الآيات 14 - 19
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَة إلاَّ خَمْسَيْنَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَـلِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَـهُ وَأَصْحَـبَ السَّفِيْنَةِ وَجَعَلْنَـهَآ ءَايَةً لِّلْعَـلَمِينَ (15) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوالله وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَوْثَـناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلاَّ الْبََلَـغُ الْمُبِينُ (18) أَوَ لَمْ يَرَواْ كَيْفَ يُبْدِىءُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (19) ﴾
التفسير
إشارة لقصتي نوح وإبراهيم:
لما كان الكلام في البحوث السابقة عن الإمتحانات العامّة في الناس، فإنّالكلام هنا - وفي ما بعد - يقع على الإمتحانات الشديدة للأنبياء، وكيف أنّهم كانوا تحت ضغط الأعداء وإيذائهم، وكيف صبروا وكانت عاقبة صبرهم النصر! ليكون هذا الكلام تسلية لقلوب أصحاب النّبي(ص) الذين كانوا تحت وطأة التعذيب الشديد من قبل الأعداء - من جانب - وتهديداً للأعداء لينتظروا عاقبتهم الوخيمة من جانب آخر.
تبدأ الآيات أوّلا بالكلام على أوّل نبي من أولي العزم وهو "نوح"(ع)، وتتحدث عنه بعبارات موجزة، لتُجملَ قسماً من حياته التي تناسب - كثيراً - الواقع الراهن للمسلمين - آنئذ - فتقول: (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاماً).
كان نوح مشغولا ليلَ نهارَ بالتبليغ ودعوة قومه إلى توحيد الله - فرادى ومجتمعين، مستفيداً من جميع الفرص في هذه المدة الطويلة (أي تسعمائة وخمسين عاماً) يدعوهم إلى الله.. ولم يشعر بالتعب والنصب من هذا السعي المتتابع ولم يظهر عليه الضعف والفتور.
ومع كل هذا الجهد الجهيد لم يؤمن به إلاّ جماعة قليلة في حدود الثمانين شخصاً كما تنقل التواريخ (أي بمعدّل نفر واحد لكل اثنتي عشرة سنة!).
فعلى هذا لا تظهروا الضعف والتعب في سبيل الدعوة إلى الحق ومواجهة الإنحرافات، لأنّ منهجكم أمام منهج "نوح" سهل للغاية.
لكن لاحظوا كيف كانت عاقبة قوم نوح الظالمين الألدّاء: (فأخذهم الطوفان وهم ظالمون).
وهكذا انطوى "طومار" حياتهم الذليلة، وغرقت قصورهم وأجسادهم وآثارهم في الطوفان وأمواجه.
والتعبير بـ (ألف سنة إلاّ خمسين عاماً) مع إمكان القول "تسعمائة وخمسين سنة" من البداية، هو إشارة إلى عظمة المدة وطول الزمان، لأنّ عدد"الألف" وأيّ ألف؟ ألف سنة! يعدّ مهماً وعدداً كبيراً بالنسبة لمدّة التبليغ.
وظاهر الآية الآنفة أنّ هذا المقدار لم يكن هو عمر نوح(ع) بتمامه (وإن ذُكر ذلك في التوراة الحديثة، في سفر التكوين الفصل التاسع) بل عاش بعد الطوفان فترة أُخرى، وطبقاً لما قاله بعض المفسّرين فقد كانت الفترة هذه ثلاثمائة سنة!
طبعاً... هذا العمر الطويل بالقياس إلى أعمار زماننا كثير جداً ولا يعدّ طبيعيّاً أبداً، ويمكن أن يكون ميزان العمر في ذلك العصر متفاوتاً مع عصرنا هذا... وبناءً على المصادر التي وصلت إلى أيدينا فإنّ قوم نوح كانوا معمرين، وعمر نوح بينهم أيضاً كان أكثر من المعتاد، ويشير هذا الأمر ضمناً إلى هيئة تركيب أجسامهم كانت تمكّنهم من أن يعمّروا طويلا.
إنّ دراسات العلماء في العصر الحاضر تدلّ على أن عمر الإنسان ليس له حد ثابت، وما يقوله بعضهم بأنّه محدود بمائة وعشرين سنة، و أكثر أو أقل، فلا أساس له... بل يمكن أن يتغير بحسب اختلاف الظروف.
