الآيات 1 - 3
﴿الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَـذِبِينَ (3) ﴾
سبب النزول
طبقاً لما نقل بعض المفسّرين، أنّ الآيات الإحدى عشرة الأُولى من بداية سورة العنكبوت نزلت في المدينة في شأن المسلمين الذين كانوا في مكّة وغير راغبين بالهجرة إلى المدينة.. وكانوا قد تلقوا رسائل من إخوة لهم في المدينة جاء فيها: "إن الله لا يقبل إقراركم بالإيمان حتى تهاجروا إلى المدينة" فصمموا على الهجرة وخرجوا من مكّة، فتبعهم جماعة من المشركين والتحموا بالقتال فقتل منهم جماعة وجرح آخرون "وربّما سلّم بعضهم نفسه ورجعوا إلى مكّة".
وقال بعضٌ: إنّ الآية الثّانية من هذه السورة في شأن "عمار بن ياسر" وجماعة من المسلمين الأوائل، الذين آمنوا برسالة النّبي(ص) ولاقوا صنوف التعذيب من الأعداء.
كما قال بعضهم: إنّ الآية الثامنة نزلت في إسلام "سعد بن أبي وقاص"!
غير أنّ التدقيق في الآيات يكشف عن أنّه لا دليل على إرتباط الآيات معهجرة أُولئك، سوى أنّ الآيات تبيّن الضغوط على المؤمنين في ذلك الوقت من قبل أعدائهم وأحياناً من الآباء المشركين والاُمهات المشركات ضدّ أبنائهم المؤمنين.
فهذه الآيات تشجّع المسلمين على الثبات والرجولة والإستقامة أمام أمواج الضغوط من قبل الاعداء.. وإذا ورد الحديث فيها على الجهاد فالمراد منه - أيضاً - الجهاد في هذا المجال، لا الجهاد المسلّح الذي تقوم به الجماعة، فذلك شُرّع في المدينة.
وإذا ورد الحديث عن المنافقين في هذه الآيات، فلعلّه إشارة إلى المسلمين الضعاف في إيمانهم، الذي كان يتفق وجودهم بين المسلمين في مكّة أحياناً... فتارة هم مع المسلمين وتارة مع المشركين، وكانوا يميلون مع الكفة الراجحة منهما.
وعلى كل حال، فإرتباط الآيات بعضها ببعض وانسجامها توجب أن تكون هذه السورة "جميعها" مكية، وما ذكرناه من الرّوايات المتقدمة المتناقضة في ما بينها، لا يمكن أن تقطع هذا الإرتباط!
التّفسير
الامتحان الإلهي سنة خالدة:
نواجه في بداية هذه السورة الحروف المقطعة ألف - لام - ميم أيضاً.. وقد بيّنا تفسيرها عدة مرات من وجوه مختلفة(1).
وبعد هذه الحروف المقطعة يشير القرآن إلى واحدة من أهم مسائل الحياة البشرية، وهي مسألة الشدائد والضغوط والإمتحان الإلهي.
فيقول أوّلا: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون).(2)
ثمّ يذكر القرآن هذه الحقيقة - بعد الآية المتقدمة مباشرة، وهي أن الإمتحان سنة الهية دائمية، فالامتحان لا يختص بكم - أيّها المسلمين - بل هو سنة جارية في جميع الأمم المتقدمة، إذ يقول: (ولقد فتنا الذين من قبلهم).
وهكذا ألقينا بهم أيضاً في أفران الإمتحانية الشديدة الصعبة... ووقعوا أيضاً - تحت تأثير ضغوط الأعداء القُساة والجهلة المعاندين.. فساحة الإمتحان كانت مفتوحة دائماً، واشترك فيها جماعة كثيرون.
وينبغي أن يكون الأمر كذلك، لأنّه في مقام الإدعاء يمكن لكل أحد أن يذكر عن نفسه أنّه أشرف مجاهد وأفضل مؤمن وأكثر الناس تضحيةً.. فلابدّ من معرفة قيمة هذه الإدعاءات بالإمتحان، وينبغي أن تعرف النيات والسرائر إلى أي مدى تنسجم مع هذه الإدعاءات.؟!
أجل (فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين).
من البديهي أنّ الله يعرف جميع هذه الأُمور جيداً - قبل أن يخلق الإنسان - إلاّ أنّ المراد من العلم هنا هو التحقق العيني للمسائل.. ووجودها الخارجي، وبتعبير آخر: ظهور الآثار والشواهد العملية.. ومعناه أنّه ينبغي أن يرى علم الله في هذه المجموعة عملياً في الخارج، وأن يكون لها تحقق عيني، وأن يكشف كلٌّ عمّا في نفسه وداخله... هذا هو العلم حين يطلق على مثل هذه المسائل وينسب إلى الله!.
والدليل على هذه المسألة واضح - أيضاً - لإنّ النيّات والصفات الباطنية إذا لم تحقق في عمل الإنسان وتكون عينيّة، فلا مفهوم للثواب والجزاء والعقاب!.
وبعبارة أُخرى: فإنّ هذا العالم مثله كمثل "المدرسة" أو "المزرعة"
والتشبيهات هذه واردة في متون الأحاديث الإسلامية والمنهج هو أن تتفتح الإستعدادات وتربّى القابليات وتكون فعلية بعد ما كانت بالقوّة.
وينبغي أن تنمو البذور في هذه المدرسة وأن تطلع البراعم من تحت الأرض فتحاط بالرعاية والعناية لتكون شجيرات صغيرة، ثمّ تكون أشجاراً ذوات أصول قوية وأغصان ومثمرّة على تعاقب الزمن.. وهذه الأُمور لا تكون إلاّ بالإمتحان والإختبار.
