الآيات 36 - 40

﴿وِاِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيباً فَقَالَ يَـقَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ وَارْجُواْ الْيَوْمَ الاَْخِرَ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاَْرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأصْبَحُواْ فِى دَارِهِمْ جَـثِمِينَ (37) وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِّنْ مَّسَـكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـنُ أَعْمَـلَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ (38)وَقَـرُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَـمَـنَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُّوسَى بِالْبَيِّنـتِ فَاسْتَكْبَرُواْ فِى الاَْرْضِ وَمَا كَانُواْ سَـبِقِينَ (39) فَكُلاَّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الاَْرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِنْ كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) ﴾

التفسير

تنوع العذاب للظالمين:

بعد بيان قصّة لوط وقومه يقع الكلام عن أقوام آخرين أمثال قوم شعيب وعاد وثمود، وقارون وفرعون، وقد أشير في هذه الآيات - محل البحث - إلى كلٍّمنهم إشارة موجزة "مكثفة" للإستنتاج والعبرة!

في البداية تقول الآية: (وإلى مدين أخاهم شعيباً)(1).

والتعبير بكلمة "أخاهم" كما قلنا مراراً، هو إشارة إلى منتهى محبّة هؤلاء الانبياء إلى أُممهم، وإلى عدم طلبهم السلطة، وبالطبع فإنّ هؤلاء الأنبياء كانت لهم علاقة قرابة بقومهم أيضاً.

و"مدين" مدينة واقعة جنوب غربي الأردن، وتدعى اليوم بـ "معان" وهي في شرق خليج العقبة، وكان شعيب(ع) وقومه يقطنون فيها(2).

وشعيب كسائر أنبياء الله العظام، بدأ بالدعوة إلى الاعتقاد بالمبدأ والمعاد، وهما أساس كل دين وطريقة (فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر).

فالإيمان بالمبدأ يكون سبباً لإحساس الإنسان بأن الله يراقبه مراقبةً دقيقةً بشكل دائم ويسجّل أعماله; والإيمان بالمعاد يذكر الإنسان بمحكمة عظيمة يحاسب فيها عن كل شيء وكل عمل مهما كان تافهاً... ومن المسلم أنّ الإعتقاد بهذين الأصلين له أثره البالغ على تربية الإنسان وإصلاحه!.

والمبدأ الثّالث هو بمثابة خطّة عمل جامعة، تحمل بين طياتها جميع الخطط الإجتماعية، إذ قال: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين).

وللفساد مفهوم واسع يشمل كل نقص انحراف، وتدمير، وظلم.. الخ.. ويقابله الصلاح والإصلاح، ومفهومهما يشمل جميع الخطط البنّاءة!.

أمّا كلمة "تعثوا" فهي من مادة "عثى" ومعناه إحداث الفساد أو الإفساد، غاية ما في الأمر أن هذا التعبير كثيراً ما يستعمل في الموارد التي تكون فيها "مفاسدأخلاقية"، فعلى هذا يكون ذكر كلمة "مفسدين" بعدها تأكيداً على هذا المفهوم.

إلاّ أنّ تلك الجماعة بدلا من أن تصغي لمواعظه ونصائحه بآذان القلوب، خالفته ولم تصغ إليه "فكذبوه".

وكان هذا التكذيب سبباً في أن تصيبهم زلزلة شديدة (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين) أي مكبوبين على وجوههم ميتين.

و"الجاثم" مشتق من "جثم" على زنة "سهم" ومعناه الجلوس على الركبة والتوقف في مكان ما.. ولا يبعد أن يكونوا نائمين عند وقوع هذه الزلزلة الشديدة.. فهذا التعبير إشارة إلى أنّهم عند وقوع هذه الحادثة نهضوا وجثوا على الركب، إلاّ أنّ الحادثة لم تمهلهم حيث انهارت الجدران عليهم ونزلت عليهم الصاعقة التي تزامنت معها فماتوا(3).

أمّا الآية التي بعده فتتحدث عن "عاد" و"ثمود" قومي (هود وصالح)، دون أن تذكر ما قاله نبيّاهما لهما، وما ردّ عليهما قومهما المعاندون، لأنّهما مذكوران في آيات عديدة من القرآن، وهما أي قوم هود وقوم صالح معروفان، فلذلك، تقول الآية: (وعاداً وثمودَ)(4).