واليوم وبواسطة التجارب استطاع العلماء أن يضاعفوا عمر قسم من النباتات أو الموجودات الحيّة، إلى اثني عشر ضعفاً على العمر الطبيعي، وحتى في بعض الموارد - ولا تتعجبوا - أوصلوا هذه الفترة للنباتات أو غيرها إلى تسعمائة مرّة ضعف عمرها الطبيعي... وإذا حالفهم التوفيق فيمكنهم أن يضاعفوا عمر الإنسان، فيمكن أن يعمّر الإنسان عندئذ آلاف السنين.(1)
وينبغي الإلتفات ضمناً إلى أن كلمة "الطوفان" في الأصل معناها كل حادثة تحيط بالإنسان، وهي مشتقّة من مادة "الطواف"، ثمّ استعمل هذا التعبير للماء الغزير أو السيل الشديد الذي يستوعب مساحة كبيرة من الأرض ويغرقها، كما يطلق على كل شيء كثير وشديد وفيه حالة الاستيعاب، سواءً كان ريحاً أو ناراً أو ماءً، فيسمى كلٌّ منها طوفاناً... كما قد يردُ بمعنى ظلمة الليل الشديدة أيضاً.(2)
الطريف أنّ القرآن يقول: (وهم ظالمون) أي إنّهم حين وقوع العذاب "الطوفان" كانوا لا يزالون في ظلمهم أيضاً.
وهذا إشارة إلى أنّهم لو تركوا تلك الأعمال، وندموا على ما فعلوا، وتوجّهوا إلى الله، لما ابتلوا بمثل هذه العاقبة أبداً.
ويضيف القرآن الكريم في الآية الأُخرى (فانجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين)(3).
ثمّ يعقّب على قصّة نوح وقومه التي وردت بشكل مضغوط، ويأتي بقصّة إبراهيم(ع)، ثاني الأنبياء الكبار من أولي العزم فيقول: (وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون)(4).
هنا بيّن القرآن منهجين مهمّين من مناهج الأنبياء العملية والاعتقادية، وهما الدعوة إلى توحيد الله والتقوى - في مكان واحد - ثمّ يختتم القول: أن لو فكرتم جيداً لكان ذلك خيراً لكم عند اتباعكم لمذهب التوحيد والتقوى، إذ ينجيكم من دنياكم الملوّثة بالذنوب والشقاء، وتكون آخرتكم هي السعادة الأبديّة.
ثمّ يذكر إبراهيم(ع) أدلة بطلان عبادة الأصنام والأوثان، ويبيّن في تعابير مختلفة يتضمّن كل منها دليلا على فساد مذهبهم وبطلانه فيقول أوّلا: (إنّما تعبدون من دون الله أوثاناً).
هذه الأوثان هي الأصنام الخالية من الروح.. الأصنام التي ليس لها إرادة، ولا عقل، وهي فاقدة لكل شيء، بحيث أن شكلها بنفسه هو دليل على بطلان عقيدة "عبادة الأوثان"
(لاحظوا أن "الأوثان" هي جمع لكلمة "وثن" على زنة "صنم" ومعناها "الحجارة المنحوتة" الموضوعة للعبادة!).
ثمّ يتوسع في حديثه ويمضي إلى مدى أبعد فيقول: ليست هذه الأوثان بهيئتها تدل على أنّها لا تستحق العبادة فحسب، بل أنتم تعلمون بأنّكم تكذبون وتضعون اسم الآلهة على هذه الأوثان: (وتخلقون إفكا).
فأي دليل لديكم على هذا الكذب سوى حَفنة من الأوهام والخرافات الباطلة.
وحيث أن كلمة "تخلقون" مشتقّة من الخلق، وتعني أحياناً الصنع والإبداع، وأحياناً تأتي بمعنى الكذب، فإنّ بعض المفسّرين ذكر تفسيراً آخر لهذه الجملة غير ما بيّناه آنفاً... وقالوا إنّ المقصود من هذا التعبير هو أنّكم تنحتون هذه الأوثان... المعبودات الباطلة المزوّرة بأيديكم، وتصنعونها (فيكون المراد من الإفك هنا هو المعبودات المزورّة) والخلق هو النحت هنا(5).
ثمّ يبيّن الدليل الثّالث وهو أن عبادتكم لهذه الأوثان إمّا لأجل المنافع المادية، أو لعاقبتكم في "الأُخرى" وكلا الهدفين باطل... وذلك: (إنّ الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً).
وأنتم تعتقدون بأنّ هذه الأصنام لم تكن خلقتكم، بل الخالق هو الله، فالذي يتكفل بالرزق هو الله (فابتغوا عند الله الرزق).
ولأنّه هو الذي يرزقكم فتوجهوا إليه (واعبدوه واشكروا له).
وبتعبير آخر، فإن واحداً من أسباب العبادة وبواعثها هو الإحساس بالشكر للمنعم الحقيقي، وتعرفون أن المنعم الحقيقي هو الله، فالشكر والعبادة يختصان - أيضاً - بذاته المقدسة.
