الآيات 4 - 7

﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لاَت وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَـهَدَ فَأِنَّمَا يُجَـهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِىٌّ عَنِ الْعَـلمِينَ (6) وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) ﴾

التّفسير

لا مهربَ من سلطان الله:

كان الكلام في الآيات السابقة عن امتحان المؤمنين الشامل، والآية الأُولى من الآيات أعلاه تهديد شديد للكفار والمذنبين، لئلا يتصوروا أنّهم حين يضيّقون على المؤمنين ويضغطون عليهم ولا يعاقبهم الله فوراً، فإنّ الله غافل عنهم أو عاجز عن عذابهم، تقول الآية هذه: (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون).

فلا ينبغى أن يغرّهم إمهال الله إيّاهم فهو امتحان لهم، كما أنّه فرصة للتوبةوالعودة إلى ساحة الله تعالى.

وما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ هذه الآية هي إشارة إلى المؤمنين المذنبين، فلا يناسب هذا التّفسير سياق الآيات بأي وجه، بل جميع القرائن تدل على أنّ المقصود بالآية هم المشركون والكفار.

ثمّ يتحدث القرآن مرّة أُخرى عن سيرالمؤمنين ومناهجهم، ويقدم النصح لهم، فيقول: (من كان يرجوا لقاء الله) فعليه أن يعمل ما في وسعه على امتثال الأوامر الإلهية والاحكام الشرعية، لأنّ الوقت المعيّن سيأتي حتماً (فأنّ أجل الله لأت)(1).

أجل، إنّ وعد الله هذا لا يقبل التخلّف، هو طريق لابدّ من اجتيازه، ثمّ إنّ الله سبحانه يسمع أحاديثكم، وهو مطلع على أعمالكم ونيّاتكم... لأنّه (هو السميع العليم).

وفي معنى قوله تعالى: (لقاء الله) وما المقصود منه؟ فسّره بعض المفسّرين بملاقاة الملائكة، كما فسّره البعض بملاقاة الحساب والجزاء.. وبعض بملاقاة الحكم وأمر الحق.. وآخرون بأنّه كناية عن يوم القيامة.. في حين أنّه لا دليل على أن تفسّر هذه الآية بهذه المعاني المجازية.

وينبغي القول أن "لقاء الله" في يوم القيامة ليس لقاءاً حسيّاً بل نوعاً من الشهود الباطني، لأنّ الستائر الضخمة لعالم المادة تنكشف عن عين روح الإنسان، وتبدو في حالة الشهود للإنسان!

وكما يقول العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان: إنّ المقصود من لقاء الله، هو أنّ العباد يكونون في موقف لا يكون بينهم وبين الله حجاب، لأنّ طبيعة يوم القيامة هي ظهور الحقائق كما يقول القرآن: (ويعلمون أنّ الله هو الحقّ المبين)

(سورة النور الآية 25)(2).

أمّا الآية التي تليها، فهي - في الحقيقة - تعليل لما سبق بيانه في الآية الآنفة، إذ تقول: إن على المؤمنين الذين يرغبون في لقاء الله السعي بما اوتوا من قدرة وقابلية من أجل ذلك فإن نتيجة كل ذلك السعي والجهاد وتحمل الشدائد ترجع ثمارها للعامل نفسه: (ومن جاهد فإنّما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين).

إن خطة الإمتحان الالهي هي الجهاد، جهاد النفس وهواها، وجهاد الاعداء الألداء، لحفظ الإيمان والتقوى والطهارة، ونفع ذلك يعود للانسان... وإلاّ فإنّ الله وجود غير متناه من جميع الوجوه، وغير مفتقر لأي شيء حتى يتم بواسطة طاعة الناس أو عبادتهم جبرانه، ولا ينقصه شيء حتى يكمله الآخرون، فكل ما عندهم فمنه، وليس لهم شيء من أنفسهم!.

ويتّضح هنا من هذا البيان أن الجهاد لا يعني بالضرورة جهاد العدوّ المسلّح، بل يحمل معناه اللغوي الذي يشمل كل أنواع السعي والجد لحفظ الإيمان والتقوى، وتحمل أنواع الشدائد، والمواجهات "الموضعية" للأعداء الألدّاء والحاقدين.

والخلاصة أنّ جميع منافع هذا الجهاد ترجع للشخص المجاهد نفسه، وهو الذي يفوز بخير الدنيا والآخرة في جهاده، وحتى إذا كان المجتمع يستفيد من بركات هذا الجهاد، فهو في مرحلة أُخرى بعده.

فعلى هذا، متى ما وفّق أي إنسان إلى الجهاد فنال نصيب منه، فعليه أن يشكر الله على هذه النعمة!.

وآخر آية - محل البحث - توضيح لما تقدم ذكره في الآية السابقة بشكل مبهم تحت عنوان الجهاد، فهنا يكشف القرآن حقيقة الجهاد فيقول: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم).

إذن أوّل فائدة كبيرة لهذا الجهاد الكبير (وهو الإيمن والعمل الصالح) هي تكفير الذنوب وسترها على الإنسان، كما أن الثواب سيكون من نصيبهم، كما يقول القرآن في نهاية هذه الآية أيضاً: (ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون).

كلمة "نكفّر" مشتقة من مادة "تكفير" ومعناها في الأصل التغطية والستر، والمقصود بتغطية الذنوب هنا عفو الله وصفحه!

والتعبير بـ(أحسن الذي كانوا يعملون) مع أن الله يجزي على الأعمال الصالحة - حسنةً كانت أم أحسن لعله إشارة إلى أنّنا نجازي جميع أعمالهم الصالحة والحسنة بأحسن الجزاء، أي إذا كانت بعض أعمالهم أحسن وبعضها حسناً، فنحاسب الجميع بالأحسن، وهذا هو معنى تفضل الله سبحانه.

وفي آيات أُخرى من القرآن، كالآية (38) من سورة النور وردت الإشارة إلى ذلك أيضاً (ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله).


1- لمزيد الإيضاح في مسألة الإمتحان الإلهي وجوانبها المختلفة، يراجع التّفسير الأمثل ذيل الآية (157) من سورة البقرة حيث بيّناه بتفصيل!...

2- أصول الكافي، طبقاً لما نقل في تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 148.