الآيات 28 - 30

﴿وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأتُونَ الْفَـحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَد مِّنَ الْعَـلَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتأتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلاَّ أَنْ قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللهِ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّـدِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِى عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)﴾

التّفسير

المنحرفون جنسياً:

بعد بيان جانب ممّا جرى لإبراهيم(ع) يتحدث القرآن عن قسم من قصّة حياة النّبي المعاصر لإبراهيم "لوط"(ع) فيقول: (ولوطاً إذْ قال لقومه إنّكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين)(1).

"الفاحشة" كما بيناها من قبل، مشتقّة من مادة "فَحَشَ" وهي في الأصل تعني كل فعل أو كلام سيء للغاية، والمراد بها هنا الإنحراف الجنسي.

(اللواط).

ويستفاد من جملة (ما سبقكم بها من أحد من العالمين) بصورة جليّة أن هذا العمل السيء والمخزي لم يسبق له - على الأقل بشكل عام وجماعي - أن يقع في أية أُمة أو قوم كما وقع في قوم لوط.

ذكروا في أحوال قوم لوط أن واحداً من عوامل تلوثهم بهذا الذنب هو أنّهم كانوا قوماً بخلاء جداً، ولمّا كانت مدنهم على قارعة الطريق التي تمرّ بها قوافل الشام، فقد كانوا يظهرون هذا العمل "الإنحراف" لبعض ضيوفهم أو العابرين لينفروهم وكي لا يضيفوهم، إلاّ أنّهم تعودوا على هذا العمل القبيح، وقويت فيهم رغبة اللواط، فسقطوا في الوحل المخزي شيئاً فشيئاً.

على كل حال، سينؤون بحمل ذنوبهم وذنوب من يعمل عملهم، دون أن ينقص من ذنوب الآخرين شيء أبداً (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثالهم!).

لأنّهم كانوا مؤسسي هذه السنة المشؤومة، ونحن نعرف أن من سنّ سنة ما فهو شريك في عمل من يعمل بها أيضاً.

لوط(ع) هذا النّبي العظيم، كشف أخيراً ما في نفسه وقال لقومه (أإنّكم لتأتون الرجال) أفتريدون أن تقطعوا النسل (وتقطعون السبيل)(2).

ولا ترعوون عن الأعمال المخزية في مجالسكم العامة (وتأتون في ناديكم المنكر).

"النادي" مشتق من "النداء" وهو يعني المجلس العام، كما يأتي أحياناً بمعنى مكان التنزّه، لأنّ الأفراد هناك ينادي بعضهم بعضاً وترتفع أصواتهم.

والقرآن لم يبيّن هنا بتفصيل أية منكرات كانوا يأتونها في مجالسهم ونواديهم.. لكنّها قطعاً كانت متناسبة مع عملهم السيء المخزي.. وكما ورد في بعض التواريخ، فإنّهم كانوا يتسابون بكلمات الفحش والإبتذال، أو يضرب أحدهم الأخر على ظهره.

أو يلعبون القمار، وأو يعبثون كاالاطفال وخاصة الترامي بالحجارة الصغيرة فيما بينهم أو على العابرين، ويستعملون أنواع الآلات الموسيقية، ويكشفون عوراتهم في مجتمعهم ويغدون عراة... الخ(3).

في حديث عن النّبي(ص) كما تنقله "أم هاني" أنّه قال مفسراً لمعنى: (وتأتون في ناديكم المنكر) أنّهم "كانوا يخذفون من يمرّ بهم ويسخرون منه" (4)أي يرمون من يمرّ بهم بالحجارة ويسخرون منه.

والآن فلنلاحظ ماذا كان جواب هؤلاء القوم الضالين المنحرفين، على كلمات النّبي لوط(ع) المنطقية.

يقول القرآن: (فما كان جواب قومه إلاّ أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين).

أجل هكذا، كان جواب هؤلاء المفتونين فاقدي العقل والدراية إذ أجابوا به من منطلق السخرية والإستهزاء إزاء دعوة لوط(ع) المنطقية والمعقولة.

كما يستفاد جيداً من هذا الجواب أنّ لوطاً(ع) كان قد هدّدهم بعذاب الله، بالإضافة إلى كلامه البيّن ذي الدليل الواضح في ما لو استمروا بهذا العمل القبيح، إلاّ أنّهم تركوا جميع مواعظه وتمسكوا بتهديده بالعذاب، فقالوا: (ائتنا بعذاب الله) على سبيل الإستهزاء والسخرية!!... كما أشير إلى هذا الموضوع في سورة القمر الآية (36) بقوله تعالى: (ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر).

ويستشف - ضمناً - من تعبير هؤلاء القوم أنّهم كانوا يريدن أن يستنتجوا من عدم نزول العذاب على كذب لوط(ع)، في حين أن رحمة الله هي التي تمهلهم وتعطيهم الفرصة لمراجعة أنفسهم وإعادة النظر!

