الآيتان 83 - 84
﴿تِلْكَ الدَّارُ الاَْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الاَْرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَـقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَنْ جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)﴾
التفسير
نتيجة حبّ التسلط والفساد في الأرض:
بعد البيان المثير لما حدث لثري مستكبر ومتسلط، وهو قارون، تبدأ الآية الأُولى من هذا المقطع ببيان استنتاج كلي لهذا الواقع وهذا الحدث، إذ تقول الآية (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً).
أجل، فهم غير مستكبرين ولا مفسدين في الأرض وليس هذا فحسب، بل قلوبهم مطهّرة من هذه المسائل، وأرواحهم منزهة من هذه الأوساخ! فلا يريدون ذلك ولا يرغبون فيه.
وفي الحقيقة إنّ ما يكون سبباً لحرمان الإنسان من مواهب الدار الآخرة، هو هذان الأمران: "الرغبة في العلو" أيّ الإستكبار و "الفساد في الأرض" وهماالذنوب.. لأنّ كل ما نهى الله عنه فهو على خلاف نظام خلق الإنسان وتكامل وجوده حتماً، فارتكاب ما نهى الله عنه يدمر نظام حياة الإنسان، لذا فهو أساس الفساد في الأرض! حتى مسألة الإستعلاء - بنفسها - هي أيضاً واحدة من مصاديق الفساد في الارض، إلاّ أن أهميته القصوى دعت إلى أن يذكر بالخصوص من بين جميع المصاديق للفساد في الأرض!.
وقد رأينا في قصّة "قارون" وشرح حاله أنّ السبب الاساس في شقوته وهلاكه هو العلوّ و"الإستكبار".
ونجد في الرّوايات الإسلامية اهتماماً بهذه المسألة حتى أنّنا نقرأ حديثا عن الإمام أمير المؤمنين على(ع) يقول: "إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها" (1).
(وهذا أيضاً فرع صغير من الاستعلاء).
ومن الطريف أنّ صاحب "تفسير الكشاف" يعلق بعد ذكر هذا الحديث فيقول: بعض الطامعين ينسبون "العلوّ" في الآية محل البحث لفرعون بمقتضى قوله: (إنّ فرعون علا في الأرض)، (2) والفساد لقارون بمقتضى قوله: (تبغ الفساد في الأرض)، (3) ويدعون بأن من لم يكن كمثل فرعون وقارون فهو من أهل الجنّة والدار الآخرة، وعلى هذا فهم يبعدون فرعون وقارون وأمثالهما من الجنّة فحسب، ويرون الباقين من أهل الجنّة، إلاّ أنّهم لم يلاحظوا ذيل الآية (والعاقبة للمتقين) بدقة - كما لاحظها الإمام علي(ع)(4).
وما ينبغى إضافته على هذا الكلام هو أن هؤلاء الجماعة اخطاؤا حتى في معرفة قارون وفرعون.. لأنّ فرعون كان عالياً في الأرض وكان من المفسدين (إنّه كان من المفسدين)، (5) وقارون أيضاً كان مفسداً وكان عالياً بمقتضى قوله: (فخرج على قومه في زينته).(6)
ونقرأ في حديث آخر عن الإمام أميرالمؤمنين(ع) أنّه كان يسير في الأسواق أيام خلافته الظاهرية، فيرشد التائهين إلى الطريق ويساعد الضعفاء، وكان يمرّ على الباعة والكسبة ويتلوا الآية الكريمة (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً).
ثمّ يضيف سلام الله عليه: "نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من الناس" (7).
ومعنى هذا الكلام، أنّه كما لم يجعل الخلافة والحكومة وسيلة للاستعلاء، فلا ينبغي أن تجعلوا أموالكم وقدرتكم وسيلة للتسلط على الآخرين، فأنّ العاقبة لأولئك الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً وكما يقول القرآن في نهاية الآية (والعاقبة للمتقين).
و"العاقبة" بمفهومها الواسع هي النتيجة الصالحة، وهي الانتصار في هذه الدنيا، والجنّة ونعيمها في الدار الأخرى... وقد رأينا أنّ قارون وأتباعه إلى أين وصلوا وأيّة عاقبة تحمّلوا! مع أنّهم كانوا مقتدرين ولكن حيث كانوا غير متقين فقد ابتلوا بأسوأ العاقبة والمصير!.