ومن هنا نعرف أن الإمتحانات الإلهية ليست لمعرفة الأفراد، بل هي من أجل تربية الإستعدادات ورعايتها، لتتفتح وتكون بصورة أحسن.
فعلى هذا.. لو أردنا نحن أن نمتحن شيئاً، فهو لأجل كشف المجهول، لكنّ امتحان الله ليس لكشف المجهول، لأنّه أحاط بكل شيء علماً... بل هو لتربية الإستعدادت وايصال مرتبة "القوة" إلى "الفعل"(3).
بحث
الإمتحانات في وجوه مختلفة:
وبالرّغم من أن بيان عمومية الإمتحان لجميع الأمم والأقوام كان له أثر كبير فعّال بالنسبة لمؤمني مكّة، الذين كانوا يمثلون الأقلية في ذلك العصر، وكان التفاتهم إلى هذه الحقيقة سبباً في وقوفهم بوجه الأعداء بصبر واستقامة... إلاّ أن ذلك لم يكن منحصراً في مؤمني مكّة، بل إن كل جماعة وطائفة لها نصيب من هذه السنة الإلهية فهم شركاء فيها، إلاّ أن الإمتحانات الإلهية لهم تأتي بصور مختلفة.
فالجماعة الذين يعيشون في محيط ملوث بالمفاسد والوساوس تحيط بهم من كل جانب، فإن امتحانهم الكبير في مثل هذا الجو والظروف، هو أن لا يتأثروا بلون المحيط وأن يحفظوا أصالتهم ونقاءهم.
والجماعة الذين يعيشون تحت ضغط الحرمان والفقر، يرون بأنّهم لو صمموا على ترك رأس مالهم الأصيل "الإيمان" فإنّهم سرعان ما يتخلصوا من الفقر والحرمان لكن ثمن ذلك هو فقدانهم للايمان والتقوى والكرامة والحرية والشرف، فهنا يكمن امتحانهم..
وجماعة آخرون على عكس أُولئك غرقى في اللذائذ والنعم، والإمكانات المادية متوفرة لديهم من جميع الوجوه... ترى هل يؤدون في مثل هذه الظروف الشكر على النعم.. أم سيبقون غرقى في اللذائذ والغفلة وحب الذات والأنانية... غرقى الشهوات والإغتراب عن المجتمع وعن أنفسهم!
وجماعة منهم كالمتغربين في عصرنا، يرون بعض الدول بعيدة عن الله والفضيلة والأخلاق حقّاً، ولكنّها تتمتع بالتمدن المادي المذهل والرفاه الإجتماعي.
هنا تجذب هؤلاء المتغرّبين قوّة خفية إلى سلوك هذا النوع من الحياة أو سحق جميع القيم والأصول والأعراف التي يعتقدون بها، ويبيعون أنفسهم أذلاء عملاء لتلك الدول، ليوفروا لهم ولمجتمعهم مثل هذه الحياة... وهذا نوع آخر من الإمتحان.
المصائب، والآلآم والهموم، والحروب والنزاعات، والقحط والغلاء، وما تثيره الحكومات الأنانية لتجذبهم إليها وتستعبدهم به وأخيراً الأمواج النفسية القوية والشهوات، كلّ منها وسيلة للإمتحان في طريق عباد الله، والسائرين في الميادين التي تتميز فيها شخصية الأفراد وتقواهم وإيمانهم وطهارتهم وأمانتهم وحريتهم.. الخ.
ولكن لا طريق للانتصار في هذه الإمتحانات الصعبة لاجتيازها إلاّ الجدّالسعي المستمر، والاعتماد على لطف الله سبحانه.
ومن الطريف أنّنا نقرأ حديثاً عن أحد المعصومين في أصول الكافي في تفسير الآية (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون) يقول فيه: "يُفتنون كما يفتن الذهب، ثمّ قال يخلصون كما يخلص الذهب" (4).
وعلى كل حال، فإن طالبي العافية الذين يظنون أنّ إظهار الإيمان كاف بهذا المقدار ليكونوا في صفوف المؤمنين وفي أعلى عليين في الجنّة مع النّبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فهم في خطأ كبير.
وعلى حدّ تعبير أميرالمؤمنين(ع) في نهج البلاغة: "والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة ولتغربلن غربلة، ولتساطن سوط القدر حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم"(5).
قال(ع): هذا الكلام والناس جديدو عهد ببيعته، وينتظرون ما سيفعل ببيت المال، أيقسمه حسب الجاه والمقامات بحسب المعايير السابقة، فيبعّض في المال، فيعطى الكثير لبعضهم بحسب المقام، والقليل للبعض الآخر!.. أم سيسير معهم بالعدل المحمّدي؟
1- سورة النساء، الآية 64.
2- لمزيد التوضيح يراجع تفسير الآية 35 المائدة، وتفسير ذيل الآية (48) من سورة البقرة!.
3- "ثواب الأعمال" "طبقاً لتفسير نورالثقلين، ج 4، ص 147" من الجدير بالذكر أنّنا نكتب هذا القسم من هذا التّفسير في بداية ليلة 23 من شهر رمضان لسنة 1403 هجرية...
4- يراجع بداية تفسير سورة البقرة وبداية سورة آل عمران وبداية تفسير سورة الأعراف من التّفسير الأمثل.
5- "يفتنون" مشتق من "الفتنة" وهي في الأصل وضع الذهب في النّار لمعرفة مقدار خلوصه، ثمّ أطلق هذا التعبير على كل امتحان ظاهريومعنوي.. "لمزيد الإيضاح يراجع تفسير الآية (193) من سورة البقرة".