الآيات 65 - 70
﴿وَيُوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَت عَلَيْهِمُ الا، نبَآءُ يَوْمَئِذ فَهُم لاَ يَتَسَآءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـلحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَـنَ اللهِ وَتَعَـلَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69)وَهُوَ اللهِ لاَ إِلـهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِى الاُْولَى وَالاْخِرَةِ وَلَهُ الْحكمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)﴾
التّفسير
تعقبُ الآيات محل البحث، على ما كان في الآيات السابقة في شأن المشركين وما يسألون يوم القيامة.
فبعد أن يُسألوا عن شركائهم ومعبوديهم، يسألون عن مواقفهم وما أبدوه من عمل إزاء أنبيائهم (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين).
ومن المسلم به أنّ هؤلاء "المشركين" لا يملكون جواباً لهذا السؤال، كما لم يملكوا للسؤال السابق جواباً.
تُرى: أيقولون بأنّنا لبيّنا دعوة المرسلين؟ فهذا كذب محض! والكاذب خاسر في ذلك اليوم، أم يقولون بأنّنا كذّبناهم، واتهمناهم، وقلنا لهم بأنّكم سحرة ومجانين وحاربناهم وقتلناهم مع اتباعهم؟...
ما عسى أن يقولوا هناك؟! فكلّ ما يقولون كاشف عن فضيحتهم وشقائهم!.
حتى أَنّ الانبياء والمرسلين في ذلك اليوم يجيبون ربّهم حين يسألون (ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنّك أنت علاّم الغيوب).(1)
ما الذي يقوله في ذلك اليوم وفي ذلك المكان عمي القلوب من المشركين؟!
لذلك يكشف القرآن عن حالهم هناك فيقول: (فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون) أي يسأل بعضهم بعضاً ولا يعرفون جواباً!.
والذي يستلفت النظر أن العمى نسب في الآية للأنباء لا للمشركين فلا يقول عمي المشركون هناك بل يقول: "عميت عليهم الأنباء".. لأنّه كثيراً ما يحدث أن يكون الإنسان غير عالم بالخبر، لكنّه يصله بانتشاره على أفواه الناس، كما يتفق لنا أن نكون جاهلين بالشيء أحياناً فنعرف به حين ينتشر بين المجتمع، لكن في يوم القيامة، لا الناس مطّلعون، ولا الأخبار تنتشر!.
فعلى هذا تعمى الأخبار، فلا يملكون جواباً هناك على قوله تعالى: (ماذا أجبتم المرسلين) فيحيط بهم الصمت من قرنهم إلى أقدامهم.
وحيث أنّ اُسلوب القرآن هو ترك الأبواب مفتوحة بوجه الكافرين والآثمين دائماً، لعلهم يتوبون ويرجعون إلى الحق في أي مرحلة كانوا من الإثم، فإنّه يضيف في الآية التي بعدها: (فأمّا من تاب وآمن وعمل صالحاً فعسى أن يكون من المفلحين).
فسبيل النجاة - حسب ما يوضحه القرآن - يتلخّص في ثلاث جمل هي العودة والتوبة إلى الله، والإيمان، والعمل الصالح، وعاقبتهما النجاة والفلاح حتماً.
والتعبير بعسى "من أفعال الرجاء" مع أن الذي آمن وعمل صالحاً فهو من أهل الفلاح حتماً - ربّما كان لأنّ الإيمان والعمل الصالح مشروطان بالبقاء والدوام عليهما، وحيث أن التائبين لا يبقى جميعهم على التوبة، بل قد يعود بعضهم لعمله السابق، عبر القرآن بقول: (فعسى).. ألخ.
قال بعض المفسّرين: التعبير بـ"عسى" حين يكون من شخص كريم، فإنّه يدل على المفهوم القطعي، والله سبحانه أكرم الأكرمين.
والآية التي بعدها في الحقيقة دليل على نفي الشرك وبطلان عقيدة المشركين، إذ تقول: (وربّك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة)(2).
فالخلق بيده، والتدبير والإختيار بيده أيضاً، وهو ذو الإرادة، وليس لأحد سواه أن يفعل ما يشاء، فكيف بالأصنام؟!
فاختيار الخلق بيده، والشفاعة بيده، وإرسال الرسل بيده أيضاً.
والخلاصة أنّ اختيار كل شيء متعلق بمشيئته وإرادته المقدسة، فعلى هذا لا يمكن للأصنام أن تعمل شيئاً، ولا حتى الملائكة والأنبياء، إلاّ أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى!
وعلى كل حال فإطلاق الإختيار دليل على عموميته.. بمعنى أن الله سبحانه صاحب الإختيار في الأُمور التكوينية والأُمور التشريعية أيضاً.. فجميعها يتعلقان به.
