الآيات 20 - 23

﴿قُلْ سِيِرُوا فِى الاَْرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنشِىءُ النَّشْأةَ الاَْخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَآ أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الاَْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَآءِ وَمَا لَكُمْ مِّنْ دُونِ اللهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ نَصِير (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَاَيَـتِ اللهِ وَلِقآئِهِ أُولَـئِك يئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى وَأُولَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) ﴾

التفسير

الآيسون من رحمة الله:

هذه الآيات تواصل البحث في المعاد أيضاً، على صُورة جُمَل معترضة في قصّة إبراهيم(ع).

وليست هذه أوّل مرّة نواجه فيها مثل هذا الأسلوب... فهذه هي طريقة القرآن دائماً، فعندما يبلغ مرحلة حساسة من ذكر قصّة ما، يترك بقيّة القصّة مؤقتاً للإستنتاج أكثر، ثمّ يعطي النتائج اللازمة.

وعلى كل حال، فإنّ القرآن يدعو في الآية الأُولى من هذا المقطع الناس إلى"السير في الآفاق" في مسألة المعاد... في حين أن الآية السابقة كانت السمة فيها "السير في الأنفس" أكثر! يقول القرآن: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) انظروا إلى أنواع الموجودات الحية، والاقوام والاُمم المتنوعة والمختلفة، وكيف أنّ الله تعالى خلقها أولا، ثمّ أن الله نفسه الذي أوجدها في البداية من العدم قادر ايضاً على ايجادها في الآخرة (ثمّ الله ينشىءُ النشأة الآخرة)

ولأنّه أثبت قدرته على كل شيء حين خلق الخلق أولا، إذن فـ ـ(إنَّ الله على كل شيء قدير).

فهذه الآية والآية التي قبلها - أيضاً - أثبتتا بواسطة قدرته الواسعة إمكان المعاد.. مع فرق أن الآية الأُولى تتحدث عن الإنسان نفسه وخلقه وما حوله! والآية الثّانية تأمر بمطالعة حالات الأُمم والموجودات الأخرى، ليروا الحياة الأُولى في صور مختلفة وظروف متفاوتة تماماً، وليطّلعوا على عموميّة قدرة الله، وليستيقنوا قدرته على إعادة هذه الحياة!.

كما أن إثبات التوحيد يتمُّ - أحياناً - عن طريق مشاهدة "الآيات في الأنفس" وأحياناً عن طريق "الآيات في الآفاق" فكذلك يتمّ إثبات المعاد عن هذين الطريقين أيضاً.

وفي عصرنا هذا يمكن أن تبيّن هذه الآيات للعلماء معنىً أعمق وأدق، وهو أن يمضوا ويلاحظوا الموجودات الحيّة الأُولى التي هي في أعماق البحار على شكل فسائل ونباتات وغيرها، وفي قلب الجبال، وبين طبقات الأرض، ويطلعوا على جانب من أسرار بداية الحياة على وجه الأرض، ويدركوا عظمة الله وقدرته، وليعلموا أنّه قادر على إعادة الحياة أيضاً(1).

هذا وإن كلمة "النشأة" في الأصل، تعني إيجاد الشيء وتربيته، وقد يعبرأحياناً عن الدنيا بالنشأة الأولى، كما يعبر عن الأُخرى بالنشأة الآخرة!.

وهذه اللطيفة جديرة بالملاحظة، وهي أنّ في ذيل الآيات السابقة ورد التعبير "إن ذلك على الله يسير" وورد التعبير هنا (إن الله على كل شيء قدير).

ولعل منشأ التفاوت والإختلاف هو أن الآية الأُولى تعالج مطالعة محدودة، أمّا الثّانية فتعالج وتبيّن مطالعة وسيعة جدّاً.

ثمّ يتعرض القرآن الكريم إلى إحدى المسائل المتعلقة بالمعاد، وهي مسألة الرحمة والعذاب، فيقول: (يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون).

ومع أنّ رحمة الله مقدمةٌ على غضبه، إلاّ أن الآية هنا تبدأ أولا بذكر العذاب ثمّ الرحمة، لأنّها في مقام التهديد، وما يناسب مقام التهديد هو هذا الأُسلوب!.

هنا ينقدح السؤال التالي:

كيف يتحدث القرآن أوّلا عن العذاب والرحمة، ثمّ يتحدث عن معاد الناس إليه (واليه تقلبون)؟ في حين أن القضية على العكس من ذلك، ففي البداية يحضر الناس عند ساحته، ثمّ يشملهم العذاب أو الرحمة.. وربّما كان هذا هو السبب في أن يعتقد بعضهم أن العذاب والرحمة المذكورين هنا هما في هذه الدنيا.

ونقول جواباً على مثل هذا السؤال: إن العذاب والرحمة - بقرينة الآيات السابقة واللاحقة - هما عذاب القيامة ورحمتها، وجملة (وإليه تقلبون) إشارة إلى الدليل على ذلك: أي: بما أنّ معادكم إليه وكتابكم وحسابكم لديه، فالعذاب والرحمة - أيضاً - بإرادته وتحت أمره!.

ولا يبعد أن يكون العذاب والرحمة في هذه الآية لهما معنى واسع، بحيثيشمل العذاب والرحمة في الدارين.

كما يتّضح أنّ المراد بقول: (من يشاء) هو المشيئة الإلهية المقرونة بحكمته، أي كل من كان جديراً ومستحقاً لذلك.. فإن مشيئة الله ليست عبثاً، بل منسجمة مع الإستحقاق والجدارة!.

وجملة "تنقلبون" من مادة"القلب" ومعناها في الأصل: تغيير الشيء من صورة إلى صورة أُخرى، وحيث أن الإنسان في يوم القيامة يعود إلى هيئة الموجود الحي الكامل بعد أن كان تراباً لا روح فيه، فقد ورد هذا التعبير في إيجاده ثانيةً أيضاً.

ويمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى هذه اللطيفة الدقيقة - أيضاً - وهي أن الإنسان يتبدل في الدار الأُخرى ويتغيّر تغيراً ينكشف باطنه به وتتجلى أسراره الخفية، وبهذا فهي تنسجم مع الآية (رقم 9) من سورة الطارق (يوم تبلى السرائر).

وإكمالا لهذا البحث الذي يبيّن أن الرحمة والعذاب هما بيد الله والمعاد إليه، يضيف القرآن: إذا كنتم تتصورون أنّكم تستطيعون أن تهربوا من سلطان الله وحكومته ولايمسّكم عذابه، فأنتم في خطأ كبير... فليس الأمر كذلك! (وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء)(2).

وإذا كنتم تتصورون أنّكم تجدون من يدافع عنكم وينصركم هناك، فهذا خطأ محضٌ أيضاً (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير).

وفي الحقيقة، فإنّ الفرار من قبضة الله وعذابه، إمّا بأن تخرجوا من حكومته، وإمّا بأن تعتمدوا مع بقائكم في حكومته على قدرة الآخرين لتدافعوا عن أنفسكم، فلا الخروج ممكن، لأنّ البلاد كلّها له وعالم الوجود كلّه ملكه الواسع،

ولا يوجد أحد يستطيع أن يقف أمام قدرته وينهض للدفاع عنكم.

يبقى هنا سؤالان:-

أوّلا: مع الإلتفات إلى هذه الحقيقة، وهي أن مقصود الآية هو في الكفار والمشركين، وهم سكنة الأرض، فما معنى قوله تعالى: (ولا في السماء) وأي مفهوم له هنا؟!

وينبغي أن يقال في الجواب، أن هذا التعبير هو نوع من التأكيد والمبالغة، أي إنكم لا تستطيعون أن تخرجوا من قدرة الله وسلطانه في هذه الأرض، ولا في السماوات، إذ حتى لو فرضنا أنّكم تستطيعون أن تصعدوا في السماء، فمازلتم تحت قدرته و سلطانه.

أو إنّه: لا تستطيعون أن تعجزوا الله في مشيئته بواسطة من في الأرض، ولا بواسطة من تعبدون في السماوات، من أمثال الملائكة والجن (والتّفسير الأوّل أكثر مناسبة - طبعاً -)

ثانياً: ما الفرق بين الولي والنصير؟!

يرى العلامة "الطبرسي" في "مجمع البيان" وقيل: إن الولي الذي يتولى المعونة بنفسه والنصير يتولى النصرة تارةً بنفسه بأن يأمره غيره به"(3).

بل يمكن القول مع ملاحظة الكلمتين هاتين، أن الولي إشارة إلى من يعيّن دون طلب من عليه الولاية، والنصير هو المستصرخ الذي يأتي لإعانة الإنسان بعد استصراخه.

وهكذا يغلق القرآن جميع أبواب الفرار بوجه هؤلاء المجرمين.. لذلك يقول في الآية التي بعدها بشكل قاطع: (والذين كفروا بآيات الله ولقائه أُولئك يئسوا من رحمتي)

ثمّ يضيف مؤكداً: (وأُولئك لهم عذاب أليم).

هذا "العذاب الأليم" هو لزم اليأس من رحمة الله.

والمراد بـ "ايات الله" إمّا هي "الآيات التكوينية" أي آثار عظمة الله في نظام خلقه وإيجاده، وفي هذه الصورة فهي إشارة إلى مسألة التوحيد، في حين أن كلمة "لقائه" إشارة إلى مسألة المعاد، أي إنّهم منكرون للمبدأ وللمعاد كليهما.

أو أنّ المراد من آيات الله هي "الآيات التشريعية" أي هي الآيات التي أنزلها الله على أنبيائه، التي تتحدث عن المبدأ وعن النبوة وعن المعاد، وفي هذه الحال يكون التعبير بـ "لقائه" من قبيل ذكر الخاص بعد العام.

كما يمكن أن يكون المقصود من آيات الله هي جميع الآيات في عالم الوجود والتشريع.

وينبغي ذكر هذه المسألة - أيضاً - وهي أن "يئسوا" فعل ماض والهدف منه هو الاستقبال - أي في يوم القيامة - والعرب عادةً إذا تحدثوا عن أمر مستقبلي بصورة التأكيد عبروا عنه بصيغة الماضي، للدلالة على تحققه قطعاً وحتماً.


1- "الإفك" يطلق في الأصل على كل شيء مختلف عن حقيقته، ولذلك يطلق على الكذب - خاصة الكذب الكبير - أنّه إفك، كما تطلق هذه الكلمة على الرياح المخالفة لإتجاهها ومسيرها فيقال "رياح مؤتفكة".

2- سبق أن تعرضنا إلى بحث حول "السير في الأرض" وآثاره، غير أنّ البحث الفائت كانت فيه جوانب من دروس العبرة في مجال قصص الأمم الماضية وطغاتها. التّفسير الأمثل ذيل الآية (137) سورة آل عمران، فلا بأس بمراجعتها.

3- كلمة "معجزين" مشتقّة من مادة "عجز"، ومعناها في الأصل التخلّف والتأخر عن الشيء، ولذلك تستعمل هذه الكلمة في الضعف الباعث على التخلف والتأخر، "المعجزة" معناه الذي يجعل الآخر عاجزاً، وحيث أن الأفراد الذين يفرون من سلطان أحد وقدرته، يعجزونه عن ملاحقتهم، لذلك استعملت كلمة "معجز" في هذا الصدد أيضاً...