ونختم كلامنا في شأن هذه الآية بحديث للإمام الصادق(ع) وهو أنّ الإمام الصادق حين تلا هذه الآية أجهش بالبكاء وقال: "ذهبت والله الأماني عند هذه الآية".(8)
وبعد ذكر هذه الحقيقة الواقعية، وهي أن الدار الآخرة ليست لمن يحب السلطة والمستكبرين، بل هي للمتقين المتواضعين وطلبة الحق، تأتي الآية الثّانية لتبيّن قانوناً كلياً وهو مزيج بين العدالة والتفضل، ولتذكر ثواب الإحسان فتقول: (من جاء بالحسنة فله خير منها).
وهذه هي مرحلة التفضل، أي أنّ الله سبحانه لا يحاسب الناس كما يحاسب الإنسان نظيره بعين ضيّقة، فإذا أراد الإنسان أن يعطي أجر صاحبه فإنّه يسعى أن يعطيه بمقدار عمله، إلاّ أنّ الله قد يضاعف الحسنة بعشر أمثالها وقد يضاعفها بمئات الأمثال وربّما بالآلاف، إلاّ أن أقلّ ما يتفضل الله به على العبد أن يجازيه عشرة أضعاف حسناته، حيث يقول القرآن في الآية (160) من سورة الأنعام: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها).
أمّا الحدّ الأكثر من ثواب الله وجزائه فلا يعلمه إلاّ الله، وقد جاءت الإشارة إلى جانب منه - وهو الإنفاق في سبيل الله - في الآية 261 من سورة البقرة... إذ يقول سبحانه في هذا الصدد...(مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبّة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم).
وبالطبع فإنّ مضاعفة الأجر والثواب ليس أمراً اعتباطياً، بل له إرتباط وثيق بنقاء العمل وميزان الإخلاص وحسن النيّة وصفاء القلب، فهذه هي مرحلة التفضل الإلهي في شأن المحسنين.
ثمّ يعقّب القرآن ليذكر جزاء المسيئين فيقول: (ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلاّ ما كانوا يعملون).
وهذه هي مرحلة العدل الإلهي، لأنّ المسيء لا يجازى إلاّ بقدر إساءته، ولا تضاف على إساءته أية عقوبة!.
الطريف هنا عند ذكر جزاء السيئة أن القرآن يعبر عن الجزاء بالعمل نفسه (إلاّ ما كانوا يعملون) أي إن أعمالهم التي هي طبقاً لقانون بقاء الموجودات فيعالم الوجود، تبقى ولا تتغير، وتبرز في يوم القيامة متجسمة دون خفاء، فهو (يوم البروز) في شكل يناسب العمل، وهذا الجزاء يرافق المسيئين ويعذبهم!.
ملاحظات
1 - لِمَ تكرر ذكر "السيئة" في هذه الآية مرتين؟
من المحتمل أن يكون ذكر السيئة مرتين في الآية، لأَن الله يريد أن يؤكّد على هذه المسألة، وهي أن السيئة لا جزاء لها إلاّ نفسها.
2 - هل تشمل الحسنة الإيمان والتوحيد؟
فإذا كان كذلك فما معنى هذه الجملة (من جاء بالحسنة فله خير منها)؟! وهل هناك خير من الإيمان والتوحيد؟!
وفي الإجابة على هذا السؤال نقول - بدون شك و ترددّ - إن للحسنة معنى واسعاً فهي تشمل المناهج الإعتقادية والأقوال والأعمال الخارجية، وما هو أفضل من الاعتقاد بتوحيد الله فهو رضا الله سبحانه الذي يكون ثواباً للمحسنين، فنحن نقرأ في الآية (72) من سورة التوبة قوله تعالى: (ورضوان من الله أكبر)!
3 - لم عبّر القرآن عن الحسنة بصيغة الإفراد، وعن السيئات بصيغة الجمع؟!
يعتقد بعض المفسّرين أنّ هذا التعبير عائد إلى كثرة المسيئين وقلة المحسنين(9).
كما ويحتمل أيضاً أن الحسنات تتلخص في حقيقة التوحيد، وأنّ جميع الحسنات تعود إلى "جذر" واحد وهو توحيد الله، في حين أن السيئات ترجع إلى الشرك الذي هو مصداق التشتت والتعدد والكثرة.
1- وسائل الشيعة، ج 12، ص 17، الحديث 5 من الباب 16 من أبواب مقدمات التجارة.
2- "وسائيل الشيعة، ج 12، ص 19 الحديث الثّالث الباب السابع من أبواب مقدمات التجارة.
3- وسائل الشيعه، ج 12، ص 17، الحديث السابع الباب السادس من أبواب مقدمات التجارة.
4- تفسير جوامع الجامع، ذيل الآية محل البحث.
5- سورة القصص، الآية 4.
6- سورة القصص، الآية 77.
7- تفسير الفخر الرازي، ذيل الآية محل البحث.
8- سورة القصص، الآية 4.
9- سورة القصص، الآية 79.