ثمّ تضيف الآية (وقد تبيّن لكم من مساكنهم) المتهدمة والتي هي على طريقكم في منطقة الحجر واليمن.

فأنتم في كل سنة تمرون في أسفاركم للتجارة بأرض "الحجر" التي تقع شمال جزيرة العرب، وبالأحقاف التي تقع قريباً من اليمن وجنوبها، وترون آثار المساكن المتهدمة وبقاياها من عاد وثمود، فعلام لا تعتبرون؟!

ثمّ تشير الآية إلى السبب الأصلي لشقائهم وسوء حظّهم، إذ تقول: (وزيّن لهم الشيطان أعمالهم فصدّهم عن السبيل).

وكانت فطرتهم على فطرة الله وتقواه، ولم يأل الأنبياء جهداً في هدايتهم، وبذلوا قدراً كافياً من النصح والإرشاد لهم، لكنّهم حادوا (وكانوا مستبصرين).

قال بعض المفسّرين: إنّ جملة (وكانوا مستبصرين) تعني أنّهم كانوا ذوي أعين بصيرة، وعقل كاف.

وقال بعضهم: إنها تعني أنّهم كانوا على الفطرة السليمة.

كما قال آخرون: إنّها تعني هداية الأنبياء لهم.

ولا يمنع اجتماع جميع هذه المعاني في الآية الكريمة، فهي إشارة إلى أنّهم لم يكونوا جاهلين قاصرين، بل كانوا يعرفون الحق جيداً من قبل، وكانت ضمائرهم حية ولديهم العقل الكافي، وأتمّ الأنبياء عليهم الحجّة البالغة، ولكن... مع كل ما تقدم... من نداء العقل والضمير، ودعوة الأنبياء، فقد انحرفوا عن السبيل ووسوس لهم الشيطان، ويوماً بعد يوم يرون أعمالهم القبيحة حسنةً، وبلغوا مرحلة لا سبيل لهم إلى الرجوع منها، فأحرق قانون الخلق والإيجاد هذه العيدان اليابسة.. وهي جديرة بذلك!

والآية الأُخرى تذكر أسماء ثلاثة من الجبابرة الذين كان كل واحد منهم بارزاً للقدرة الشيطانية، فتقول: (وقارون وفرعون وهامان)(5).

فقارون كان مظهر الثروة المقرونة بالغرور وعبادة"الذات" والأنانية والغفلة.

وفرعون كان مظهر القدرة الإستكبارية المقرونة بالشيطنة.

وأمّا هامان، فهو مثل لمن يعين الظالمين المستكبرين!.

ثمّ يضيف القرآن (ولقد جاءهم موسى بالبينات) والدلائل (فاستكبرا في الأرض) فاعتمد قارون على ثروته وخزائنه وعلمه، واعتمد فرعون وهامان على جيشهما وعلى القدرة العسكرية، وعلى قوة إعلامهم وتضليلهم لطبقات الناس المغفّلين الجهلة.

لكن.. برغم كل ذلك لم يفلحوا (وما كانوا سابقين).

فأمر الله الأرض التي هي مهد الإطمئنان والدعة بابتلاع قارون.

وأمر الماء الذي هو مصدر الحياة بابتلاع فرعون وهامان.

وعبأ جنود السماوات والأرض لإهلاكهم جميعاً، بل ما كان مصدر حياتهم أمر الله أن يكون هو نفسه سبباً لفنائهم(6).

كلمة "سابقين" تعني من يتقدم ويكون أمام الآخرين، فمفهوم قوله تعالى: (وما كانوا سابقين) أي إنّهم لم يستطيعوا أن يهربوا من سلطان الله برغم ما كان عندهم من إمكانات، بل أهلكهم الله في اللحظة التي أراد، وأرسلهم إلى ديار الفناء والذلة والخزي.

كما يذكر في الآية التي بعدها (فكلاّ أخذنا بذنبه).

وحيث أنّ القرآن ذكر "الطوائف الأربع" في الآيتين المتقدمتين، ولم يبيّن عذابهم، وهم:

1- قوم هود "عاد".