فمع هذه الحال، كيف يسلك هؤلاء طريق الشرك ويتجهون نحو غير الله؟ لذلك فإنّ الآية تنزه الله عن الشرك وتقول: (سبحان الله وتعالى عمّا يشركون).
وفي الرّوايات الواردة عن أهل البيت(ع) فُسرت الآية المتقدمة باختيار الأئمّة المعصومين من قبل الله سبحانه - وجملة (وما كان لهم الخيرة) أيضاً وردت في هذا المعنى، وهي في الواقع من قبيل بيان المصداق الواضح، لأنّ
مسألة حفظ الدين والمذهب واختيار القائد المعصوم لأجل هذا الهدف، لا تكون إلاّ من قِبَل الله تعالى(3).
أمّا الآية التي بعدها فتتحدث عن علم الله الواسع، وهي في الحقيقة تأكيد أو دليل على الإختيار الواسع في الآية السابقة، إذ تقول هذه الآية: (وربّك يعلم ما تكنّ صدورهم وما يعلنون).
فإحاطته بكل شيء دليل على اختياره لكل شيء، كما هي - ضمناً - تهديد للمشركين، لئلا يظنوا أن الله غير مطلع على سرائرهم ونيّاتهم و"مؤامراتهم".
والآية الأخيرة من هذا المقطع - هي نتيجة الحكم، وتوضيح للآيات السابقة في مجال نفي الشرك، وهي ذات أربعة أوصاف من أوصاف الله، وجميعها فرع على خالقيته واختياره.
فالأول: أنّه (هو الله لا إله إلاّ هو).
فكيف يمكن أن يكون معبود آخر سواه، وهو الخالق وحده وجميع الإختيارات بأمره وبيده.
فمن يتوسل بالأصنام لتشفع له عند الله فهو من المضلين الخاطئين.
والثّاني: أن جميع النعم دنيويةً كانت أم أُخروية هي منه، وهي من لوازم خالقيته المطلقة، لذلك يقول القرآن في هذا الصدد (له الحمد في الأُولى وفي الآخرة).
الثّالث: أنّه (وله الحكم) فهو الحاكم في هذا العالم، وفي العالم الآخر.
والرّابع: (وإليه ترجعون) للحساب والثواب والعقاب.
فالله الخالق، وهو المطّلع، وهو الحاكم يوم الجزاء، وبيده الحساب والثواب والعقاب.
1- ويحتمل في الآية الآنفة - أيضاً - أَنّ القائلين جواباً على سؤال الله هم رؤوساء المشركين "أي جماعة من عبدة الأصنام" فهم من أجل أن يفروا عن الجواب يتحدثون عن أتباعهم، ويقولون: ربّنا إنّنا غوينا فمضينا في طريق الشرك، وهؤلاء اتبعونا طوعاً فأغويناهم، ولكنّهم لم يطيعونا "العبادة في الآية الآنفة معناها الطاعة" وإنّما اطاعوا هواهم، ولكن التّفسير السابق أظهر.
2- التعبير بـ "شركاءكم" مع أن هؤلاء الشركاء كانوا قد جعلوا شركاء الله سبحانه، هو اءشارة إلى أنّ هؤلاء الشركاء من صنعكم وهم متعلقون بكم لا بالله...
3- بحث المفسّرون في الآية (لو أنّهم كانوا يهتدون) بحوثاً شتى، فكثير منهم قالوا بأن "لو" حرف شرط هنا، فبحثوا عن الجزاء، فقالوا: يستفاد من جملة (رأوا العذاب) وتقدير الجملة يكون هكذا: "لو أنّهم كانوا يهتدون لرأوا العذاب في الدنيا بعين اليقين".
وهذا يشبه قوله تعالى (لترون الحجيم) في سورة التكاثر الآية السادسة.
كما يرى البعض أن التقدير هكذا (لو أنّهم كانوا يهتدون في الدنيا لما رأوا العذاب في الآخرة).
وزعم بعضهم أن الجزاء غير ما تقدم "يطول بها البحث هنا".
لكنّ بعضهم يعتقد أن جواب الشرط "الجزاء" غير محذوف أساساً، وجملة (ورأوا العذاب) هي الجواب المتقدم، وما بعده جملة الشرط، فيكون المعنى هكذا: (لو كانوا يرون ويهتدون لرأوا العذاب لكنّهم لم يهتدوا)!...
لكن وراء كل هذه المعاني معنى آخر ذكرناه في بيان الآية آنفاً، وهو أن نفسر معنى لو بـ "تمنّوا، فلا بأس بمراجعة الكتب اللغوية والأدبية "كمغني اللبيب" وغيره!.