وإذ كنتم تبتغون الدار الأُخرى فإنّه (إليه ترجعون).
فالأصنام لا تصنع شيئاً هنا ولا هناك!.
وبهذا الأدلّة الموجزة والواضحة ألجم منطقهم الواهي وأفحمهم.
ثمّ يلتفت إبراهيم (ع) مهدّداً لهم ومبدياً عدم اكتراثه بهم قائلا: (وإن تكذبوا فقد كذب أُمم من قبلكم) كذبوا أنبياءهم فنالوا الخزي بتكذيبهم والعاقبة الوخيمة (وما على الرّسول إلاّ البلاغ المبين) سواءً استجاب له قومه، أم لم يستجيبوا له دعوته وبلاغه!
والمقصود بالأُمم قبل أُمة إبراهيم(ع)، أُمة نوح(ع) وما بعده من الأُمم وبالطبع فإنّ إرتباط هذه الآيات يوجب أن تكون هذه الجملة من كلمات إبراهيم(ع)، وهذا ما يذهب إليه كثير من المفسّرين عند تفسيرهم للنص، أو يحتملون ذلك!.
والاحتمال الآخر: إنّ الخطاب في هذه الآية للمشركين من أهل مكّة المعاصرين للنّبي(ص) وجملة (كذب أُمم من قبلكم) فيها تتناسب أكثر مع هذا الاحتمال.
أضف إلى ذلك، فإنّ نظير هذا التعبير الذي ورد في الآية 25 من سورة الزمر، والآية (25) من سورة فاطر، هو أيضاً في شأن نبي الإسلام(ص) والمشركين العرب في مكّة.
ولكن - وعلى أي حال - أيّاً من التّفسيرين كان ذلك، فليس هناك تفاوتٌ في النتيجة!.
والقرآن يترك قصّة إبراهيم هنا مؤقتاً، ويكمل البحث الذي كان لدى إبراهيم في صدد التوحيد وبيان رسالته بدليل المعاد، فيقول: (أو لم يروا كيف يبدىء الله الخلق ثمّ يعيده).
والمراد بالرؤية هنا هي الرؤية "القلبية" والعلم، أي كيف لا يعرف هؤلاء خلق الله؟ فالذي له القدرة على الإيجاد أولا قادر على إعادته أيضاً، فالقدرة على شيء ما هي قدرة على أمثاله وأشباهه أيضاً.
كمايأتي هذا الإحتمال، وهو أنّ الرؤية هنا هي الرؤية "البَصَيريّة" والمشاهدة بالعين... لأنّ الإنسان يرى بعينيه كيف تحيا الأرض وتنمو النباتات، وتتولد الدجاجة من البيض، والأطفال من النطف... فمن له القدرة على هذا الأمر قادر على أن يحيي الموتى من بعدُ أيضاً.
ويضيف في آخر الآية على سبيل التأكيد (إنّ ذلك على الله يسير).
لأنّ تجديد الحياة قبال الإيجاد الأوّل يُعدّ أمراً بسيطاً.
وطبيعي أنّ هذا التعبير يناسب منطق الناس وفهمهم، وإلاّ فإن اليسير والعسير لا مفهوم لهما عند من قدرته غير محدودة والمطلقة... فهذه قدراتنا التي أوجدت مثل هذا "المفهوم"، ومع الإلتفات إلى إنجازها... ظهرت لدينا أُمور يسيرة وأُخرى عسيرة.
1- تفسير الدر المنثور...
2- لمزيد التوضيح في مسألة طول العمر، بمناسبة الأبحاث المتعلقة بطول عمر المهدي(عليه السلام)، يراجع كتاب "المهدي تحول كبير".
3- المفردات للراغب.
4- القول في ما هو مرجع الضمير في "جعلناها" للمفسّرين احتمالات كثيرة، فبعضهم قال: هو إشارة إلى مجموع هذه الواقعة والحادثة، وقال بعضهم: هي نجاة نوح(عليه السلام) فحسب - مع أصحابه - وأشار بعضهم إلى أن المراد من "جعلناها" هي السفينة، وظاهر العبارة المتقدمة - أيضاً - تؤيد هذا الإحتمال الأخير، وحقاً كانت هذه السفينة آيةً من آيات الله في ذلك العصر، وفي تلك الحادثة العظيمة.
5- الظّاهر أنّ "إبراهيم" معطوف على كلمة "نوح" وفعله "أرسلنا"، وبعضهم عطفه على مفعول (أنجيناه) وبعضهم جعله مفعولا لفعل محذوف تقديره "اذكر".