2- وثمود "قوم صالح".

3- قارون.

4- فرعون وهامان.

فإنه يذكر في هذه الآية بحسب الترتيب أنواع عذابهم.

فيقول: (فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً).

و"الحاصب" معناه الاعصار الذي يحمل حصى كثيرة معه، و"الحصباء" "الحصى الصغيرة".

والمقصود بـ "منهم" هنا هم "عاد" قوم هود، وحسب ما جاء في بعض السور كالذاريات والحاقة والقمر، أصابهم اعصار شديد مهلك خلال ثمانية أيّام وسبع ليال فدمرهم تدميراً.

يقول القرآن: (سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيّام حسوماً فترى القوم صرعى كأنّهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية) "الحاقة".

(ومنهم من أخدته الصيحة) وقلنا: إن الصيحة السماوية التي هي نتيجة الصاعقة التي تقترن مع الزلزلة في زمان الوقوع، وهذا هو العذاب الذي عذب الله به ثمود "قوم هود" كما عذب آخرين... ويقول القرآن في الآية (67) من سورة هود في شأن ثمود (وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين).

(ومنهم من خسفنا به الأرض).

وهذا هو عقاب قارون الثري المغرور المستكبر من بني إسرائيل، وقد أشير إليه في الآية (81) من سورة القصص.

(ومنهم من أغرقنا) ونعرف أنّ هذا الكلام إشارة إلى عقاب فرعون وهامان وجنودهما، وقد ذكرت هذه القصّة في سور متعددة من القرآن الكريم.

وعلى كل حال، فمع الإلتفات لهذا البيان فإن أنواع العذاب الأربعة ذكرت هنا للطوائف الأربع المذكورين في الآيتين المتقدمتين.

حيث اشارتا إلى ضلالهم وانحرافهم وذنوبهم دون أن تذكرا عقابهم.

ولكن من البعيد أن تشمل هذه الأنواع الأربعة من العذاب الواردة في هذه الآية أقواماً آخرين، كما يقول بعض المفسّرين.

"كالغرق لقوم نوح، وإمطار الحجارة والحصباء على قوم لوط" لأنّ عقابهم مذكور هناك وفي موارد ذكرهم ولا حاجة للتكرار هنا، وأمّا عقاب الفئات الاربع فلم يذكر في هذه السلسلة من الآيات، ولذا بينه الله سبحانه في الآيتين الأخيرتين.

ويبيّن في ختام الآية التأكيد على هذه الحقيقة، وهي أنّ ما أصابهم هو بسبب أعمالهم، وهم زرعوا فحصدوا (وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهميظلمون).

أجل، إنّ عقاب هذه الدنيا والآخرة هو تجسيد أعمالهم، حيث يغلقون جميع طرق الإصلاح في وجوههم.

فالله أكثر عدلا وأسمى من أن يظلم الإنسان أدنى ظلم!.

وهذه الآية - كسائر كثير من آيات القرآن - تثبت أصل الحرية في الإرادة والإختيار عند الإنسان، وتقرر أن التصميم في كل مكان يصدر من الإنسان نفسه.

وقد خلقه الله حرّاًويريده حرّاً.. فعلى هذا يبطل اعتقاد أتباع مذهب "الجبر" الذين لهم وجود بين المسلمين - مع الأسف - بهذا المنطق القوي للقرآن الكريم.


1- روح البيان، ج 6، ص 467.

2- هذه الجملة معطوفة على جملة "ولقد أرسلنا نوحاً".

3- ورد الكلام على مدين في ذيل الآية (23) من سورة القصص في هذا الجزء بإسهاب.

4- بيان هذه الحادثة المؤلمة فصلناه في تفسير "سورة هود" ذيل الآيات في شرح قصة "شعيب وقومه".

5- "وعاداً وثموداً" مفعولان لفعل مقدر وهو "أهلكنا" وهو يستفاد من الآية السابقة. وقال بعضهم: فعلهما المحذوف تقديره "اذكر".

6- هذه الكلمات الثلاث مفاعيل للفعل المقدر "أهلكنا" أو كما قال البعض: هي مفاعيل لفعل تقديره "اذكر"!.