخالق وقدرته في خلق هذا الموجود الصغير بوضوح وجلاء.
التعبير بـ"الاولياء" جمع ولي مكان التعبير بالأصنام، ربّما كان إشارة ضمنية إلى هذه اللطيفة، وهي أنّه ليس الحكم مختصاً بالأصنام والآلهة المزعومة، بل حتى الأئمة والقادة الارضيين مشمولون بهذا الحكم أيضاً.
وجملة (لو كانوا يعلمون) تتعلق بالأصنام والمعبودين من دون الله ولا ترتبط بوهن بيت العنكبوت... لأنّ وهن بيت العنكبوت معلوم عند الجميع، فعلى هذا يكون مفهوم الجملة كالتالي: لو كانوا يعلمون وهن المعبودين من دون الله وما ركنوا إليه من دونه واختاروه، لعلموا أنّهم في الوهن والضعف كما هي الحال في بيت العنكبوت من الوهن!.
أمّا الآية التالية ففيها تهديد لهؤلاء المشركين الغفلة الجهلة.. إذ تقول: (إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء!) ولا يخفى على الله شركهم الظاهر ولا شركهم الخفي (وهو العزيز الحكيم) على الإطلاق!
وإذا أمهلهم، فليس بسبب العجز والضعف، أو عدم العلم، أو أن قدرته محدودة، بل كل ذلك من حكمته التي توجب أن يمنحوا الفرصة الكافية لتتم الحجة البالغة لله عليهم، فيهتدي من هو جدير بالهدى!.
قال بعض المفسّرين: إن هذه الجملة إشارة إلى حجج المشركين وإلى ادّعائهم أنّهم في عبادتهم للأصنام لا يريدون بها الأصنام ذاتها، بل إنّ الأصنام عندهم مظهر ورمز للنجوم السماوية والأنبياء والملائكة، فهم - كما يزعمون - يسجدون لأُولئك لا للأصنام وخيرهم وشرهم ونفعهم وضررهم بيدها أيضاً.
فالقرآن يبيّن أن الله يعلم الأشياء التي تدعونها - كائناً من كان، وأي شيء كان - فكل أُولئك المعبودين إزاء قدرته كمثل بيت العنكبوت، ولا يملكون لأنفسهم شيئاً كي يعطوه لكم.
، والآية الثّالثة - من الآيات محل البحث - لعلها تشير إلى ما استشكله أعداء الإسلام على النّبي(ص) في هذه الأمثلة التي ضربها الله، وكانوا يقولون: الله الذي خلق السماوات والأرض كيف يضرب الأمثال بالعنكبوت والذباب والحشرات وما شاكلها؟
فيردّ القرآن بقوله: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلاّ العالمون).
إنّ أهميّة المثال وظرافته لا تكمن في كبره وصغره، بل تظهر أهميته في انطباق المثال على المقصود، فقد يكون صغر الشيء الممثل به أكبر نقطة في قوته.
قالوا في ضرب الأمثال: ينبغي عند الكلام عن الأشياء الضعيفة والتي فيها وهن أن يمثل لها في ما لو اعتمد عليها ببيت العنكبوت، فهو أحسن شيء ينتخب لهذا الوهن وعدم الثبات، فهذا المثال هو الفصاحة بعينها والبلاغة ذاتها، ولذا قيل: إنّه لايعلم دقائق أمثلة القرآن ولا يدركها إلاّ العلماء!.
وفي آخر آية - من الآيات محل البحث - يضيف القرآن الكريم: (خلق الله السماوات والأرض بالحقّ إن في ذلك لآية للمؤمنين).
ليس في عمل الله باطل أو عبث... فإذا التشبيه بالعنكبوت وبيته الخاوي هو أمر محسوب بدقّة.
وإذا ما اختار موجوداً صغيراً للتمثيل به فهو لبيان الحقّ، وإلاّ فهو خالق أعظم المجرّات والمنظومات الشمسيّة وغيرها.
ومن الطريف - هنا - أن نهاية هذه الآيات تنتهي بالعلم والإيمان، ففي مكان يقول القرآن: (لو كانوا يعلمون) وفي مكان آخر يقول: (وما يعقلها إلاّ العالمون)وفي الآية التي نحن في صددها يقول: (إن في ذلك لآية للمؤمنين).
وهي إشارة إلى أن وجه الحق مشرق جلي دائماً ولكنّه يثمر في الموارد المستعدة... في قلب مطّلع باحث، وعقل يقظ مذعن للحق... وإذا كان هؤلاء الذين عميت قلوبهم لا يرون جمال الحق، فليس ذلك لخفائه، بل لعماهم! وضلالهم!.