وهنا لم يكن للوط(ع) بدّ إلاّ أن يلتفت إلى الله بقلب حزين مهموم... و(قال ربّ انصرني على القوم المفسدين).

القوم المنحرفين، المتمادين في الأرض فساداً، والذين تركوا تقواهم وأخلاقهم الإنسانية وألقوا العفة والطهارة خلف ظهورهم، وسحقوا العدل الإجتماعي تحت أقدامهم، ومزجوا عبادة الأوثان بفسد الأخلاق والظلم، وهددوا نسل الإنسان بالفناء والزوال، فيا ربّ انصرني على هؤلاء القوم المفسدين.

ملاحظة

بلاء الإنحراف الجنسي:

الإنحراف الجنسي - سواءً كان في أوساط الرجال "اللواط" أم في أوساط النساء "المساحقة" - لهو من أسوأ الإنحرافات الأخلاقية، ومصدر المفاسد الكثيرة في المجتمع.

وأساساً فإنّ طبيعة "كلّ من الرجل والمرأة" مخلوقة بشكل يمنح الهدوء والإشباع الصحيح السالم في العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة "عن طريق الزواج المشروع" وأي نوع من الميول الجنسية في غير هذه الصورة هو انحراف عن طبع الإنسان الصحيح، وهو نوع من الأمراض النفسيّة الذي لو قُدّر له أن يستمرّ لاشتد خطره يوماً بعد يوم، وتكون نتيجته البرود الجنسي بالنسبة ما بين الرجل والمرأة، والإشباع غير الصحيح من "الجنس المماثل" أي "اللواط" أو"السحاق".

ولهذا النوع من العلائق غير المشروعة أثر مدمّر في جهاز البدن، بل حتى في سلسلة الأعصاب والروح.

إذ يسقط الرجل من رجولته والمرأة من أنوثتها!

بحيث أن أمثال هؤلاء الرجال والنساء المنحرفين جنسياً يبتلون بضعف جنسي شديد، ولا يستطيعون أن يكونوا آباءً وأمهات صالحين لأبنائهم في المستقبل، وربّما كانوا غير قادرين حتى على الإنجاب بصورة كلية "بسبب هذا الإنحراف".

إن المنحرفين جنسياً يغدون بالتدريج منزوين منعزلين عن المجتمع، ويحسون بالغربة في مجتمعهم وفي أنفسهم أيضاً، كما يبتلون بنفصام الشخصية، وإذا لم يهتموا بإصلاح أنفسهم، فمن الممكن أن يبتلوا بأمراض جسمية ونفسية مختلفة.

ولهذا السبب - ولأسباب أخلاقية واجتماعية أُخرى - حرّم الإسلام الإنحراف الجنسي تحريماً شديداً بأي شكل كان وفي أية صورة، كما قرر للذي يقوم بهذا العمل عقاباً صارماً يبلغ أحياناً إلى درجة الإعدام والقتل!.

والموضوع المهم هو أن الانفلات الاخلاقي والتميّع الجنسي والابتذال للعالم المتمدن والحضارة المادية قد جرّت كثيراً من الفتيان والفتيات إلى الإنحراف الكبير.

في البداية يرغّبون الفتيان في أن يلبسوا ثياب النساء وأن يظهروا بمظهر خاص، ويدعون النساء أن يلبسن ثياب الرجال، وتبدأ من هنا قضية الإنحراف الجنسي حتى تصل إلى أقبح الأعمال الوقحة في هذا المجال، وتأخذ شكلاً قانونياً بحيث يعدون هذا الأمر عادياً لا يستحق أي نوع من العقاب أو التبعة، ولا يسع القلم إلاّ أن يستحي ويخجل من وصف ذلك(5).


1- تفسير الرازي، بشيء من التصرف.

2- يمكن أن تكون كلمة "لوطاً" عطفاً على كلمة (نوحاً) فتكون بمنزلة المفعول "لأرسلنا" ويمكن أن يكون مفعولا لفعل محذوف تقديره "واذكر لوطاً".

3- يرى جماعة من المفسّرين وجوهاً واحتمالات أُخرى لجملة "وتقطعون السبيل" منها ما فسّروه بقطع الطريق على الناس في سفرهم مع الإلتفات إلى ماضيهم وتأريخهم المعروف، لأنّ القوافل تضطر أن تأخذ طريقاً غير مطروق من أجل أن تسلم من شرّ هؤلاء ولئلا تبتلي بهم، كما فسّره بعضهم بسرقة أموال المسافرين في القافلة ولكن التّفسير الأوّل المشار إليه في المتن أنسب للآية كما يبدوا للنظر، لأنّ واحداً من أسرار تحريم اللواط وفلسفته هو خطر قطع النسل كما صرحت به الرّوايات.

4- سفينة البحار، ج 2، ص 517.

5- تفسير القرطبي ذيل الآيات محل البحث.